البالغون الفتح في كربلاء 89

كثيرا ألفى رجل من كلب يقال له عبدألأعلى بن يزيد ، قد لبس سلاحه يريد إبن عقيل في بني فتيان . فأخذه حتى أدخله على إبن زياد فأخبره خبره ، فقال لإبن زياد إنما أردتك ، قال : وكنت وعدتني ذلك من نفسك ، فأمر به فحبس (1).
قوة إبن ألأشعث :


بعدما علم مسلم أن مجموعات إبن زياد أخذت تخذل الناس عنه بقيادة كثير بن شهاب ، ومحمد بن ألأشعث وآخرين وأخذت هذه المجاميع تقطع الطرق على المجاهدين المناصرين له والمقبلين إليه من ضواحي الكوفة وأن هناك حملة مداهمات وإعتقالات كبرى أرسل مسلم قوة عسكرية بقيادة عمارة بن صلخب ألأزدي .
قال أبو مخنف : وخرج محمد بن ألأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة وجاءه عمارة بن صلخب ألأزدي وهو يريد إبن عقيل وعليه سلاحه ، فأخذ فبعث به إلى إبن زياد فحبسه ، فبعث إبن عقيل إلى محمد إبن ألأشعث من المسجد عبدألرحمن بن شريح الشبامي ، فلما رأى محمد بن ألأشعث كثرة ما أتاه ، أخذ يتنحى ويتأخر ، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمد بن ألأشعث : قد جلت على إبن عقيل من العرار ، فتأخر عن موقفه ، فأقبل حتى دخل على إبن زياد من قبل دار الروميين ، فلما إجتمع عند عبيدألله كثير بن شهاب ومحمد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم ، قال له كثير ـ وكانوا مناصحين لإبن زياد : أصلح ألله ألأمير ! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك ، فأخرج بنا إليهم ، فأبى عبيدألله ، وعقد

(1) المصدر السابق : ج4 ص 575 .
البالغون الفتح في كربلاء 90

لشبث بن ربعي لواء فأخرجه . ثم لا يذكر التاريخ ماذا صنع لواء شبث بن ربعي ! لكن بعض المتون التاريخية تشير إلى وقوع قتال شديد ، فرواية إبن أعثم الكوفي تقول : (وركب أصحاب عبيدألله ، وإختلط القوم ، فقاتلوا قتالا شديدا ، وعبيدألله بن زياد (لع) وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة الناس) .
وأما إبن نما رحمه ألله فيروي خبرا خاصا في محتواه ، حيث ذكر أن أكثر ألأشراف الذين كانوا قد بايعوا مسلما رضوان ألله عليه قد نقضوا البيعة وتخلوا عنه قبل أن يتوجه إلى محاربة عبيدألله بن زياد (لع) ، ويستفاد من روايته أن القتال الشديد بين الطرفين قد إستمر إلى الليل ، يقول رحمه الله : (ولما بلغ مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه) خبره خرج بجماعة ممن بايعه إلى حرب عبيدألله بعد أن رأى (1) أكثر من بايعه من ألأشراف نقضوا البيعة ، وهم مع عبيدألله ، فتحصن بدار ألإمارة ، وإقتتلوا قتالا شديدا إلى أن جاء الليل) .

إنقلاب الكوفة :


وقف إبن زياد على نبض الكوفة وعرف كيف يستدرج أهلها فبادر إلى إرشاء الوجوه والزعماء فبذل لهم المال بسخاء فإستمال ودهم وإستولى على قلوبهم فصارت ألسنتهم تكيل له المدح والثناء وكانوا ساعده القوي في تشتيت شمل الناس وتفريق جموعهم عن مسلم رضوان الله عليه قد إستعبدهم إبن مرجانة بما بذله من ألأموال فأخلصوا له ومنحوه النصيحة وخانوا بعهودهم ومواثيقهم التي أعطوها لمسلم وقد أخبر بعض أهل الكوفة ألإمام الحسين عليه السلام عن هذه الظاهرة حينما إلتقى به في أثناء الطريق فقال له أما أشراف الناس فقد عظمت رشوتهم وملئت غرائرهم يستمال ودهم ويستخلص به نصيحتهم وأما سائر الناس فإن افئدتهم تهوي

(1) الدينوري : ألأخبار الطوال ص 238 ـ 239 .
البالغون الفتح في كربلاء 91

إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك لقد تناسى الكوفيون كتبهم التي أرسلوها للإمام الحسين عليه السلام وبيعتهم له على يد سفيره من أجل ألأموال التي أغدقتها عليهم السطة يقول بعض الكتاب أن الجماعات التي أقامها النكير على بني أمية وراسلت الحسين وأكدت له إخلاصها وذرفت أمام مسلم رضوان ألله عليه أعز دموعها هي الجماعات التي إبتعاها عبيدألله بن زياد (لع) بالدرهم والدينار .
قال أبو مخنف (1): فبعث عبيدألله إلى ألأشراف فجمعهم إليه ثم قال اشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم وصول الجنود من الشام إليهم قال أبو مخنف حدثني سليمان بن ابي راشد عن عبدألله بن حازم الكثيري من ألأزد من بني كثير قال أشرف علينا ألأشراف فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب فقال أيها الناس إلحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى ألله ألأمير عهدا لئن اقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها ، وتكلم ألأشراف بنحو من كلام هذا ، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون .
قال أبو مخنف : فحدثني المجالد بن سعيد ، أن المرأة كانت تأتي إبنها أو أخاها فتقول إنصرف الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى إبنه أو أخيه فيقول : غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر ! إنصرف

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 576 .
البالغون الفتح في كربلاء 92

فيذهب به فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى إبن عقيل وما معه ثلاثون نفسا في المسجد(1).

لماذا ألإنهيار :


هذا ألإنهيار والتداعي السريع الذي هدم كيان التكتل الكبير الذي كان قد إلتف حول مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه كاشف تماما عن أن جماهير هذا التكتل لم تستكمل ألإعداد الروحي لمثل هذه المواجهة ولما بعدها من مسؤوليات وتبعات ألإعداد الروحي الذي يستنقذها من مرض الوهن وهو حب الدنيا وكراهية الموت وحب السلامة والعافية والرضا بالذلة والشلل النفسي الذي يتجلى في السكوت عن الباطل بل وفي إطاعة الباطل مع المعرفة بأنه باطل ومقارعة الحق مع المعرفة بأنه الحق (2). وهذا لا يعني أن الكوفة قد عدمت ألأخيار ألأبرار من أهاليها بل أن في الكوفة من رجالات المبدأ والعقيدة والجهاد جماعة مثلوا المستوى الرفيع في الشخصية ألإسلامية التي جسدت النهج القرآني في سيرتها وسلوكها لكن هؤلاء كانوا القلة العزيزة النادرة في مجموع أهل الكوفة ويكفي دليلا على ذلك قياس مجموع من نصر ألإمام الحسين عليه السلام منهم إلى مجموع من نكل عنه ونقض بيعته واطاع أعداءه في قتاله وقتله .

لماذا لم تتم مداهمة القصر !؟ :


حاصر مسلم رضوان ألله عليه القصر بجموع أكثريتها لم تستكمل ألإعداد الكافي ، فهي من حيث الناحية الروحية لم يزل الشلل النفسي والوهن الروحي يحبب لهم الدنيا والعافية والسلامة وكراهية الموت ـ إنهم

(1) المصدر السابق .
(2) محمد جواد الطبسي : المجموعة الموضوعية ج3 ص138 .
البالغون الفتح في كربلاء 93

يتمنون لو إنتصر مسلم أو ألإمام عليه السلام ولكن بلا مؤونة على أنفسهم في ذلك ! ـ ولم يزل إسم (جيش الشام) يثير فيهم أقصى درجات الرعب وألإحساس بالهوان والمذلة ومن الناحية العملية فإن إرتباطهم القبلي لم يزل ـ عند ألأكثرية منهم ـ أقوى من ألإرتباط الديني وهذا أخطر ما يمكن أن يضر بالحركة الدينية الثورية آنذاك ، وربما إلى اليوم في بعض بلدان العالم الإسلامي هذا فضلا عن عدم إستكمال تحضير العدة الكافية من اسلحة وتدريب ووسائل واساليب ألإرتباط وألإمداد وما إلى ذلك !
أضف إلى ذلك ، الظاهر مما توحيه بعض المتون التأريخية أن مسلما رضوان ألله عليه حاصر القصر بعدد من مبايعيه (اربعة آلاف) يشكل اقل من ثلث العدد الشهير لمجموع مبايعيه (ثمانية عشر ألفا ) ويبدو أن بقية هذا المجموع ـ الذين لم يشتركوا في بدء محاصرة القصر ـ كانوا مبثوثين في داخل مدينة الكوفة وفي أطرافها وضواحيها والظاهر أن مسلما رضوان الله عليه قد ارسل إليهم من يخبرهم بقراره ألإستثنائي ويستنفرهم للإلتحاق به ، ويبدو أن من كان منهم في داخل الكوفة قد إستطاع ألإلتحاق بمسلم رضوان ألله عليه قبل المساء بدليل قول القائد عباس الجدلي أيضا : (..ثم أن الناس تداعوا إلينا وإجتمعوا فوألله ما لبثنا إلا قليلا حتى إمتلأ المسجد من الناس والسوق وما زالوا يثوبون المساء ..)(1).
كما أرسل مسلم رضوان ألله عليه إلى قواته الموجودة في أطراف الكوفة ، لكنها في الظاهر لم تستطع الوصول إلى داخل الكوفة إلا بعد تفرق الناس وإنتهاء الحصار وإنقلاب الوضع ، مثل اللواء الذي جاء به المختار ، واللواء الذي جاء به عبدالله بن الحارث بن نوفل ، حيث وصلا إلى داخل الكوفة بعد فوات ألأمر ، فإضطر المختار إلى أن يدعي أنه جاء لحماية عمرو بن حريث بعد أن وضح لهما قتل مسلم رضوان الله عليه وهانئ رضوان ألله عليه .

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 94

حبس المختار :


قال السيد المقرم : (وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تدعى (خطوانية) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء ويحمل عبدالله بن الحارث راية حمراء وركز المختار رايته على باب عمرو بن حريث(1)وقال : اردت ان أمنع عمرا ووضح لهما قتل مسلم وهانئ وأشير عليهما بالدخول تحت راية ألأمان عند عمرو بن حريث ففعلا وشهد لهما إبن حريث بإجتنابهما إبن عقيل ، فأمر إبن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار وإستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين عليه السلام .

إستدلال


ومن هنا أن مسلما رضوان الله عليه بقي مدة طويلة من ذلك النهار يستجمع قواته وينتظر وصول ما لم يصل منها للقيام بعمل عسكري حاسم يؤدي إلى فتح القصر أمام الثوار والسيطرة على من فيه . هناك إشارات تاريخية تفيد أن عبيدألله كانت قد تزايدت قواته القتالية طيلة نهار ذلك اليوم ـ يوم حصار القصر ـ حتى صار بإمكانها أن تؤخر عملية إقتحام الثوار للقصر حتى المساء .
هذا فضلا عن أن (من المعلوم إن إخضاع القصر بمن فيه لا يتم خلال ساعة من الحصار ، كما أن وقت النهار يكاد ينتهي والهجوم على القصر الضخم البناء الذي أوصد إبن زياد أبوابه الكبيرة بشكل محكم لا يسفر عن نتيجة نافعة ، أنه كالهجوم على الصخر ـ كان القصر مشيدا بمتانة بالغة ، تحكي ذلك أنقاضه الموجودة لحد ألآن ، رغم مرور أكثر من ألف

(1) المقتل ص 157 .
البالغون الفتح في كربلاء 95

وثلاثمائة وخمسين عاما على تشييده ويكفي أن نتصور كون جدار القصر والسعة بحيث تتمكن الشاحنات من السير فوقه ـ فلابد إذن والحالة من المحاصرة المستمرة التي قد تطول أياما حتى يستسلم من فيه مثلا ، أو يسلموا هانئ على أقل تقدير) .
لا يتردد المتأمل في المتون التاريخية التي تتحدث عن نشوب القتال بين الطرفين في القطع بأن الثوار بقيادة مسلم رضوان ألله عليه كانوا قد نفذوا خطتهم لإقتحام القصر ، وإنهم قاتلوا قتالا مستميتا حتى المساء ، ومن هذه المتون التي تشير إلى ذلك قول إبن أعثم الكوفي : (وركب أصحاب عبيدألله ، وإختلط القوم ، فقاتلوا قتالا شديدا ..) وقول إن طاوُس رحمه ألله : (وإقتتل أصحابه وأصحاب مسلم)(1)وقول إبن نما رحمه ألله : (وإقتتلوا قتالا شديدا إلى أن جاء الليل) .

صفة أهل العراق


نقل الدكتور لبيب بيضون قولا للسيد أمير علي ذكره في كتابه مختصر تاريخ العرب ص 72 قال كان أهل العراق والكوفة ، أنصار علي والحسن والحسين عليهم السلام وهم وإن كانوا متحلين بالحماسة وشدة البأس إلا أنهم قوم قلب يعوزهم الثبات والحزم فبينما تراهم يوما شديدي الحماسة لعقيدة يدينون بها أو متفانين في ألإخلاص لشخص يعضدونه إذ بهم في اليوم التالي قد أعرضوا عن العقيدة التي آمنوا بها وخذولا الشخص الذي أجمعوا على نصرته بألأمس ولقد قرحوا قلب ألإمام علي عليه السلام ثم خذلوا ألإمام الحسن عليه السلام ثم قتلوا ألإمام الحسين عليه السلام (2).

(1) الملهوف على قتلى الطفوف ص 119 .
(2) موسوعة كربلاء : ج1 ص 484 .
البالغون الفتح في كربلاء 96

مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه وحده :


بعد أن كان الناس مع مسلم رضوان ألله عليه يكبرون ويثوبون حتى المساء وأمرهم شديد فإذا بهم إنقلبوا عليه .
قال الطبري صلى مسلم رضوان ألله عليه المغرب فما صلى معه إلا ثلاثون نفسا فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة وبلغ ألأبواب ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان وإلتفت وإذا هو لا يحس أحداً يدله على الطريق ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو فمضى على وجهه متحيرا في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة فمشى حتى إنتهى إلى باب إمرأة يقال لها طوعة (1).
وللشيخ العلامة عبدالواحد المظفر هذه ألأبيات :
إن السفير سفير آل محمد غدروا به جهرا بغير تحاشي
نقضوا العهود وأسلموه لحتفه غدرا وتلك سجية ألأوباش
لم يبق منهم من يرافق مسلما ليدله جنح الظلام الغاشي
قبحا لقوم رأيهم متناقض جدعا لقوم عزمهم متلاشي
قد سار مسلم في ألأزقة وحده ماش على قدميه نعم الماشي
حتى تراءت دار طوعة أمها يسقي التراب بمدمع رشاش(2)

رأي وتحليل :


للشيخ محمد جواد الطبسي رأي عن كيفية من بقي معه من أنصاره حتى المساء نقله إلينا في ج3 ص 140 من المجموعة الموضوعية قال :

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص577 .
(2) عبدالواحد المظفر : سفير الحسين عليه السلام ص 88 .
البالغون الفتح في كربلاء 97

إن المتون التاريخية التي روت لنا كيف أمسى مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه وما معه إلا قليل ممن كان معه ثلاثون راجل ـ وعشرة فرسان على رواية الفتوح ثم تناقصوا إلى عشرة على رواية المفيد والطبري ثم كيف مضى وحده حتى وقف على باب المرأة الصالحة طوعة . وقد أشارت رواية الفتوح أن مسلما رضوان ألله عليه كان قد أثخن بالجراحات ألأمر الذي يدل على أنه رضوان ألله عليه خاض المعارك التي دارت حول القصر بنفسه ولم يكن قائدا موجها مرشدا فحسب وهذا فضلا عن كونه دليلا على شجاعته رضوان ألله عليه فهو دليل أيضا على نشوب القتال حول القصر وعلى أن الثوار كانوا قد حاولوا إقتحامه بالفعل . لكن الذي يثير التأمل في هذه المتون هو طريقتها في عرض كيفية تفرق هؤلاء الرجال القلة الذين كانوا آخر الناس معه .
ففي نص الفتوح : (وتفرق عنه العشرة فلما رأى ذلك إستوى على فرسه ومضى ..)
وفي نص المفيد والطبري (فما بلغ ألأبواب ما معه إلا عشرة منهم ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدله فإلتفت فإذا هو لا يحس أحدا) هذه الطريقة في عرض الحديث تلقي في روع المطالع أن هؤلاء ليس بينهم وبين جموع الناس الذين إنفضوا بسرعة عن مسلم رضوان ألله عليه إلا فرق واحد وهو الفارق الزمني في ألإنفضاض عنه ليس إلا ! بل تشعر هذه الطريقة بأن هؤلاء القلة اسوأ بكثير من أولئك الذين إنفضوا عنه بسرعة وذلك لأن هؤلاء تفرقوا في الختام عنه وهو أحوج ما يكون إليهم كما تفرقوا عن خفية في غفلة منه هذا ما يشعر به التعبير فإلتفت فإذا هو لا يحس أحدا . وهذا ما لا يقبل به اللبيب المتدبر كما أنه لا يرافق طبيعة ألأشياء وواقعها إذ لنا أن نتساءل ما الذي أبقى هؤلاء إلى ألأخير مع مسلم رضوان ألله عليه ؟ أهو الطمع ؟ وبماذا يطمع هؤلاء مع

البالغون الفتح في كربلاء 98

قائد قد إنفض عنه أنصاره وبقي وحيدا غريبا لا يدري أين يذهب وإلى أين يأوي ؟ أم هو الخوف من عار ألإنصراف عنه بعد مبايعته لا شجاعة منهم ولا ثباتا ؟
أفلا يعني هذا في مثل هذا الحد ألأدنى إن هؤلاء ممن يرعى القيم وألأخلاق ويتجافى عن كل ما يعود عليه بالذم وهل يحتمل من مثل هؤلاء مع مثل هذا الحفاظ وألأخلاقية أن يتفرقوا في بلدهم خفية وفي لحظة غفلة من صاحبهم الوحيد الغريب في أرضهم ؟ أم أن الذي أبقى هؤلاء القلة مع مسلم رضوان الله عليه إلى آخر ألأمر هو الشجاعة وألإيمان والثبات على البيعة ؟ وأنهم كانوا من صفوة المجاهدين في حركة الثوار تحت راية مسلم رضوان ألله عليه ومن صناديد أهل الكوفة ؟ وهذا هو الحق إذا لا يشك ذو دراية وتأمل أن قادة ألألوية ألأربعة : مسلم بن عوسجة رضوان ألله عليه وابا ثمامة الصائدي رضوان ألله عليه وعبدالله بن عزيز الكندي رضوان ألله عليه وعباس بن جعدة الجدلي رضوان الله عليه ، وأمثالهم من مثل عبدألله بن حازم البكري رضوان ألله عليه ونظرائه كانوا من القلة التي بقيت مع مسلم رضوان ألله عليه إلى آخر ألأمر ذلك لأن من الممتنع على أخلاقية أمثال إبن عوسجة رضوان ألله عليه والصائدي رضوان ألله عليه وإخوانهم أن يتخلوا عن مسلم رضوان ألله عليه خصوصا في ساعة العسرة أن هؤلاء الصفوة من المجاهدين كانوا ممن إشتهر بألإيمان وألأخلاق والشجاعة والثبات وقد وفقوا للشهادة في سبيل ألله فهذا مسلم بن عوسجة رضوان الله عليه وهذا ابو ثمامة الصائدي رضوان ألله عليه قد وفقا للفوز بالشهادة بين يدي ألإمام الحسين عليه السلام في كربلاء وهذا العباس بن جعدة الجدلي رضوان الله عليه قتله إبن زياد بعد سجن ، وهذا عبدألله ، أو عبيدألله بن عمرو بن عزيز الكندي رضوان ألله عليه قتله إبن زياد بعد سجن وهذا عبدألله بن حازم البكري رضوان ألله عليه المنادي بكلمة السر : يا منصور أمت ممن شارك بثورة التوابين وقتل فيها مما يوحي أنه إختفى أو سجن في أعقاب احداث

البالغون الفتح في كربلاء 99

الكوفة أيام مسلم رضوان ألله عليه وقس على ذلك نظرائهم من صفوة المجاهدين في حركة الثوار تحت راية مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أفهل يعقل أن يتخلى أمثال هؤلاء عن مسلم رضوان ألله عليه ساعة العسرة ويتفرقون عنه في لحظة غفلة منه ويتركونه في الطريق وحيدا غريبا ؟
إن التاريخ لا يسجل الهمس وألأسرار وأن ما يطمئن إليه المتتبع والمتأمل هو أن مسلما رضوان ألله عليه إتفق مع هذه الصفوة على التفرق فرادى وألإختفاء تربصا بسنوح الفرصة للإلتحاق بركب ألإمام الحسين عليه السلام القادم إلى العراق لمواصلة الجهاد بين يديه ، فلم يكن تفرقهم عن مسلم رضوان ألله عليه إلا بأمره وإذنه وعن إمتثال لأمره ! هذا ما يفرضه التصور السليم والتحليل الصحيح على أساس منطق الواقع وطبيعة ألأشياء .

في دار طوعة :


قال الشيخ المفيد : طوعة أم ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس فأمه قائمة تنتظره ، فسلم عليها إبن عقيل فردت عليه السلام .
فقال لها : يا أمة ألله اسقيني ماء فسقته وجلس وأدخلت ألإناء ثم خرجت فقالت : يا عبدألله ألم تشرب ؟ قال : بلى : قالت : فإذهب إلى أهلك فسكت ثم أعادت مثل ذلك فسكت ثم قالت له في الثالثة : سبحان ألله ! يا عبدألله قم عافاك ألله إلى أهلك فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك .
فقام وقال : يا امة ألله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة فهل لك في أجر ومعروف لعلي مكافئك بعد اليوم فقالت : يا عبدألله وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه كذبني هؤلاء القوم وغروني وأخرجوني قالت : أنت مسلم ؟ قال : نعم قالت : أدخل فدخل بيتا في دارها غير البيت

البالغون الفتح في كربلاء 100

الذي تكون فيه وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعش(1).
ولم يكن بأسرع إن جاء إبنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فقال لها : وألله أنه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ ألليلة وخروجك منه إن لك لشأنا : قالت : يا بني إله عن هذا قال : وألله لتخبرينني قال : اقبل من الناس بشيء مما أخبرك به قال : نعم ، فأخذت عليه ألأيمان فحلف لها فأخبرته فإضطجع وسكت ! وزعموا أنه قد كان شريدا من الناس ، وقال بعضهم كان يشرب مع اصحاب له .
ولما تفرق الناس عن مسلم بن عقيل رضوان الله عليه طال على إبن زياد وجعل لا يسمع لأصحاب إبن عقيل صوتا كما كان يسمع قبل ذلك قال لأصحابه : اشرفوا فأنظروا هل ترون منهم أحدا ؟ فأشرفوا فلم يروا أحدا قال : فأنظروا لعلهم تحت الظلال وقد كمنوا لكم فنزعوا تخاتج المسجد وجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم وينظرون فكانت أحيانا تضيء لهم واحيانا لا تضيء كما يريدون فدلوا القناديل واطناب القصب تشد بالحبال ثم تجعل يها النيران ثم تدلى حتى تنتهي إلى ألأرض ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلة التي فيها المنبر فلما لم يروا شيئا(2) أعلموا إبن زياد بتفرق القوم ففتح باب السدة التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر وخرج أصحابه معه فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة ، وأمر عمرو بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد ، فلم يكن إلا ساعة حتى إمتلأ المسجد من الناس ، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه من يغتاله ، وصلى بالناس .

(1) المفيد : ألإرشاد ص 309 .
(2) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 101

إبن زياد يعلن ألأحكام العرفية :


قال الطبري : ثم صعد المنبر ثم قال : أما بعد فإن إبن عقيل السفيه الجاهل ، قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت ذمة ألله من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته . إتقوا ألله عبادألله ، وإلزموا طاعتكم وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا . يا حصين بن تميم ، ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به (1) ، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة ، فبعث مراصده على أفواه السكك ، واصبح غدا وإستبر الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل ـ وكان الحصين على شرطه وهو من بني تميم ـ ثم نزل إبن زياد فدخل وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمره على الناس فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه ، واقبل محمد بن ألأشعث فقال : مرحبا بمن لا يستغش ولايتهم ! ثم أقعده إلى جنبه .

ألإخبار بمكان مسلم رضوان الله عليه :


وأصبح إبن تلك العجوز وهو بلال بن أسيد الذي آوت أمه إبن عقيل ، فغدا إلى عبدألرحمن بن محمد ألأشعث فأخبره بمكان إبن عقيل عند أمه قال : فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند إبن زياد ، فساره ، فقال له إبن زياد : ما قال لك ؟
قال : أخبرني إن إبن عقيل في دار من دورنا ، فنخس بالقضيب في جنبه ثم قال : قم فأتني به الساعة .

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 577 .
البالغون الفتح في كربلاء 102

التجهيز لحرب مسلم رضوان ألله عليه :


قال الشيخ المفيد رحمه ألله : فقام وبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه وبعث معه عبيدألله بن عباس السلمي في سبعين رجلا من قيس وفي الفتوح ثلاثمائة رجل وفي ألأخبار الطوال للدينوري كما ينقل عنه صاحب المجموعة أن إبن زياد بعث معه مائة رجل من قريش وكره أن يبعث إليه غير قريش خوفا من العصبية أن تقع حتى أتو الدار التي فيها مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه (1).
كان مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه قد أبى أن يأكل شيئا في ليلته ألأخيرة وحرص على أن يحييها بالعبادة والذكر والتلاوة فلم يزل قائما وراكعا وساجدا يصلي ويدعو ربه إلى إن إنفجر عمود الصبح ، لكنه لشدة ألإعياء من أثر القتال في النهار كان قد أخذته سنة من النوم فرأى في عالم الرؤيا عمه أمير المؤمنين عليا عليه السلام وبشره بسرعة إلتحاقه بمن مضى منهم عليهم السلام في أعلى عليين . ففي كتاب نفس المهموم عن كتاب المنتخب للطريحي أنه : (لما أن طلع الفجر جاءت طوعة إلى مسلم بماء ليتوضأ.
قالت : يا مولاي ، ما رأيتك رقدت في هذه الليلة !؟
فقال لها : إعلمي أني رقدت رقدة فرأيت في منامي أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول : الوحا الوحا ، العجل العجل ! وما أظن إلا أنه آخر ايامي من الدنيا !) (2).

الهجوم على مسلم رضوان ألله عليه


قال الطبري : وجاء محمد بن ألأشعث برجاله حتى أتوا الدار التي

(1) المفيد : ألإرشاد ص 311 .
(2) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 103

فيها إبن عقيل فلما سمع حوافر الخيل واصوات الرجال عرف أنه قد أتي ، فخرج إليهم بسيفه وإقتحموا عليه الدار ، فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم عادوا إليه ، فشد عليهم كذلك ، فإختلف هو وبكير بن حمران ألأحمري ضربتين فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا ، وأشرع السيف في السفلى ، ونصلت لها ثنيتاه فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة ، وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه (1). فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من ظهر البيت ، فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطنان القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا سيفه في السكة فقاتلهم قتالا شديدا فعجزوا عن مقاتلته . ورد في الفتوح : أنه بلغ ذلك عبيدألله بن زياد (لع) فأرسل إلى محمد بن ألأشعث وقال : سبحان ألله بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به ، فثلم أصحابك هذه الثلمة العظيمة(2).
ويقول العلامة الحجة الشيخ القرشي : وثقل هذا التقريع على إبن ألأشعث فراح يشيد بإبن عقيل رضوان الله عليه قائلا (أتظن أنك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة الحيرة ) ـ والجرامقة قوم من العجم صاروا إلى الموصل (3)ـ أو لم تعلم أيها ألأمير أنك بعثتني إلى اسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام ، من آل خير ألأنام فأرسل إليه إبن زياد أن أعطه ألأمان فإنك لا تقدر عليه إلا بألأمان قال عمر بن دينار وغيره : لقد كان من قوة مسلم رضوان الله عليه انه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت (4).

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 578 .
(2) إبن أعثم : الفتوح ج5 ص 53 .
(3) القرشي :حياة ألإمام الحسين ج2 ص 409 .
(4) ناسخ التواريخ : ج2 ص 291 .
البالغون الفتح في كربلاء 104

فأقبل عليه محمد بن ألأشعث ، فقال : يا فتى ، لك ألأمان ، لا تقتل نفسك ، ومسلم بن عقيل رضوان ألله عليه لا حاجة إلى أمان الغدرة فأقبل يقاتلهم ، وهو يقول :
أقسمت لا أقتل إلا حرا وإن رأيت الموت شيئا نكرا
كل إمرئ يوما ملاق شرا ويخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فإستقرا أخاف أن أكذب أو أغرا

فقال له بن ألأشعث : إنك لا تُكذَب ولا تُخدَع ولا تُغر إن القوم بنو عمك ، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك ، وقد أثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال وإنبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار ، فدنا محمد إبن ألأشعث فقال : لك ألأمان ، فقال : آمنٌ أنا ؟ قال : نعم ، وقال القوم : أنت آمن ! ، غير عمرو بن عبيدألله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، وتنحى .

أمان إبن ألأشعث :


قال الشيخ المفيد فقال : مسلم بن عقيل : اما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم وأتي ببغلة فحمل عليها فإجتمعوا حوله وإنتزعوا سيفه فكأنه عند ذلك أيس من نفسه ودمعت عيناه ثم قال : هذا أول الغدر قال له محمد بن ألأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس فقال : وما هو إلا الرجاء أين امانكم ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون ! وبكى فقال له عبيدألله بن العباس السلمي : إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك قال : إني وألله ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل ارثي وإن كنت لم احب لها طرفةعين تلفا ولكن أبكي لأهلي المقبلين إني ابكي للحسين عليه السلام وآل الحسين (1).

(1) المفيد : ألإرشاد ص 312 .
السابق السابق الفهرس التالي التالي