البالغون الفتح في كربلاء 218


3 ـ حبيب بن مظاهر ألأسدي :

هو حبيب بن مظاهر أو مظهر بن رئاب بن ألأشتر بن ججوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قيس بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد يكنى أبا القاسم الفقعسي ألأسدي ويقال له : سيد القراء كان ذا جمال وكمال وكان حافظا للقرآن كله (1). شخصية بارزة في المجتمع الكوفي من القواد الشجعان كان عمره يوم شهادته (75 سنة).

صحبته :


صحابي مشهور وفقيه معروف تشرف بخدمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسمع منه أحاديث وكان معززا مكرما بملازمة ألإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو من أكابر التابعين . قال أهل السير : إن حبيبيا رضي ألله عنه نزل الكوفة وصحب عليا في جميع حروبه وكان من خاصته ومن أصفياء أصحابه وحملة علومه (2). ومن شرطة الخميس نال تكريم الرسول ألأمين صلى الله عليه وآله وسلم حين قبله بين عينيه وهو صغير . كذلك نال شرف تكريم ألإمام الحسن عليه السلام عندما كتب إليه رسالة وخاطبه بالقول أنك ذو غيرة وشيمة . وجاء في وسيلة الدارين أن رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم كان يوما مع جماعة من أصحابه في بعض الطريق وإذا هم بصبيان يلعبون في ذلك الطريق فجلس النبي صلى ألله عليه وآله وسلم عند صبي منهم وجعل يقبل بين عينيه ويلاحظه ثم أقعده في حجره وكان يكثر تقبيله فسئل عن علة ذلك فقال النبي ألأقدس : إني رأيت هذا الصبي يوما يلعب مع الحسين عليه السلام ورأيته يرفع التراب من تحته ويمسح به وجهه وعينيه فأنا أحبه لحبه لولدي الحسين عليه السلام ولقد أخبرني جبرائيل أنه يكون من أنصاره في وقعة

(1) السماوي : إبصار العين ص 76 .
(2) السماوي : إبصار العين ص 75 .
البالغون الفتح في كربلاء 219

كربلاء . وذكر بعض الثقاة أن ذلك الطفل كان حبيبا بن مظاهر الذي فدى الحسين عليه السلام بنفسه ومهجته (1).
قال الشيخ المظفر روى الكشي عن فضيل بن الزبير قال : مر ميثم التمار على فرس له ، فإستقبله حبيب بن مظاهر ألأسدي عند مجلس بني أسد فتحادثا حتى إختلف عنقا فرسيهما ثم قال حبيب لكأني بشيخ أصلع ضخم البطن يبيع البطيخ عند دار الرزق قد صلب في حب أهل بيت نبيه فتبقر بطنه على الخشبة !
فقال ميثم : وإني أعرف رجلا أحمر له ضفيرتان يخرج لنصرة إبن بنت نبيه فيقتل ويجال برأسه في الكوفة ! ثم إفترقا فقال أهل المجلس ما رأينا أكذب من هذين !؟
قال : فلم يفترق المجلس حتى أقبل رشيد الهجري فطلبهما فقالوا إفترقا وسمعناهما يقولان كذا وكذا !
فقال رشيد : رحم ألله ميثما ! نسي ويزداد في عطاء الذي يجيء بالرأس مائة درهم .
ثم أدبر فقال القوم هذا وألله أكذبهم ! قال فما ذهبت ألأيام والليالي حتى رأينا ميثما مصلوبا على باب عمرو بن حريث ! وجيء برأس حبيب قد قتل مع الحسين عليه السلام ورأيناه كما قالوا (2). وروي أن حبيب بن مظاهر كان ذات يوم واقفا في سوق الكوفة عند عطار يشتري صبغا لكريمته فمر عليه مسلم بن عوسجة فإلتفت إليه حبيب وقال : يا أخي يا مسلم إني أراى أهل الكوفة صمموا على قتال إبن بنت رسول ألله صلى ألله عليه آله وسلم فبكى حبيب ورمى الصبغ من يده وقال : وألله لا تصبغ هذه إلا

(1) الزنجاني : وسيلة الدارين ص 119 .
(2) المظفر : البطل الأسدي ص 30 .
البالغون الفتح في كربلاء 220

من دم منحري دون الحسين عليه السلام (1) فبينما الحسين عليه السلام يسير من مكة إلى الكوفة كتب كتابا إلى حبيب بن مظاهر :
بسم الله الرحمن الرحيم
(من الحسين بن علي عليه السلام إلى الرجل الفقيه حبيب بن مظاهر . أما بعد يا حبيب فأنت تعلم قرابتنا من رسول ألله وأنت أعرف بنا من غيرك وأنت ذو شيمة وغيرة فلا تبخل علينا بنفسك يجازيك جدي رسول ألله يوم القيامة) ثم أرسله إلى حبيب وكان جالسا مع زوجته وبين أيديهما طعام يأكلان إذ غصت زوجته من الطعام فقالت ألله أكبر يا حبيب الساعة يرد كتاب كريم من رجل كريم فبينما هي في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب فخرج إليه حبيب وقال : من الطارق ؟ قال : أنا رسول وقاصد الحسين عليه السلام إليك فقال حبيب : ألله أكبر صدقت الحرة بما قالت ثم ناوله الكتاب ففضه وقرأه فسألته زوجته عن الخبر فأخبرها فبكت وقالت بألله عليك يا حبيب لا تقصر عن نصرة إبن بنت رسول ألله فقال : أجل حتى أقتل بين يديه فتصبغ شبيتي من دم نحري وكان حبيب يريد أن يكتم أمره على عشيرته وبني عمه لئلا يعلم به أحدا خوفا من إبن زياد فبينما حبيب ينظر في أموره وحوائجه واللحوق بالحسين عليه السلام إذ أقبل بنو عمه إليه وقالوا : يا حبيب بلغنا إنك تريد أن تخرج لنصرة الحسين عليه السلام ونحن لا نخليك ما لنا والدخول بين السلاطين فأخفى حبيب ذلك وأنكر عليهم فرجعوا عنه وسمعت زوجته فقالت : يا حبيب كأنك كاره للخروج لنصرة الحسين عليه السلام فأراد أن يختبر حالها فقال : نعم فبكت وقالت : أنسيت كلام جده في حقه وأخيه الحسن عليهما السلام حيث يقول : ولداي هذان سيدا شباب

(1) المصدر السابق : ص 43 .
البالغون الفتح في كربلاء 221

الجنة وهما إمامان قاما أو قعدا وهذا رسول الحسين عليه السلام وكتابه أتى إليك ويستعين بك وأنت لم تجبه فقال حبيب : أخاف على أطفالي من اليتم وأخشى أن ترملي بعدي فقالت : ولنا التأسي بالهاشميات وألأيتام من آل الرسول وألله تعالى كفيلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل فلما عرف حبيب منها حقيقة ألأمر دعا لها وجزاها خيرا (1).
وأخبرها بما هو في نفسه وانه عازم على المسير والرواح . فقالت لي إليك حاجة فقال وما هي ؟ قالت بألله عليك يا حبيب إذا قدمت على الحسين عليه السلام قبل يديه نيابة عني وإقرأه السلام عني فقال : حباً وكرامة .
قال المظفر : إن حبيبا أقبل على جواده وشده شدا وثيقا وقال لعبده : خذ فرسي وإمض به ولا يعلم بك أحد وإنتظرني في المكان الفلاني فأخذه العبد ومضى به وبقي ينتظر قدوم سيده ثم إن حبيباً ودع زوجته وأولاده وخرج متخفيا كأنه ماض إلى ضيعة له خوفا من أهل الكوفة فإستبطأه الغلام وأقبل على الفرس وكان قدامه علف يأكل منه فجعل الغلام يخاطبه ويقول له : يا جواد إن لم يأت صاحبك لأعلون ظهرك وأمضي بك إلى نصرة الحسين عليه السلام فإذا قد أقبل حبيب فسمع خطاب الغلام له فجعل يبكي ودموعه تجري على خده وقال بأبي وأمي أنت يا بن رسول ألله .. العبيد يتمنون نصرتك فكيف بألأحرار ؟ ثم قال لعبده يا غلام أنت حر لوجه ألله فبكى الغلام وقال : سيدي وألله لا أتركك حتى أمضي معك وأنصر الحسين إبن بنت رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسم وأقتل بين يديه فجزاه عن ألله خيرا وحين كان الحسين عليه السلام نازلا في طريقه وقد عقد إثنتي عشرة راية وقد قسم راياته بين أصحابه وبقيت راية .
فقال بعض أصحابه : مُنَّ عليّ بحملها فقال الحسين عليه السلام : يأتي

(1) المصدر السابق : ص 44 .
البالغون الفتح في كربلاء 222
إليها صاحبها . وقالوا له : يابن رسول ألله دعنا نرتحل من هذه ألأرض فقال لهم : صبرا حتى يأتي إلينا من يحمل الراية : فبينما الحسين عليه السلام وأصحابه في الكلام فإذا هم بغبرة ثائرة من طرف الكوفة قد أقبل حبيب معه غلام فإستقبله الحسين عليه السلام وأصحابه فلما صار حبيب قريبا من ألإمام ترجل عن جواده وجعل يُقبل ألأرض بين يديه وهو يبكي فسلم على ألإمام وأصحابه رضي ألله عنهم فردوا عليه السلام (1). فسمعت زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام فقالت : من هذا الرجل الذي قد أقبل ؟ فقيل لها : حبيب بن مظاهر فقالت : إقرأوه عني السلام . فلما بلغوه سلامها لطم حبيب على وجهه وحثا التراب على رأسه وقال : من أنا ومن أكون حتى تسلم عليّ بنت أمير المؤمنين (2).
وعن أهل السير قال : إن حبيبا كان ممن كاتب الحسين عليه السلام قالوا لما ورد مسلم بن عقيل رضي ألله عنه إلى الكوفة ونزل دار المختار وأخذ الموالون يختلفون إليه قام فيهم جماعة من الخطباء تقدمهم عابس الشاكري وثناه حبيب فقال وقال لعابس بعد خطبته : رحمك ألله لقد قضيت ما في نفسك بواجز من القول وأنا وألله الذي لا إله إلا هو لعلى مثل ما أنت عليه (قالوا) وجعل حبيب ومسلم رضي ألله عنهما يأخذان البيعة للحسين عليه السلام في الكوفة حتى إذا دخل عبيدألله بن زياد (لع) الكوفة وخذل أهلها عن مسلم وفر أنصاره حبسهما عشائرهما وأخفياهما فلما

(1) المصدر السابق .
(2) عبدالواحد المظفر : البطل ألأسدي ص 45 ، معالي السبطين ج 1 ص 371 ، نقلا عن الدربندي في أسرار الشهادة ، قال المرحوم المظفر أن هذه الرواية كما ترى لا تصح عندي وأعدها من غير المعقول كيف يبقى حبيب في الكوفة ظاهرا غير مستتر وهو ممن كاتب الحسين عليه السلام ومن دعاته ، وممن حارب مع مسلم بن عقيل ؟، وكيف يظهر مسلم بن عوسجة وهو أحد أمراء مسلم بن عقيل رضي ألله عنه ؟ هذا إضافة إلى ما حوته من الكلام الركيك المتناقض ، ونحن لا نتهم الخطباء بالوضع لها وألإفتعال بعد الذي ذكرناه من وجودها ، لكنا لا نقول بصحتها لما بيناه من العلل .
البالغون الفتح في كربلاء 223

ورد الحسين عليه السلام كربلاء خرجا إليه متخفين يسيران الليل ويكمنان النهار حتى وصلا إليه (1).
دوره في معركة الطف :


حين وصل حبيب بن مظاهر إلى الحسين عليه السلام ورأى قلة أنصاره وكثرة محاربيه قال للحسين : إن ههنا حيا من بني أسد فلو أذنت لي لسرت إليهم ودعوتهم إلى نصرتك لعل ألله يهديهم ويدفع بهم عنك ! فأذن له الحسين عليه السلام فسار إليهم حتى وافاهم فجلس في ناديهم ووعظهم . وقال في كلامه : يا بني أسد قد جئتكم بخير ما أتى به أحد قومه هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين وإبن فاطمة بنت رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم قد نزل بين ظهرانيكم في عصابة من المؤمنين وقد أطافت به أعداؤه ليقاتلوه فأتيتكم لتمنعوه وتحفظوا حرمة رسول ألله فيه فوألله لأن نصرتموه ليعطينكم ألله شرف الدنيا وألآخرة وقد خصصتكم بهذه المكرمة لأنكم قومي وبنو أبي وأقرب الناس مني رحما . فقام عبدألله بن بشير ألأسدي وقال : شكرألله سعيك يا أبا القاسم فوألله لقد جئتنا بمكرمة يستأثر بها المرء ألأحب فألأحب اما أنا فأول من أجاب وأجاب جماعة بنحو جوابه فنهدوا مع حبيب وإنسل منهم رجل فأخبر إبن سعد فأرسل ألأزرق في خمسمائة فارس فعارضهم ليلا ومانعهم فلم يمتنعوا فقاتلهم فلما علموا أن لا طاقة لهم بهم تراجعوا في ظلام الليل وتحملوا عن منازلهم وعاد حبيب إلى الحسين عليه السلام فأخبره بما كان (2) فقال «وَمَا تَشاءُونَ إّلا أنْ يَشاءَ أللهُ رَبُّ العَالَمينَ»(3).

(1) السماوي : ألإبصار : ص 76 .
(2) عبدالمجيد الحسيني الشيرازي : ذخيرة الدارين ، معالي السبطين : ج1 ، ص 371 ، نقلا عن البحار .
(3) سورة التكوير ، ألآية : 29 .
البالغون الفتح في كربلاء 224

إستنتاج :


مفاده أن حبيب بن مظاهر رحمه ألله إلتحق بألإمام الحسين عليه السلام في اليوم السادس من المحرم ويتضح هذا جليا في قول الخوارزمي : (وإلتأمت العساكر عند عمر لستة أيام مضين من محرم فلما رأى ذلك حبيب بن مظاهر ألأسدي جاء إلى الحسين عليه السلام فقال له : يابن رسول ألله أن ههنا حيا من بني أسد قريبا منا ..) ولما جاء قرة بن قيس الحنظلي إلى ألإمام عليه السلام رسولا من إبن سعد وأبلغه رسالة عمر ثم أجابه ألإمام الحسين عليه السلام قال له حبيب : ويحك يا قرة بن قيس أنى ترجع إلى القوم الظالمين !؟ أنصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك ألله بالكرامة وإيانا معك ! فقال له قرة .. أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي (1) وكلم حبيب القوم عصر يوم تاسوعاء قائلا : (أما وألله لبئس القوم عند ألله غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه صلى ألله عليه وآله وسلم وعترته وأهل بيته عليهم السلام وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بألأسحار والذاكرين ألله كثيرا !) ولما رد شمر بن ذي الجوشن على إحدى مواعظ ألإمام عليه السلام قائلا : (يعبد ألله على حرف إن كان يدري ما تقول ! فقال له حبيب بن مظاهر : وألله إني لا أراك تعبد ألله على سبعين حرفا وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ! قد طبع ألله على قلبك !)(2).
وذكر الطبري وغيره أن حبيبا كان على ميسرة الحسين عليه السلام وزهيرا على الميمنة وأنه خفيف ألإجابة لدعوة المبارز .
(قالوا : ولما صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب فقال حبيب عز عليّ مصرعك يا مسلم إبشر بالجنة ! فقال له مسلم قولا ضعيفا بشرك ألله بالجنة !

(1) عزت ألله المولائي ومحمد جواد الطبسي : الموسوعة الموضوعية ج4 ص 157 .
(2) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 225

فقال حبيب : لولا أنني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصي إليّ حتى أحفظك في كل بما لنت له من الدين والقرابة .
فقال له : أوصيك بهذا رحمك ألله ـ وأومأ بيديه إلى الحسين عليه السلام ـ أن تموت دونه ! فقال حبيب : أفعل ورب الكعبة)(1).

إستشهاده :


ذكر الطبري : قالوا عندما طلب ألإمام الحسين عليه السلام من أصحابه أن يسألوا جيش الحزب ألأموي يكفوا عنهم لأداء الصلاة فقال الحصين بن تميم : إنها لا تُقبل فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل زعمت ! الصلاة من آل رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم لا تُقبل وتُقبل منك يا حمار (2) قال : فحمل عليهم حصين بن تميم وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف فشب ووقع عنه وحمله أصحابه فإستنقذوه وأخذ حبيب يقول :
أقسم لو كنا لكم إعدادا أو شطركم وليتم أكتادا
يا شر قوم حسبا وآدا

قال : وجعل يقول يومئذ :
أنا حبيب وأبي مظهر فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتم أعد عدة وأكثر ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلى حجة وأظهر حقا وأتقى منكم وأعذر

وقاتل قتالا شديدا فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله وكان يقال له : بديل من بني عقفان وحمل عليه آخر من

(1) الطبري : ج4 ، ص 633 .
(2) المصدر السابق : ص 636 .
البالغون الفتح في كربلاء 226

بني تميم فطعنه فوقع فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ونزل إليه التميمي فإحتز رأسه فقال له الحصين : إني لشريكك في قتله فقال ألآخر : وألله ما قتله غيري فقال الحصين أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى ألناس ويعلموا أني شركت في قتله ثم خذه أنت بعد فإمض به إلى عبيدألله بن زياد (لع) فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه . قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه ثم دفعه بعد ذلك إليه فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ ألآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه (1)ثم أقبل به إلى إبن زياد في القصر فبصر به القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق فأقبل الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه وإذا خرج خرج معه فإرتاب به فقال : مالك يا بني تتبعني ! قال : لا شيء ، قال بلى ، يا بني أخبرني ، قال له : إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ قال : يا بني لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يثيبني ألأمير على قتله ثوابا حسنا قال له الغلام : لكن ألله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ العذاب أما وألله لقد قتلت خيرا منك وبكى . فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن همه إلا إتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه فلما كان زمان مصعب بن الزبير . وغزا مصعب (باجُميرا) (2)دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه

(1) لبان الفرس : صدره .
(2) باجميرا : قال الحموي في معجم البلدان (بضم الجيم وفتح الميم وياء ساكنة وراء مهملة وألف مقصورة) موضع قرب تكريت . ذكر المؤرخون أن عبدألملك بن مروان كان إذا هم يقصد مصعب بن الزبير بالعراق يخرج في كل سنة إلى بطنان حبيب ، وهي من أدنى قنسرين إلى الجزيرة ، فيعسكر بها ، ويخرج مصعب بن الزبير إلى مسكن فيعسكر بباجميرا من أرض الموصل ، كل واحد منهما يرى صاحبه أنه يقصده ، ولا يتم كل واحد منهما قصده ، فإذا جاء الشتاء وسقط الثلج ،

=

البالغون الفتح في كربلاء 227

فأقبل يختلف في طلبه وإلتماس غرته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد(1).
قال أبو مخنف : حدثني محمد بن قيس قال : لما قُتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسينا عليه السلام وقال عند ذلك : أحتسب نفسي وحماة أصحابي (2).
وبحقه قال الشيخ المرحوم محمد السماوي (3)هذه ألأبيات :
إن يهد الحسين قتل حبيب فلقد هد قتله كل ركن
بطل قد لقى جبال ألأعادي من حديد فردها كالعهن
لا يبالي بالجمع حيث توخى فهو ينصب كإنصباب المزن
أخذ الثأر قبل أن يقتلوه سلفا من منية دون من
قتلوا منه للحسين حبيبا جامعا في فعاله كل حسن

قبر حبيب بن مظاهر ألأسدي :


جاء في ألإرشاد ما نصه ( ولما رحل إبن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى الحسين عليه السلام وأصحابه فصلوا عليهم ودفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره ألآن ودفنوا إبنه علي بن الحسين ألأصغر عليه السلام عند رجله وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعا

=
إنصرف عبدالملك إلى دمشق ، ومصعب إلى الكوفة فكان يقول عبدالملك : إن مصعبا قد أبى إلا جميراته ، وألله موقدهن عليه ، فقال أبو الجهيم الكناني :
أكل عام لك يا جميرا ؟! تغزو بنا ولا تفيد خيرا
(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 637 .
(2) المصدر السابق .
(3) ألإبصار : ص 75 .
البالغون الفتح في كربلاء 228

معا ، ودفنوا العباس بن علي عليه السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره ألآن)(1) وروى رواية أخرى في صفحة 361 بعد أن سمى شهداء بني هاشم قال فهؤلاء سبعة عشر نفسا عليهم السلام .. وهم (شهداء بني هاشم) وهم كلهم مدفونون مما يلي رجلي الحسين عليه السلام في مشهده ، حفر لهم حفيرة وألقوا فيها جميعا وسوي عليهم التراب إلا العباس بن علي عليه السلام فإنه دفن في موضع مقتله على المسناة بطريق الغاضرية وقبره ظاهر ، وليس لقبور أخوته واهله الذين سميناهم أثر وإنما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين عليه السلام ويومئ إلى ألأرض التي نحو رجليه عليه السلام بالسلام وعلى علي بن الحسين عليه السلام في جملتهم ويقال أنه أقربهم دفنا إلى الحسين عليه السلام . (فأما أصحاب الحسين عليه السلام رحمة ألله عليهم الذين قتلوا معه فإنهم دفنوا حوله ، ولسنا نحصل لهم أجداثا على التحقيق والتفصيل إلا أنا لا نشك أن الحائر محيط بهم عليهم السلام وأرضاهم وأسكنهم جنات النعيم)(2).
جاء في الكبريت ألأحمر : إن ألإمام زين العابدين لما إنتهى من مواراة الجسد الطاهر للإمام الحسين عليه السلام عطف على جثث ألأنصار وحفر حفيرة واحدة وواراهم فيها ، إلا حبيب بن مظاهر حيث أبى بعض بني عمه ذلك . ودفن ناحية عن الشهداء (3). وقد علق الشيخ محمد باقر القائني البيرجندي على هذه الرواية فقال : ولا يمكن الثقة بكل الرواية لكثرة إختلاف الرواة في كل باب وإن كثر عددها . فإنظروا إلى أخبار المواليد والوفيات والسير والمعجزات والمقاتلين والمقاتلات ولكن في التفصيل الذي ذكره السيد نعمة ألله الجزائري في كتابه مدينة العلم دفن

(1) ألإرشاد : ص 352 .
(2) ألإرشاد : ص 362 .
(3) الكبريت ألأحمر : ص 513 .
البالغون الفتح في كربلاء 229

الشهداء والسيد الجزائري من تلامذة العلامة المجلسي والرواية نقلها في إكسير العبادة عن بعض الثقاة عن الكتاب المذكور . هذا وإن كانت مباني السيد الجليل المتبحر على التسامح ونقل ألأخبار الضعيفة كما يشهد بذلك سائر كتبه من ألأنوار النعمانية ومسكن الفؤاد والمقامات وغيرها ولكن لا أرى بأسا بروايتها ونقلها حيث إنها لا منافاة بينها وبين المطالب ألأخرى والروايات المعتبرة (1).
ومما يؤكد ما ذهب إليه صاحب الكبريت ألأحمر ما ورد في كامل الزيارات لإبن قولويه القمي حيث ذكر قبر ألإمام الحسين عليه السلام وقبر علي إبن الحسين عليه السلام ثم قبور الشهداء ولم يذكر قبور أخرى أما الشيخ محمد مهدي شمس الدين قال ( ويقال إن بني أسد دفنوا حبيب بن مظاهر في قبر وحده عند رأس الحسين عليه السلام حيث قبره ألآن إعتناءً به لأنه أسدي وإن بني تميم حملوا الحر بن يزيد الرياحي على نحو ميل من الحسين عليه السلام ودفنوه هناك حيث قبره ألآن إعتناء به أيضا ولم يذكر ذلك المفيد رحمه ألله ) (2)، جاء في المزار يستحب زيارة شهداء الحسين عليه السلام اللذين في الحائر معه وما خرج كالعباس وحبيب والحر(3)وللمرحوم الشيخ المظفر أبو المرحوم العلامة الشيخ المظفر عليه الرحمة رأي يؤيد فيه صحة موقع القبر الشريف للصحابي الجليل حبيب بن مظاهر رحمه ألله مستندا بذلك إلى الرواية التي ذكرناها في ص 126 عن الكبريت ألأحمر ولكن الشيخ أخذها عن أسرار الشهادة للفاضل الدربندي ص 469 وألإيقاد للمقدس سيد محمد شاه عبدالعظيم ص 144 كما ذكر ذلك في كتابه

(1) الصدر السابق : ص 510 .
(2) محمد مهدي شمس الدين : أنصار الحسين عليه السلام : ص 143 ، نقلا عن السيد محسن ألأمين رحمه ألله في أعلام الشيعة ، ج4 ص 142 .
(3) السيد مهدي القزويني : المزار : ص 109 .
البالغون الفتح في كربلاء 230

البطل ألأسدي ص 73 فقال : تذاكرنا المستشهدين مع الحسين عليه السلام وضرائحهم وكيفية دفنهم وإنجر الحديث إلى المرقد المبارك المنسوب لحبيب قبل وجه الحسين عليه السلام مما يلي الرأس الشريف ، فقال العلامة السماوي رحمه ألله : إنه لا صحة له وإنه مفتعل وإدعى السماع من جماعة ومعنا شخص زعم أن أحد الفقهاء الكبار من مراجع الشيعة ذكر إسمه يدعي أن هذا المرقد إفتعله الخدام الذين يحتالون على إنتشال أموال الزائرين بضروب الحيل ويقتنصون دراهمهم بكل ما وجدوا إليه سبيلا جريا على المعروف من أعمالهم وأفعالهم المشهورة فصنعوا هذا المرقد أخيرا يستغوون به العوام وينشلون أموالهم ولم تسمح لي الظروف وتسنح لي الفرص ، فأسأل ذلك العلامة الشهير عن هذه المقالة أهي صحيحة أم مكذوبة عليه ؟ وأنا أعتقد بصحة المرقد ولا أرى وجها لهذه الدعوة ولا أثرا لهذا ألإفتعال خصوصا والقصة التي يذكرونها كانت في عصر علماء كان لهم النفوذ والسيطرة وهم ينكرون إحداث كل محدث ولو كان ذلك كما قيل لأنكروه وقاوموا من إبتدعه أشد المقاومة على ان المذكور في دفن الشهداء صريح بصحة هذا المرقد(1). أقول ولكن إشتهار ذلك وعمل الناس عليه ليس بدون مستند وألله تعالى أعلم .


4 ـ مسلم بن عوسجة

صحابي عظيم الشأن جليل القدر فارس شجاع أخلص في الولاء لرسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم وللإمام الحسين عليه السلام ، كان صحابيا ممن رأى رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم وسمع حديثه وروى عنه الشعبي (2).

(1) المظفر : البطل ألأسدي ص 73 .
(2) السماوي : إبصار ألعين ص 81 .
البالغون الفتح في كربلاء 231

نسبه


هو مسلم بن عوسجة بن سعد بن ثعلبة بن داوُد بن أسد بن خزيمة أبو حجل ألأسدي السعدي . شخصية أسدية كبرى ،أحد شخصيات الكوفة البارزة ممن كاتب ألإمام الحسين عليه السلام من الكوفة وأخذ له البيعة عند مجيء مسلم بن عقيل رضي ألله عنه إلى الكوفة . يذكر الشيخ السماوي في ألإبصار أنه لما دخل عبيدألله بن زياد (لع) الكوفة وسمع به مسلم خرج إليه ليحاربه ، فعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج واسد ، ولأبي ثمامة على ربع تميم وهمدان ولعبيدألله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة وللعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة فنهدوا إليه حتى حبسوه في قصره ثم أنه فرق الناس بالتخذيل عنه فخرج مسلم من دار المختار التي كان نزلها إلى دار هانئ بن عروة رضي ألله عنه (1).
البحث لمعرفة مكان مسلم بن عقيل رضي الله عنه :


كان الهم ألأكبر لعبيدألله منذ وصوله الكوفة هو معرفة مكان مسلم إبن عقيل رضي ألله عنه فهو طلبته الكبرى ومبتغاه ألأساس تنفيذا لرسالة يزيد التي طلب منه أن يطلب مسلما رضي ألله عنه طلب الخرزة . وكان مسلم نتيجة ألإجراءات ألإرهابية المتسارعة التي إتخذها إبن زياد وما أخذ به العرفاء والناس قد خرج من دار المختار حتى إنتهى إلى دار هانئ رضي ألله عنه فإتخذها مقرا له ، وأخذت الشيعة تختلف إليه فيها على تستر وإستخفاء وتواص بالكتمان قال الدينوري : (وخفي على عبيدألله بن زياد (لع) موضع مسلم إبن عقيل رضي ألله عنه ، فقال لمولى له من أهل الشام يسمى معقلا وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس وقال خذ المال وإنطلق فإلتمس مسلم بن عقيل رضي ألله عنه وتأت له بغاية التأتي ! فإنطلق الرجل حتى دخل المسجد

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 232

ألأعظم وجعل لا يدري يتأتى ألأمر ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد فقال في نفسه أن هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة وأحسب هذا منهم فجلس الرجل حتى إنفتل من صلاته قام فدنا منه وجلس فقال : جُعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع وقد أنعم ألله علي بحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحب من أحبهم ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم أحب إيصالها إلى رجل منهم بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي عليه السلام فهل تدلني عليه لأوصل هذا المال إليه ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته ؟
قال له الرجل : وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد ؟
قال : لأني رأيت عليك سيماء الخير فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول ألله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال له الرجل : ويحك قد وقعت عليّ بعينيك أنا رجل من إخوانك الشيعة وإسمي مسلم بن عوسجة وقد سررت بك وساءني ما كان من حسي قبلك فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت خوفا من هذا الطاغية إبن زياد فأعطني ذمة ألله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس . فأعطاه من ذلك ما أراد !(1).
فقال له مسلم بن عوسجة رحمه ألله : إنصرف يومك هذا فإن كان غد فائتني في منزلي حتى أنطلق معك إلى صاحبنا ـ يعني مسلم بن عقيل رضي الله عنه ـ فأوصلك إليه . فمضى الشامي فبات ليلته فلما غدا إلى مسلم إبن عوسجة رضي ألله عنه في منزله فإنطلق به حتى أدخله إلى مسلم بن عقيل رضي ألله عنه فأخبره بأمره ودفع إليه الشامي ذلك المال وبايعه !

(1) الدينوري : ألأخبار الطوال ص 236 .
البالغون الفتح في كربلاء 233

فكان الشامي يغدو إلى مسلم بن عقيل رضي ألله عنه فلا يحجب عنه فيكون نهاره كله عنده فيتعرف جميع أخبارهم فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيدألله بن زياد فأخبره بجميع قصصهم وما قالوا وفعلوا في ذلك وأعلمه نزول مسلم في دار هانئ بن عروة رضي الله عنه (1).

إشارة :


علق صاحب المجموعة الموضوعية على موضوع إختراق حركة مسلم بن عقيل رضي ألله عنه في الكوفة فقال : قد يأسف المتتبع بادئ ذي بدء للسهولة التي تمت بها عملية إختراق حركة مسلم بن عقيل رضي الله عنه من داخلها على يد الجاسوس مولى عبيدألله بن زياد (لع) ، من طريق مسلم إبن عوسجة ألأسدي رحمه الله وهو علم من أعلام الشيعة في الكوفة وأحد شهداء الطف وهو الشريف السريُّ في قومه والفارس الشجاع في المغازي والفتوح ألإسلامية وقد شهد له ألأعداء بشجاعته وخبرته وبصيرته وإقدامه .
وفي ظن المتتبع إن على مسلم بن عوسجة رحمه ألله أن يحذر أكثر ويحتاط حتى يطمئن تماما إلى حقيقة هوية معقل الجاسوس قبل أن يدله على مكان مسلم بن عقيل رضي الله عنه وإستأذن له في الدخول عليه ليخترق بذلك الحركة من داخلها لكن ما وقع فعلا هو إبن عوسجة رحمه ألله لم يكن قد قصر في حذره وحيطته غير أن معقلا كان فعلا (ماهرا في صناعته وخبيرا فيما إنتدب إليه) لإختراق حركة مسلم رضي ألله عنه من داخلها . أما سهولة تعرفه على إبن عوسجة رحمه ألله فلا تحتاج إلى كثير جهد ومشقة إذ كان رحمه ألله وجها شيعيا معروفا في الكوفة وقد كشف له معقل عن سر سهولة تعرفه عليه حين قال له (سمعت نفرا يقولون : هذا رجلُ له علم

(1) الدربندي : أسرار الشهادة : ج2 ص 49 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي