البالغون الفتح في كربلاء 105

قال أبو مخنف : وأقبل محمد بن ألأشعث بإبن عقيل إلى باب القصر فإستأذن فأذن له ، فأخبر عبيدألله خبر إبن عقيل وضرب بكير إياه ، فقال : بعدا له ! فأخبره محمد بن ألأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إياه ، فقال عبيدألله : ما أنت وألأمان كأنا ارسلناك تؤمنه إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت (1). وإنتهى إبن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان ، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون ألإذن ، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب .
قال أبو مخنف : فحدثني قدامة بن سعد أن مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه حين إنتهى إلى باب القصر فإذا قُلة باردة موضوعة على الباب فقال إبن عقيل : أسقوني من هذا الماء ، فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما ابردها لا وألله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم قال له إبن عقيل : ويلك من أنت ؟ قال أنا : إبن من عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي فقال إبن عقيل : لأمك الثكل ! ما أجفاك ، وما أفظك ، واقسى قلبك واغلظك ! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني ، ثم جلس متساندا إلى حائط (2). وبعث عمرو بن حريث غلاما له فجاءه بقلة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء فقال له : إشرب فأخذ كلما يشرب إمتلأ القدح دما من فيه فلا يقدر أن يشرب ففعل ذلك مرة ومرتين فلما ذهب الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح فقال ألحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته .

(1) الطبري : ج4 ص 580 .
(2) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 106

مسلم في قصر الخبال :


قال شيخ المحققين العلامة الحجة الشيخ باقر شريف القرشي وكان من أعظم ما رزئ به مسلم رضوان الله عليه أن يدخل أسيرا على الدعي إبن مرجانة فقد ود أن ألأرض وارته ولا يمثل أمامه وقد شاءت المقادير أن يدخل عليه وقد دخل تحف به الشرطة فلم يحفل البطل بإبن زياد ولم يعن به فسلم على الناس ولم يسلم عليه فأنكر عليه الحرسي وهو من صعاليك الكوفة قائلا : هلا تسلم على ألأمير ؟ فصاح به مسلم رضوان ألله عليه محتقرا له ولأميره أسكت لا أم لك ما لك والكلام وألله ليس لي بأمير فأسلم عليه (1)، وكيف يكون إبن مرجانة أميرا على مسلم رضوان ألله عليه سيد ألأحرار وأحد المستشهدين في سبيل الكرامة ألإنسانية ؟ إنما هو أمير على أولئك الممسوخين الذين لم يألفوا إلا الخنوع والذل وألعار . وإلتاع الطاغية من إحتقار مسلم رضوان ألله عليه له وتبدد جبروته فصاح به : لا عليك سلمت أم لم تسلم فإنك مقتول . ولم يملك الطاغية سوى سفك الدم الحرام ، وحسب أن ذلك لا يخيف مسلما أو يوجب إنهياره وخضوعه له فإنبرى إليه بطل عدنان قائلا بكل ثقة وإعتزاز بالنفس : إن قتلتني فقد قتل من هو شر منك من كان خيرا مني . ولذعه هذا الكلام الصارم وأطاح بغلوائه فقد ألحقه مسلم رضوان ألله عليه بالجلادين والسفاكين من قتلة ألأحرار والمصلحين ، وإندفع الطاغية يصيح بمسلم : يا شاق ، يا عاق ، خرجت على إمام زمانك ، وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة ، اي أمام خرج عليه مسلم رضوان ألله عليه واية عصا للمسلمين شقها واية فتنة ألقحها إنما خرج على قرين الفهود والقرود لقد خرج لينقذ ألأمة من محنتها أيام ذلك الحكم ألأسود(2).

(1) القرشي / حياة ألإمام الحسين عليه السلام : ج2 ص 153 .
(2) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 107

مسلم رضوان ألله عليه مع إبن زياد :


فأدخل مسلم بن عقيل رضوان الله عليه على عبيدألله بن زياد (لع) فقال له الحرسي : سلم على ألأمير ! فقال له مسلم : أسكت لا أم لك ! ما لك وللكلام !؟ وألله ليس هو لي بأمير فأُسلم عليه ! وأخرى فيما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي !؟ فإن إستبقاني فسيكثر عليه سلامي ! وهنا تعليق للشيخ محمد جواد الطبسي بهذا الخصوص يقول فيه يستشعر العارف بالعزة الهاشمية إن هذه العبارة : (فإن إستبقاني فسيكثر سلامي عليه !) كما تتنافى من ألإباء الهاشمي تتنافى أيضا مع معرفة مسلم رضوان ألله عليه التامة بنفسية إبن زياد . كما ستكشف عن ذلك بقية المحاورة بينهما . بل أن هذه العبارة تجسيد لسذاجة قد إفتعلها بعض المؤرخين على مسلم رضوان الله عليه وأين هي من سلامه العزيز ألأبي : (السلام على من إتبع الهدى وخشي عواقب الردى واطاع الملك ألأعلى) الذي نقلناه من الطريحي !؟ ومن الغريب المؤسف أن تلك العبارة قد رواها ايضا فقال له عبيدألله بن زياد (لع) : لا عليك ! سلمت أم لم تسلم ، فإنك مقتول ! فقال مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه : إن قتلتني فقد قتل شر منك من كان خيرا مني !(1).
فقال له إبن زياد : يا شاق! يا عاق ! خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة !
فقال مسلم : كذبت يابن زياد ! وألله ما كان معاوية خليفة بإجماع ألأمة ، بل تغلب على وصي النبي بالحيلة ، وأخذ عنه الخلافة بالغصب ، و كذك إبنه يزيد ! وأما ألفتنة فإنك ألقحتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف ! وأنا ارجو أن يرزقني ألله الشهادة على يدي شر بريته ! فوألله ما خالفت ولا كفرت ولا بدلت ! وإنما أنا في طاعة أمير المؤمنين

(1) محمد جواد الطبسي : المجموعة الموضوعية ج3 .
البالغون الفتح في كربلاء 108

الحسين بن علي عليه السلام ، إبن فاطمة بنت رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم ، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وإبنه وآل زياد !
فقال له إبن زياد : يا فاسق ! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة !؟ فقال مسلم بن عقيل رضوان الله عليه : أحق وألله بشرب الخمر مني من يقتل النفس الحرام (ويقتل على الغضب والعداوة والظن) وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا !
فقال له إبن زياد : يا فاسق !منتك نفسك أمرا حالك ألله دونه وجعله لأهله !
فقال مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه : ومن أهله يابن مرجانة !؟
فقال : أهله يزيد ومعاوية !
فقال مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه : الحمد لله ، كفى بألله حكما بيننا وبينكم !
فقال إبن زياد لعنه ألله : أتظن أن لك من ألأمر شيئا !؟
فقال مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه : لا وألله ما هو الظن بل اليقين !
فقال إبن زياد : قتلني ألله إن لم أقتلك !
فقال مسلم : إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة وألله لوكان معي عشرة ممن أثق بهم وقدرت على شربة من ماء لطال عليك أن تراني في هذا القصر ! ولكن إن عزمت على قتلي ولا بد لك من ذلك فأقم إلي رجلا من قريش أوصي إليه بما أريد .

وصية مسلم رضوان ألله عليه إلى إبن سعد :


فوثب إليه عمر بن سعد (لع) بن أبي وقاص ، فقال : أوص إلي بما تريد يابن عقيل فقال له مسلم : أوصيك بتقوى ألله فإن التقوى درك كل خير ولي إليك حاجة !

البالغون الفتح في كربلاء 109

فقال عمر : قل ما أحببت .
فقال : حاجتي أن تسترد فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه ، وتقضي عني سبعمائة درهم إستدنتها في مصركم هذا ، وأن تستوهب جثتي إن قتلني هذا الفاسق ! فتواريني في التراب ، وأن تكتب للحسين : أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي !
فقال عمر بن سعد (لع) : أيها ألأمير ! إنه يقول كذا وكذا !
فقال إبن زياد : يابن عقيل ! أما ما ذكرت من دينك فإنما هو مالك تقضي به دينك ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت ، وأما جسدك فإنا إذا قتلناك فالخيار لنا ، ولسنا نبالي ما صنع ألله بجثتك ! وأما الحسين فإنه إن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكف عنه ! .

مسلم وحقيقة القدوم إلى الكوفة :


قال إبن زياد : ولكني أريد أن تخبرني يابن عقيل ، بماذا أتيت هذا البلد ؟ شتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ، ورميت بعضهم على بعض !
فقال مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه : ليس لذلك أتيت هذا البلد ، ولكنكم أظهرتم المنكر ، ودفنتم المعروف ، وتأمرتم على الناس من غير رضا ، وحملتموهم على غير ما أمركم ألله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة ، وكنا أهل ذلك ، ولم تزل الخلافة لنا منذ قُتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولا تزال الخلافة لنا ، فإنا قُهرنا عليها ، لأنكم أول من خرج على إمام هدى ، وشق عصا المسلمين ، وأخذ هذا ألأمر غصبا ، ونازع أهله بالظلم والعدوان ! ولا نعلم لنا ولكم

البالغون الفتح في كربلاء 110

مثلا إلا قول ألله تبارك وتعالى : «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»(1)فجعل إبن زياد يشتم عليا والحسن والحسين عليهم السلام !
قال له مسلم : أنت وابوك أحق بالشتيمة منهم ! فإقض ما أنت قاض فنحن أهل بيت موكول بنا البلاء !
فقال عبيدألله بن زياد(لع) : إلحقوا به إلى أعلى القصر فإضربوا عنقه ، والحقوا رأسه جسده !
فقال مسلم رحمه ألله : أما وألله يابن زياد ! لو كنت من قريش أو كان بيني وبينك رحم أو قرابة لما قتلتني ، ولكنك إبن أبيك !(2).

إستشهاد مسلم رضوان الله عليه :


قال إبن أعثم : فأُصعد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه إلى أعلى القصر وهو في ذلك يسبح ألله تعالى ويستغفره ، وهو يقول : أللهم أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا .
فلم يزل كذلك حتى أُتي به إلى أعلى القصر ، وتقدم ذلك الشامي فضرب عنقه !
ثم نزل الشامي بكير بن حمران إلى عبيدألله بن زياد (لع) وهو مدهوش !
فقال له إبن زياد : ما شأنك !؟ أقتلته ؟

(1) سورة الشعراء ، ألآية : 227.
(2) العبارة هنا ليست للمدح بل هي للذم : أي أنت لا تمت للقرشيين بصلة وإنما أنت إبن أب لا يعترف بنسبه . فزياد ليس له اب معروف لأن أمه كانت زناء ؟؟ فإختصر مسلم العبارة بقوله (إبن أبيك) لعائن ألله والملائكة على هذه العصابة الفاجرة وعلى من دار ويدور في فلكها .
البالغون الفتح في كربلاء 111

قال : نعم ، اصلح ألله ألأمير ! إلى أنه عرض لي عارض ، فأنا له فزع مرهوب !
فقال : ما الذي عرض لك !؟
قال : رأيت ساعة قتلته رجلا حذاي ، أسود كثير السواد ، كريه المنظر ، وهو عاض على إصبعيه ـ وقيل شفتيه ـ ففزعت منه فزعا لم أفزع قط مثله !
فتبسم إبن زياد وقال له : لعلك دهشت !؟ وهذه عادة لم تعتدها قبل ذلك (1).
يقول محمد الشيخ هادي ألأسدي : قتل مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه ذلك اليوم ولم تتحرك في الكوفة راية إحتجاج ولم يخرج سيف من غمده لنصرته . وأتبع بقتل هانئ بن عروة أيضا وموقف الناس هو موقفهم تجاه قتل مسلم لم يتغير . وإذا كان مسلم قد قتل في القصر فإن هانئ بن عروة قتل في السوق أمام الناس ، وكان يستغيث بمذحج عشيرته ، فلم يغثه أحد ، فأين ذهبت مذحج التي حاصرت القصر يوم أمس تطالب بزعيمها ، فهل كانوا غائبين عن ذلك المكان فلم يجبه أحد منهم ، ولكن بعد أن قتل وعرفت مذحج بذلك فماذا فعلت ؟ التاريخ هنا يصمت ولا يتحدث عن أي شيء سوى الصمت (2). فأين يكمن السبب في هذا الصمت؟ ولماذا لم تثر وتطالب بثأره ؟ الجواب على ذلك يكمن فيما نحسب في أإجراءات التي إتخذها إبن زياد في الكوفة ، فقد سيطر على الناس وألأوضاع إلى درجة جعلت مذحج الثائرة بألأمس تصمت اليوم !؟

(1) أبن أعثم : الفتوح ج5 ص 58 .
(2) محمد الشيخ هادي ألأسدي : ما قبل عاشوراء ص 228 .
البالغون الفتح في كربلاء 112


3 ـ هانئ بن عروة المرادي رضوان الله عليه :

هو هانئ بن عروة بن الفضفاض بن نمران بن عمرو بن قماس بن عبد يغوث المرادي الغطيفي (1). وفي ألإبصار إبن قعاس بن عبد يغوث بن مخدش بن حصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن غطيف إبن مراد بن مذحج أبو يحيى المذحجي المرادي الغطيفي (2).
قال السماوي كان هانئ صحابيا كأبيه عروة وكان معمرا ، وكان هو وأبوه من وجوه الشيعة وحضرا مع أمير المؤمنين عليه السلام حروبه الثلاث ، وهو القائل يوم الجمل :
يالك حربا حثّها جمالها يقودها لنقصها ضلالها
هذا علي حوله أقيالها

قال السماوي قال إبن سعد في الطبقات : ـ إن عمره كان يوم قتل بضعا وتسعين (3).
وذكر بعضهم أن عمره كان ثلاثا وثمانين . وكان يتوكأ على عصا بها زج ، وهي التي ضربه بها إبن زياد(4).
قال المسعودي أنه كان شيخ مراد وزعيمها وهو يومئذ يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل ، وإذا أجباتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع (5).
قال السماوي : ذكر المبرد في الكامل وغيره في غيره أن عروة

(1) إبن حجر العسقلاني : ألإصابة ج4 ص 422 .
(2) محمد طاهر السماوي : إبصار العين في انصار الحسين عليه السلام ص 107 .
(3) المصدر السابق ص 107 .
(4) الإصابة : ج4 ص 122 .
(5) المسعودي : مروج الذهب ج3 ص 71 .
البالغون الفتح في كربلاء 113

خرج مع حجر بن عدي وأراد قتله معاوية فشفع فيه زياد بن ابيه ، وأن هانئا أجار كثير بن شهاب المذحجي حين إختان مال خراسان وهرب منها وطلبه معاوية فإستتر عند هانئ فنذر معاوية دم هانئ ، فحضر مجلسه ومعاوية لا يعرفه ، فلما نهض الناس ثبت مكانه ، فسأله معاوية عن أمره ، فقال : ـ أنا هانئ بن عروة صرت في جوارك . فقال له معاوية : ـ إن هذا اليوم ليس بيوم يقول فيه أبوك : ـ
أرجل جمتي وأجر ذيلي وتحمي شكتي افق كميت
وأمشي في سراة بني غطيف إذا ما سامني ضيم أبيت

فقال له هانئ : ـ أنا اليوم أعز من ذلك اليوم .
فقال : ـ لم ذاك ؟ قال : ـ بألإسلام فقال : ـ أين كثير ؟
قال : ـ عندي في عسكرك .
فقال : ـ أنظر إلى ما إختانه فخذ منه بعضا وسوغه بعضا (1).

دوره في نهضة مسلم رضوان ألله عليه :


روى إبن أعثم إن مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه لما سمع بقدوم عبيدألله بن زياد (لع) وبما قاله من تهديد ، فكأنه إتقى على نفسه ، فخرج من الدار التي هو فيها في جوف الليل حتى أتى دار هانئ بن عروة رضوان ألله عليه المذحجي رحمه ألله فدخل عليه ، فلما رآه هانئ قام إليه وقال : ما وراءك جعلت فداك ؟ فقال مسلم : ورائي ما علمت هذا عبيدألله بن زياد الفاسق إبن الفاسق قد قدم الكوفة فأتقيه على نفسي ، وقد اقبلت إليك لتجيرني وتأويني حتى أنظر إلى ما يكون . فقال له هانئ بن عروة رضوان ألله عليه : جعلت فداك وألله لقد كلفتني شططا ولولا دخولك داري لأحببت أن تنصرف ،

(1) السماوي : ألإبصار ص 107 .
البالغون الفتح في كربلاء 114

غير أني ارى ذلك عارا عليّ أن يكون رجل أتاني مستجيرا ، فأنزل على بركة ألله . قال فنزل مسلم بن عقيل رضوان الله عليه في دار هانئ المذحجي . وجعل عبيدألله بن زياد يسال عنه فلم يجد من يرشده عليه ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم رحمه ألله في دار هانئ ويبايعون للحسين سرا ، ومسلم إين عقيل رضوان ألله عليه يكتب اسماءهم ويأخذ عليهم العهود والمواثيق لا يركنون ولا يعذرون ، حتى بايع مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه نيف وعشرون ألفا (1). أما المراحل ألأخرى من دوره في نهضة مسلم رضوان ألله عليه قد مرت في ترجمة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه .

تعليق :


تنص أغلب المصادر التاريخية على أن هانئ بن عروة قد إستقبل مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه في دراه على كراهية ومضض وانه إستضافه حسب ما تمليه عليه التقاليد وألأعراف العربية والعشائرية . إن المتأمل في هذه القضية يرى بوضوح تام عدم صحة هذه الرواية للأسباب التالية : ـ
1 ـ من غير المعقول أن يقوم مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه بتغيير مقر قيادة الثورة بشكل عشوائي ودون تخطيط مسبق لأن ألأمور لم تكن بدرجة من الخطورة مما تستدعي معه نقل المقر بهذه السرعة وبدون دراسة .
2 ـ إن نفسية مسلم وما تربى عليه في بيت الوحي والرسالة تأبى أن يحل ضيفا على أحد وهو كاره لضيافته .
3 ـ إن دعوة هانئ القبائل لمبايعة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه خلاف الكراهية .
4 ـ تهيئة كافة ألأمور الإدارية لمسلم بن عقيل رضوان ألله عليه من قبل هانئ بن

(1) إبن أعثم : الفتوح ج5 ص 40 .
البالغون الفتح في كربلاء 115

عروة لتمكينه من أخذ البيعة حيث إن المصادر التاريخية تنص على أن الشيعة أخذت تختلف إليه في دار هانئ وقد بايعه في داره ثمانية عشر ألفا . عليه نحتمل بدرجة كبيرة أن هذه الرواية إستسقاها المؤرخون من خلال التورية التي إستخدمها هانئ أمام عبيدألله بن زياد في قصر ألإمارة (فقال له : إسمع مني ، وصدق مقالتي ، وآلله لا أكذبك ، وألله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي ، ولا علمت بشيء من أمره ، حتى رأيته جاليا على بابي ، فسألني النزول علي ، فإستحييت من رده ، ودخلني من ذلك ذمام ، فأدخلته داري وضيفته وآويته) (1).

شهادته رضوان الله عليه :


روي في الفتوح أمر عبيدألله بن زياد (لع) بهانئ بن عروة أن يخرج فيلحق بمسلم بن عقيل ، فقال محمد بن ألأشعث : اصلح ألله ألأمير إنك قد عرفت شرفه في عشيرته ، وقد عرف قومه أني واسماء بن خارجة جئنا به إليك ، فأنشدك ألله أيها ألأمير إنما وهبته لي فإني اخاف عداوة أهل بيته وإنهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عددا (2). قال : فزبره إبن زياد ، ثم أمر بهانئ بن عروة فأخرج إلى السوق إلى موضع يباع فيه الغنم وهو مكتوف . قال : وعلم أنه مقتول فجعل يقول : وامذحجاه واعشيرتاه ثم أخرج يده من الكتاف وقال : أما من شيء فأدفع به عن نفسي ؟ قال : فصكوه ثم أوثقوه كتافا ، فقالوا : أمدد عنقك فقال : لا والله ما كنت الذي أعينكم على نفسي فتقدم إليه غلام لعبيدألله بن زياد (لع) يقال له رشيد فضربه بالسيف فلم يصنع شيئا . فقال هانئ : إلى ألله

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 572 .
(2) إبن أعثم : الفتوح : ج5 ص 61 .
البالغون الفتح في كربلاء 116

المعاد ، أللهم إلى رحمتك ورضوانك ، أللهم إجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي فإني إنما تعصبت لإبن بنت نبيك محمد صلى ألله عليه وآله وسلم (1). فتقدم رشيد وضربه ضربة أخرى فقتله ـ رحمه ألله ـ .

سحل الشهيدين رضوان ألله عليهما في الشوارع وألأسواق :


في خطوة تنم عن حقد الحزب ألأموي على بني هاشم وألإسلام وتدلل على إبتعاد هذا الحزب الفاشي عن مبادئ ألإسلام وتجرده الكامل عن كل هذه القيم وألأخلاق السامية أمر ألإرهابي عبيدالله بن زياد (لع) جلاوزته بسحل جثة مسلم وهانئ رضوان ألله عليهما في الشوارع وألأسواق .
قال أبو مخنف : إن عبدألله بن مسلم والمذري بن المشعل ألأسديين اخبرا ألإمام الحسين عليه السلام عن بكير بن المشعبة الذي كان يحمل خبر مقتل مسلم وهانئ رضوان ألله عليهما قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم إبن عقيل رضوان ألله عليه وهانئ بن عروة ، فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق (2). يقول الشيخ الحجة القريشي لقد سحب هانئ أمام أسرته وقومه ، ولو كان عندهم ذرة من الشرف والحمية لأنبروا إلى تخليص جثة زعيمهم من أيدي الغوغاء الذين بالغوا في إهانتها (3).

صلب الجثتين :


قال الشيخ المفيد ثم أمر عبيدألله بن زياد بمسلم بن عقيل وهانئ بن عروة رحمهما ألله فصلبا جميعا منكسين ، وعزم أن يوجه

(1) المصدر السابق .
(2) تاريخ الطبري : ج4 ص 599 .
(3) الشيخ القرشي : حياة ألإمام الحسين عليه السلام ج2 ص 426 .
البالغون الفتح في كربلاء 117

برأسيهما إلى يزيد بن معاوية (لع) ، فأنشأ رجل من بني أسد عبدألله إبن الزبير يقول :
إذا كنت لا تدرين ما الموت فأنظري إلى هانئ في السوق وإبن عقيل
إلى بطل قد فلّق السيف رأسه وآخر يهوي من جدار قتيل
أصابهما أمر ألإله فأصبحا أحاديث من يسعى بكل سبيل
ترى جسدا قد غير الموت لونه ونضح دم قد سال كل مسيل
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل

حمل الرؤوس إلى دمشق :


وعمد ألإرهابي إبن مرجانة إلى إرسال رأس مسلم وهانئ هدية إلى سيده يزيد لينال الجائزة منه ويحرز إخلاص ألأسرة ألأموية لأنه لقيطها حيث بعث برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن ألأروح التميمي وكتب إلى يزيد بما كان من أمر مسلم وهانئ ، فكتب الكاتب وهو عمر بن نافع . فأطال وكان أول من أطال في الكتب فلما نظر فيه عبيدألله كرهه وقال : ما هذا التطويل ؟ وما هذه الفصول ؟ أكتب :
أما بعد : فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤونة عدوه أخبر أمير المؤمنين أن مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه لجا إلى دار هانئ بن عروة المرادي رضوان ألله عليه وأني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتى إستخرجتهما وأمكن ألله منهما فقدمتهما وضربت أعناقهما وقد بعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حية والزبير بن ألأروح التميمي وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمرهما فإن عندهما علما وصدقا وورعا والسلام(2).

(1) المفيد : ألإرشاد ص 315 .
(2) المصدر السابق : ص 317 .
البالغون الفتح في كربلاء 118

فكتب إليه يزيد :


أما بعد : فإنك إن كنت كما أحب عملت الحازم وصلت صولة الشجاع الرباط الجأش وقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك ورأيي فيكوقد دعوت رسوليك فسألتهما وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت فإستوص بهما خيرا وأنه قد بلغني أن حسينا قد توجه إلى العراق فضع المناظر والمسالح وإحترس وإحبس على الظنة وأقتل على التهمة وأكتب إلي فيما يحدث من خبر إن شاء ألله تعالى(1).


4 ـ قيس بن مسهر الصيداوي :

هو قيس بن مسهر بن خالد بن جندب بن منقذ بن عمرو بن قعين إبن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة ألأسدي الصيداوي . وصيدا بطن من أسد كان قيس رجلا شريفا في بني صيدا شجاعا مخلصا في محبة أهل البيت عليهم السلام .
لما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية إجتمعت الشيعة في منزل سليمان إبن صرد الخزاعي قال : فذكرنا هلاك معاوية ، فحمدنا ألله عليه ، فقال لنا سليمان بن صرد : إن معاوية قد هلك ، وإن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون إنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فأكتبوا إليه ، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه فقلنا : لا ، بل نقاتل عدوه ونقتل دونه ، قال : فأكتبوا إليه فكتبوا إليه :

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 119

بسم ألله الرحمن الرحيم

للحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر ألأسدي وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة . سلام عليك ، فإنا نحمد ألله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي إنتزى على هذه ألأمة فإبتزها أمرها ، وغصبها فيأها ، وتأمر عليها بغير رضا منها ، ثم قتل خيارها ، وإستبقى شرارها ، وجعل مال ألله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعدا له كما بعدت ثمود إنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل ألله أن يجمعنا بك على الحق . والنعمان بن بشير في قصر ألإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا إنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء ألله ، والسلام ورحمة الله عليك (1).
قال : ثم سرحنا بالكتاب مع عبدألله بن سبع الهمداني وعبدالله بن وال ، وأمرناهما بالنجاء ، فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة ، ثم لبثنا يومين ، ثم سرحنا إليه قيس إبن مسهر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبدألله بن الكدن ألأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي ، فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة ، الصحيفة من الرجل وألإثنين وألأربعة .
قال أبو مخنف : إن الحسين عليه السلام دعا مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعبدألرحمن بن عبدالله بن الكدن ألأرحبي وعمارة بن عبدالله السلولي ، فأمره بتقوى ألله وكتمان أمره ، واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك .
فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم ،

(1) تاريخ الطبري ج4 ص 559 .
البالغون الفتح في كربلاء 120

وودع من أحب من أهله ، ثم إستأجر دليلين من قيس ، فأقبلا به ، فضلا الطريق وجارا ، وأصابهم عطش شديد ، وقال الدليلان : هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء ، وقد كادوا أن يموتوا عطشا . فكتب مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى الحسين عليه السلام ، وذلك بالمضيق من بطن الخبت(1).
قال أبو مخنف : وحدثني محمد بن قيس أن الحسين عليه السلام أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة ، وكتب معه إليهم :
بسم ألله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم ألله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإن كتاب مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، وإجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقنا ، فسألت ألله أن يحسن لنا الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم ألأجر ، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فإكمشوا أمركم وجدوا ، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء ألله ، والسلام عليكم ورحمة ألله وبركاته (2).
وكان مسلم بن عقيل رضوان ألله عليه قد كتب إلى الحسين قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة : أما بعد فإن الرائد لا يكذب أهله ، إن جمع أهل الكوفة معك ، فأقبل حين تقرأ كتابي ، والسلام عليك .

(1) المصدر السابق : ص 562 .
(2) تاريخ الطبري ، ج4 ص 597 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي