البالغون الفتح في كربلاء 299
لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فإني لا أرى الموت إلى سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما(1)ثم إن ألإمام الحسين عليه السلام قام وركب ، وصار كلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى ، حتى بلغ كربلاء ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم فلما وصلها قال ما إسم هذه ألأرض . فقيل كربلاء فقال : أنزلوا ههنا وألله محط ركابنا وسفك دمائنا ، ههنا وألله مخط قبورنا ، وههنا وألله سبي حريمنا ، بهذا حدثني جدي(2).
رأي :


يذهب الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه أنصار الحسين عليه السلام ص 84 بقوله : (توحي لهجة بعض كتب المقتل بأن الحر كان متعاطفا مع الثورة منذ لقي ألإمام الحسين عليه السلام ونحن نشك في ذلك ونرجح أن هذه اللهجة نتيجة لتأثر كتاب المقتل بالموقف النفسي الذي تولد نتيجة لتحول الحر في النهاية إلى جانب الثورة ) أما من جانبنا ـ مع إحترامنا وإجلالنا لآراء السادة الكتاب والمؤرخين ـ فإن ما ذهب إليه المرحوم سماحة العلامة الشيخ شمس الدين نرى غير ذلك لأن الدلائل والشواهد تشير خلاف ما ذهب إليه فموضوع :
1 ـ ألإئتمام بالصلاة وغيرها مما سبق ذكره .
2 ـ رد الحر على كلام ألإمام الحسين عليه السلام (ثكلتك أمك) .
3 ـ قوله للإمام الحسين عليه السلام خذ طريقا لا يقدمك الكوفة ولا يردك إلى المدينة .

(1) الملهوف : ص 138 .
(2) المصدر السابق : ص 139 .
البالغون الفتح في كربلاء 300

4 ـ قيام إبن زياد بوضع عين على الحر لإنفاذ أوامره .
كل هذه شواهد حية على ميول الحر مع ألإمام الحسين عليه السلام منذ البداية .

توبة الحر :


من مزايا واقعة الطف هو ذلك التنوع التكاملي الذي شمل جميع السمات ألإنسانية لتكون هذه الواقعة ملبية لجميع الغايات النبيلة فتمثلت فيها أسمى أسس القيادة الحكيمة والشجاعة وقيم التضحية والفداء والتي تمثلت في ألإمام الحسين بن علي عليهما السلام ليصبح رمزا نبيلا للشهادة فهو سيد الشهداء ومن الشباب مثلها الشاب الهاشمي علي ألأكبر عليه السلام الذي صار رمزا جسّد الرسالة المحمدية والقاسم بن الحسين الذي صار رمزا لكل حلم حنته دماء وريده إستبشارا بالتضحية ومثلما نجد الشباب نجد الكهولة الوقورة التي تمثلت في حبيب بن مظاهر ليصبح رمزا لكل كهولة وهناك الطفولة المذبوحة التي تمثلت في عبدألله الرضيع هناك النساء وكفاحهن والسبي والدفاع الرسالي المتمثل بجميع غايات المواجهة وهناك سمات إنسانية عالية مثل الشغف الذي تمثل بجنون عابس والحكمة التي تمثلت في زهير وإنقلابه على الذات تبعا للحقيقة ألأسمى وهناك نسك برير وهناك توبة الحر بن يزيد الرياحي التي أصبحت عنوانا من عناوين الجهاد ضد النفس ألأمارة بالسوء والندم والتوبة الفاعلة وإستنهاض الضمير للخيار ألأمثل إذ تضمن موقفه الشجاع والنبيل صراعا نفسيا كبيرا بعدما سمع خطاب الحسين عليه السلام فهنا تأتي مصداقية وجود الضمير الذي يعيش جوهر هذا الصراع فوقف ينازع النفس الطامعة بمظهر من مظاهر الحياة وبهارجها فيكون هنا السؤال كبيرا بين أن يبقى محاربا للإمام الحسين عليه السلام ليحافظ على مركزه ألإجتماعي وبين أن يلتحق بألإمام الحسين عليه السلام ويفقد مركزه المرموق والقيادي اللائق وهو المقرب

البالغون الفتح في كربلاء 301

إلى السلطة وأميرا على جيش عدته ألف فارس وهناك جوائز ثمينة لمن يشترك في حرب ألإمام الحسين عليه السلام وهو الذي أيقن إن ترك ألإمام الحسين عليه السلام دون نصير هو الخسران المبين وكان يضمر في نفسه وقلبه وضميره الولاء الحسيني ولم يكن راغبا في قتاله أساسا بل كان يتمنى في مكامن نفسه أن لا يلتقي بألإمام عليه السلام ولا يريد أن يصافه كي لا يضع نفسه في شيء من أمره لكونه يعرف من هو وما هي رسالته وقد أكدت له المواقف التي عاشها من خلال ملازمته للحسين عليه السلام طول الطريق ليبدأ الصراع ألآخر في النفس وأصداء الهاتف الذي توجه في الكوفة أميرا للوثبة (أبشر يا حر بالجنة) فأبى الحر إلا صحوة الضمير لتبدأ ألإنعطافة ولتبرز النتائج مثمرة بالخير تتمخض عن هزة عنيفة من ألأعماق بدأت ملامحها من ألإرتجاف الذي إنتاب كيانه قبل بدء القتال ليسأل إبن سعد أصلحك ألله أ مقاتل أنت هذا الرجل ؟ فقال : أي وألله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح ألأيدي . قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى !؟ قال عمر : أما لوكان ألأمر إلي لفعلت ولكن أميرك قد أبى .
وأيقن الحر أن القوم جادون ومصممون على الحرب فأقبل الحر حتى وقف مع النار وهو يرتعد فرآه المهاجر بن أوس وهو من جيش إبن زياد وهو على هذه الحالة فسأله بإرتياب : وألله أن أمرك لمريب ، وألله ما رأيت منك في موقف قط ما أراه ألآن ، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك فما هذا الذي أرى منك ؟
قال : إني وألله أخير نفسي بين الجنة والنار ، وألله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وأحرقت . ثم ألوى بعنان فرسه صوب ألإمام الحسين عليه السلام مطأطئا برأسه إلى ألأرض حياء من ألإمام عليه السلام ولما دنا منه قال : أللهم إليك أنيب فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك يا أبا عبدألله إني تائب فهل لي من توبة ؟

البالغون الفتح في كربلاء 302

ونزل عن فرسه ووقف أمام ألإمام الحسين عليه السلام ودموعه تجري على خده ويقول يابن رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وجعجع بك في هذا المكان وألله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك المنزلة أبدا فقلت في نفسي : لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم ولا يرون أني عصيتهم وأما هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه ووألله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك وأني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي مواليا لك بنفسي حتى أموت بين يديك أ فترى لي توبة ؟ فرد عليه ألإمام السلام (نعم يتوب ألله عليك)(1).
قال الحر (أنا لك فارس خير مني راجلا أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري) فقال ألإمام الحسين عليه السلام (فإصنع مابدا لك يرحمك ألله)(2).
وقد وردت الروايات من بعض المؤرخين تفيد أن ثلاثين فارسا إلتحقوا معه إلى جانب ألإمام الحسين عليه السلام منهم إبن كثير في البداية والنهاية ورغم تتبعي للكثير من المصادر التأريخية المعتبرة لم أجد منيؤيده بل ألأكثر من ذلك : إن الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه : أنصار الحسين عليه السلام ص 84 قال لم يثبت لدينا إلتحاق أي أحد مع الحر حتى إبنه (علي وأخيه مصعب بن يزيد وغلامه عروة ) .
وبعدها وقف أمام الحسين وإستأذن أن يعظ القوم ويسدي لهم النصيحة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الحق فأذن له ألإمام الحسين عليه السلام فرفع صوته قائلا :

(1) مقتل الخوارزمي : ج2 ص 13 .
(2) الطبري : ج4 ص 626 .
البالغون الفتح في كربلاء 303

« يا أهل الكوفة ، لأُمكم الهبل والعبر أ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ؟ أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه من التوجه في بلاد ألله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته فأصبح كألأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، وحلأتموه ونساءه وأصحابه عن ماء الفرات الجاري يشربه اليهودي والنصراني والمجوسي ، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هم أولاده قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا صلى ألله عليه وآله وسلم في ذريته لا سقاكم ألله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه»(1).
قال سماحة العلامة الحجة الشيخ باقر شريف القرشي إن القوم عندما سمعوا خطاب الحر كان المئات منهم يعيشون الصراع من أنفسهم وكانوا على يقين من باطل عملهم إلا أنهم إستهوى عليهم الشيطان وإستجابوا لرغبتهم النفسية التي طمعت في الدنيا وكان جوابهم عليه أن رموه بالنبال . وقف الحر رضي ألله عنه أمام الحسين عليه السلام وإستأذنه في القتال فأذن له ألإمام عليه السلام (2).

إستشهاده :


عن أبي مخنف أن يزيد بن سفيان الثغري من بني الحر بن تميم

(1) المصدر السابق : ص 627 .
(2) حياة ألإمام الحسين عليه السلام ج3 ص 213 .
البالغون الفتح في كربلاء 304

قال : أما وألله لو رأيت الحر حين خرج لأتبعته السنان(1).
قال : فبينما الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدما ويتمثل بقول عنترة بن شداد :
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم

وكانت بين الحر ويزيد بن سفيان عداوة قديمة ومتأصلة فإستغلها الحصين بن تميم التميمي فقال له هذا الحر الذي كنت تتمنى قتله وحمل عليه يزيد فشد عليه الحر فقتله وسدد أيوب بن مشرح الخيواني سهما لفرس الحر وهي تجول فعقرها وشب به ألفرس فوثب عنها الحر كأنه الليث والسيف في يده ويقول أبو مخنف ما رأيت أحدا قط يفري فريه (2)ثم قال أنه لما قتل حبيب رضي الله عنه أخذ الحر يقاتل راجلا وأخذ يضرب فيهم ويرتجز :
إني أنا الحر ومأوى الضيف أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير من حل بلاد الخيف أضربكم ولا أرى من حيف

ثم أخذ يقاتل قتال ألأبطال المستميتين الراغبين بلقاء ربهم غير آبه بالموت يقاتل ومعه زهير بن القين فكان إذا شد أحدهم وإستلحم شد ألآخر وإستنقذه وداما على ذلك ساعة حتى شدت جماعة من الرجال بسيفها ورماحها فأردته صريعا يتخضب بدمه الزاكي . ووقف عليه ألإمام الحسين عليه السلام فجعل يمسح الدم عن وجهه يقول له «أنت الحر كما سمتك أمك وأنت حر في الدنيا وألآخرة»(3).
وقد رثاه بعض أصحاب ألإمام الحسين عليه السلام ويقال أنه علي

(1) الشيخ السماوي : إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام ص 160 .
(2) أي يفعل فعله في الضرب والمجالدة .
(3) بحار ألأنوار : ج18 ص 513 .
البالغون الفتح في كربلاء 305

ألأكبر عليه السلام (1)بهذه ألأبيات :
لنعم الحر حر بني رياح صبور عند مشتبك الرماح
ونعم الحر إذ فادى حسينا وجاد بنفسه عند الصباح

رأي :


جاء في كتاب الملهوف ص 159 إن إلتحاق الحر إلى معسكر ألإمام الحسين عليه السلام كان عندما نادى الحسن عليه السلام (أما من مغيث يغيثنا لوجه ألله أما من ذاب يذب عن حرم رسول ألله ) وتابعه على ذلك الخوارزمي في المقتل وألإستدلال بذلك قول الراوي قال الحر للإمام الحسين عليه السلام (كنت أول من خرج عليك فأذن لي أن أكون أول قتيل بين يديك لعلي أكون ممن يصافح جدك محمدا صلى ألله عليه وآله وسلم غدا يوم القيامة ).
ثم يذكر السيد إبن طاوُس رحمه ألله : إنما أراد أول قتيل من أآن لأن جماعة قتلوا قبله . وكذلك في البحار ج18 ص523 في حين أن المحقق رحمه الله ذكر في ص 137 في نفس المصدر قال (أنه تاب قبل نشوب المعركة لما اقبلت خيل الكوفة تريد قتل الحسين عليه السلام واصحابه وأبى أن يكون منهم فإنصرف إلى الحسين عليه السلام ) .
لو تمعنى فيما أورده السيد إبن طاوُس والخوارزمي رضي ألله عنه في هذه الرواية نجد أن هناك تباينا واضحا بين الرواية وبين الواقع التاريخي من تسلسل ألأحداث . فلو إفترضنا أن الحر إلتحق بألإمام الحسين عليه السلام بعد بدء القتال فلماذا يسأل عمر بن سعد (لع) أ مقاتل أنت هذا الرجل ؟ فنرى من السذاجة أن يوجه هذا السؤال من الحر والمعركة قائمة .
وعلى هذا ألأساس أورد ألآتي :

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 306

أولا :إن زمن إلتحاق الحر رضي ألله عنه بألإمام الحسين عليه السلام معلوم وواضح من خلال ما رواه كل من الطبري ج4 ص 637 وإبن ألأثير ج3 ص 518 والعلامة المجلسي في البحار ج18 ص 512 إذ نصوا صراحة أن الحر رضي الله عنه إلتحق بألإمام الحسين عليه السلام قبل بدء المعركة وأن المعركة بدأت بعد أن إنتهى الحر من خطابه الذي وجهه إلى عسكر إبن سعد لعنه ألله عندما إستأذن ألإمام الحسين عليه السلام بذلك .
فخاف إبن سعد (لع) أن ينقسم العسكر عليه ويتأثر بخطاب الحر فقدم برايته وأخذ سهما فرمى به وقال : إشهدوا لي أني أول من رمى .
ثانيا : إن أمنية الحر أن يكون أول شهيد بين يدي ألإمام الحسين عليه السلام لم تتحقق إستنادا لما ذكره المؤرخون المار ذكرهم أيضا حيث ذكروا أن الحر رضي ألله عنه برز للقتال بعد إستشهاد حبيب بن مظاهر ألأسدي رحمه ألله وعندما عقرت فرسه أخذ يقاتل راجلا وهو يقول كما ذكر عنه صاحب البحار ج18 ص 513 :
إني أنا الحر ونجل الحر أشجع من ذي لبد هزبر
ولست بالجبان عند الكر لكنني الوقاف عند الفر

من جانبنا قد يكون أول قتيل من المبارزين عند إستغاثة الإمام الحسين عليه السلام بعد الحملة ألأولى هو يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي ويكنى أبو الشعثاء وكان في أصحاب إبن سعد(1).
حيث يذكر السيد محسن ألأمين في أعيان الشيعة ج2 ص 426 إذ يقول فلما ردوا على الحسين عليه السلام ما عرضه عليهم عدل يزيد زياد إلى ألإمام الحسين عليه السلام وقاتل بين يديد وجعل يرتجز يقول :

(1) تاريخ الطبري : ج4 ص 641 .
البالغون الفتح في كربلاء 307

أنا يزيد وأبي مهاصر أشجع من ليث بغيل خادر
يا رب إني للحسين ناصر ولإبن سعد تارك وهاجر

وجثا بين يدي ألإمام الحسين عليه السلام فرمى بمائة سهم ما سقط منها إلا خمسة أسهم وكان راميا ، وكلما رمى يقول له ألإمام الحسين عليه السلام (أللهم سدد رميته وإجعل ثوابه الجنة) فقتل من أصحاب عمر بالنشاب جماعة وكان أول قتيل ثم إرتمى الناس وتبارزوا ونص على ذلك أيضا إبن ألأثير ج3 ص 526 .
فعليه لا يمكن ألإستدلال بهذه النقطة من ناحية إلتحاقه قبل نشوب المعركة أو أثنائها لعدم ثبوت شهادته كأول قتيل .
ثالثا : المتأمل في قول (قرة بن قيس ) عندما ذكر فظننا أنه يريد أن يتنحى ولا يشهد القتال . البحار ج18 ص 511 ولو كان القتال قد بدأ لا يقول يتنحى ولا يشهد القتال .

وقفة :


يظن البعض أن توبة الحر قد قبلها الحسين عليه السلام ظاهرا لما كان عليه من وضع صعب وظروف عسيرة لأنه لا يمكن بأي حال من ألأحوال قبول توبة الحر بسبب ما فعله بألإمام الحسين عليه السلام في الطريق وحتى وصوله كربلاء وأنه مقبول ولكن ليس بالدرجة الرفيعة وهذا الرأي غير مقبول قطعا ولا يتناسب مع مكانة الحسين عليه السلام لأن أخلاق أهل البيت عليهم السلام تأبى إلا العفو عن المسيء والصفح عن المذنب المقصر وهم الدعاة إلى ألله وأبواب الرحمة التي منها يؤتى وعنها يؤخذ فمن مكارم أخلاقهم وعظيم أمرهم العفو والصفح والتوبة عمن ظلمهم فكيف بالحر الذي قاتل مع الحسين عليه السلام لنصرته وبذل نفسه من اجل دين ألله ورسالة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم

البالغون الفتح في كربلاء 308

وألإمام الحسين عليه السلام هو الذي قبل توبته ، وعند إستشهاده وقف عنده يؤبنه وقال له أنت حر كما سمتك أمك الحر . أنت حر في الدنيا وسعيد في ألآخرة فها هو الشيخ عبدالحسين ألأعسم يقول :
ألا يا زائرا بالطف قبرا ربحت لزائره التجارة
أشر للحر من بعد وسلم فإن الحر تكفيه ألإشارة

وقد رد عليه الشيخ جواد الهر الكربلائي بقوله :
زر الحر الشهيد ولا تؤخر زيارته على الشهدا وقدم
ولا تسمع مقالة أعسمي أشر للحر من بعد وسلم

وللعلامة الحجة السيد محمد باقر الطباطبائي قوله :
زر الحر الشهيد فدته نفسي فإن الحر أهل للزياره
فقد وألله نال ألأجر من قد تعنى نحو مرقده وزاره
ولا تك منه في شك وريب فإن السبط قد قبل إعتذاره
ولما أن أتاه مستجيرا منيبا من تجعجعه أجاره
وبشر أنه حر سعيد فزال الشك من تلك البشاره
فلطف السبط كفّر ما جناه وأطفأ ناره وأزال عاره
أشك فيه بعد اللطف ممن يدور اللطف في العقبى مداره؟
أمير ساوم الدنيا بدين فباع بنصره الدين ألإماره
وتاجر ربه بالنفس طوعا وكل الربح في تلك التجاره
به أضحى حواريا وأمسى بنصرته لثار ألله ثاره
وليس الحر عند الحر إلا مزار فيرد عظّم شعاره
فزره وإستجر بألله فيه فإن الحر باب للإجاره


البالغون الفتح في كربلاء 309

دفن الحر :


ولما غادر إبن سعد كربلاء نهض جماعة من بني أسد كانوا نزولا هناك وأقبلوا إلى كربلاء ، ولما شاهدوا الحسين عليه السلام واصحابه على تلك الحالة عمدوا إلى دفن ألأجساد فدفنوا ألإمام الحسين عليه السلام وحده ووضعوا علياً ألأكبر عند رجليه ، ودفنوا الحر ذووه في الموضع الذي وقع فيه ، ولا نعرف قبور الشهداء على التعيين لمن ولكن مما لا شك فيه أن الحائر محيط بهم تحت قبر الحسين عليه السلام إلا إن علياً ألأصغر اقرب منهم إلى الحسين عليه السلام وكان بنو أسد يفتخرون على قبائل العرب بأنهم صلوا على الحسين عليه السلام ودفنوه(1). قال ثقة المحدثين الشيخ عباس القمي (طاب ثراه) : أما بخصوص مدفن الحر وعون رحمهما ألله لم أعثر على ذكر لها في كتب الزيارات المعتبرة ولكن سيد العلماء والفقهاء آغا سيد مهدي القزويني في كتابه الموسوم فلك النجاة قال بإستحباب زيارة ألأشخاص الذين إستشهدوا مع ألإمام الحسين عليه السلام منهم المدفونين في الحرم الحسيني ومنهم من دفن خارج الحائر مثل العباس عليه السلام وحبيب والحر ومسلم بن عقيل رضي ألله عنهم وهانئ بن عروة رضي ألله عنه في الكوفة وعون بن عبدألله بن جعفر هذا ليس كلاما ظاهرا بل من الصريح أن عون كان موجودا مع الشهداء أما في مسألة الحر رحمه ألله إضافة إلى ما ذكر .
كذلك صاحب كتاب حجة السعادة في حجة الشهادة في فصل بعد شهادة ألإمام الحسين عليه السلام قال أن عمر بن سعد (لع) في يوم عاشوراء وحتى زوال اليوم الثاني كان موجودا في كربلاء وطلب من جماعة من معتمديه حراسة ألإمام زين العابدين وبنات أمير المؤمنين عليه السلام وباقي

(1) كامل البهائي : ج2 ص 356 .
البالغون الفتح في كربلاء 310

النساء الذي كان مجموعهن عشرين إمرأة وألإمام زين العابدين في ذلك الوقت عمره 22 سنة وألإمام محمد الباقر عليه السلام أربع سنوات وألإثنان كانا في كربلاء وألله حرسهم وحينما ذهب موكب السبايا قام جماعة من قبيلة بني أسد يسكنون قرب الفرات شاهدوا جثث الشهداء على ألأرض فقاموا بدفن ألإمام الحسين عليه السلام لوحده وإبنه علي بن الحسين عند رجله والعباس عليه السلام بجانب الفرات عند محل إستشهاده والباقي حفروا لهم حفرة كبيرة في الحائر ودفنوا الشهداء فيها أما الحر رحمه ألله فقام أقاربه بدفنه في المكان الذي إستشهد فيه وأفردوا له قبرا والسند في هذا كتاب كامل البهائي من مؤلفات الشيخ العالم الجليل (حسن بن علي الطبري طاب ثراه) وبما أني لم أجد كتاب البهائي بكامله بل قرأت قسما منه وتفحصت في الموضوع كثيرا ولكنني لم أجد العبارة لكي أنقلها بنصها ولكن أحد الفضلاء وأمراء فن المنبر أخبرني بالشيء الذي كنت أبحث عنه وعندما رجعت إلى شرح أحد القواميس المكتوب باللغة التركية لغرض تعيين كلمة نواويس المذكورة في خطبة سيد الشهداء عليه السلام عند رحلته إلى العراق (كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ) (1) رأيت أن الكاتب ذكر موضوع مكان مدفن الحر وسبب دفنه هناك وأعتذر عن نقل العبارة لغيابها عن ذاكرتي . وفي موضوع تعيين مقام الحر يكفي أن نقول أن الشيخ الشهيد عليه الرحمة في كتاب الدروس يقول بعد ذكره فضائل زيارة الحسين عليه السلام وبعد إكمالي للزيارة أزور إبنه علي بن الحسين عليه السلام ثم الشهداء عليهم السلام والعباس عليه السلام والحر بن يزيد الرياحي ...إلخ . وهذا الكلام ليس ظاهريا بل صريحا والذي كان في عصر الشيخ الشهيد كان قبر الحر بن يزيد معروفا ومكان القبر عند

(1) النواويس هو موضع دفن الحر فإن المنطقة قديما تعرف بالنواويس .
البالغون الفتح في كربلاء 311

الشيخ الشهيد كان معتبرا ولا نزيد أكثر من هذا (1)جاء في دائرة المعارف للأعلمي : لما فرغ ألأسديون من دفن ألأجساد في كربلاء قال لهم ألإمام زين العابدين عليه السلام : هلم نواري جثة الحر الرياحي رضي ألله عنه ، فتمشى وهم خلفه حتى وقف عليه فقال : اما أنت فقد قبل الله توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام إبن رسول ألله صلى ألله عليه وآله وسلم (2).

رأس الحر :


جاء في بعض الروايات : أن رأس الحر قطع من بدنه وحمل مع الرؤوس الطاهرة إلى الشام ، بل كان رأسه مقدما على سائر الرؤوس الزاهرة(3).
قال السيد محمد هايدي الخراساني : قال أبو مخنف : قال سهل : ودخل الناس من باب الخيزران، فدخلت في جملتهم وإذا قد أقبل ثمانية عشر رأسا ، وإذا بالسبايا على المطابا من غير وطاء ، ورأس الحسين عليه السلام بيد شمر (لع) . ـ إلى قوله ـ وأقبل من بعده رأس الحر بن يزيد الرياحي رضي ألله عنه وأقبل من بعده رأس العباس عليه السلام يحمله قشعم الجعفي لعنه ألله واقبل من بعده رأس عون يحمله سنان بن أنس النخعي لعنه ألله ، واقبلت الرؤوس على أثرهم . أقول : ترى أن رأس الحر لم يفارق رأس ألإمام عليه السلام وتقدم على سائر الرؤوس حتى بني هاشم (4). فهذا رأس قمر العشيرة بعد رأسه ، فما أدري ، كيف يكون ذلك ؟ ولا يكون إلا من جهة أن الحر كان يخجل من المخدرات فكان يتباعد ، وحيث إنهن مكشفات

(1) الشيخ عباس القمة :هدية الزائرين وبهجة الناظرين بالفارسية : ص 136 .
(2) الدكتور لبيب بيضون موسوعة كربلاء : ج2 ص 287 .
(3) القول السديد : ص 140 .
(4) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 312

لا يدنو منهن إلا رؤوس بني هاشم . وقيل غير ذلك حيث يروى أن السلطان إسماعيل الصفوي عندما فتح بغداد سنة 914 هجرية قصد في اليوم الثاني مشهد ألإمام الحسين عليه السلام وسمع أن بعض من الناس يطعنون بالحر رضي ألله عنه فجاء إلى قبره وأمر بفتح القبة وشاهد جثة الحر رضي الله عنه وكأنه قتل الساعة مستلقيا على ألأرض وفي رأسه عصابة مشدودة فأمر السلطان أن تفتح العصابة التي كان ألإمام الحسين عليه السلام قد شدها على رأس الحر رضي الله عنه وعندما فتحت جرى الدم متدفقا من الرأس دون توقف فرجع السلطان العصابة على رأسه ثانية فأمر السلطان بشده بعصائب أخر ، فكلما شدوا إشتد الدم وكلما عالجوافيقطعة لم يقدروا فأذعنوا بأنه لا يطلب إلا تلك العصابة ولا يكون قطع الدم إلا ببركتها . فأخذ السلطان من تلك العصابة قطعة وذلك للتيمن والتبرك ثم لفوا باقيها وشدوا بها رأسه كما كان فسكن الدم ، فزاد إعتقاد السلطان وحسنت كاملا عقيدة الحاضرين بعد ما كان الشك يساورهم في امر الحر عليه السلام فأرجعوه إلى مضجعه وأمر ببناء قبره وعين خادما وبعض الموقفات(1) وتلك القطعة المباركة من العصابة موجودة في بلدة أصبهان عند أولاد تلك السلسلة يتوارثونها ، ومهما وقعت في دار من دور تلك السلسلة زادت رفعتها وظهرت بركتها ، ودارت رحى الغنى والسعة مدارها فيها ، وأمرها مشهور ، وخطرها معروف ، يتنافسون بها بأعظم ما يكون .
قال العارف الرباني الحاج محمد حسن ألأصبهاني ـ وهو من اجل بيوت العلم والتجارة والديانة في اصبهان : تشرفت بزيارة طاقة من أوتار تلك القطعة ، وهو منسوجة من وبر الخز على لون الفستق ألإيراني ، وقد شاهدت منها البركة والعزة والثروة ، حتى سرق ذلك مني في الحمام

(1) المصدر السابق .
البالغون الفتح في كربلاء 313

فتأسفت عليه في الغاية وحزنت بلا نهاية ، وإنعكس حالي بعده يوما فيوما (1).


2 ـ عمرو بن جنادة بن الحارث ألأنصاري الخزرجي :

صحب أبوه جنادة بن الحارث وهو غلام لم يراهق وقيل إبن إحدى عشرة سنة أو إبن تسع سنين وعبّر عنه عامة أهل السير والمقاتل بالشاب والفتى . تقدم بعد مقتل أبيه رضي ألله عنه إلى ألإمام الحسين عليه السلام يستأذنه في القتال فلم يأذن له فأعاد عليه الإسئذان . فقال ألإمام الحسين عليه السلام (هذا غلام قتل أبوه في الحملة ألأولى ولعل أمه تكره ذلك) .
قال الغلام : إن أمي هي التي أمرتني وألبستني لامة الحرب(2).
فأذن له الحسين عليه السلام فبرز الغلام إلى الحرب وهو يقول :
أميري حسين ونعم ألأمير سرور فؤاد البشير النذير
علي وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى له غرة مثل بدر منير

وجاء في موسوعة كربلاء (3)الرجز التالي :
أضق الخناق من إبن سعد وإرمه من هامه بفوارس ألأنصار
ومهاجرين مخضبين رماحهم تحت العجاجة من دم الكفار
خضبت على عهد النبي محمد فاليوم تخضب من دم الفجار
واليوم تخضب من دماء معاشر رفضوا القران لنصرة ألأشرار

وقاتل فما أسرع أن قُتل فأحتز رأسه ورمي به إلى جهة معسكر

(1) المصدر السابق .
(2) السماوي : ألإبصار : ص 124 .
(3) الدكتور لبيب بيضون : ص 103 نقلا عن مقتل الخوارزمي.
البالغون الفتح في كربلاء 314

الحسين عليه السلام فأخذت أمه الرأس ومسحت الدم عنه وهي تقول : أحسنت يا بني يا سرور قلبي ويا قرة عيني . وقد أورد الدكتور لبيب بيضون إشكالا موضوعياً نورده كما هو : لعل السيد عبدالرزاق المقرم رحمه ألله في مقتله إشتبه بأن هذا الشاب هو عمرو بن جنادة ألأنصاري ، مع أن أغلب المصادر تورده منفصلا عن عمرو بن جنادة ، مما يدل على أنه شخص آخر (1). وقد ذكر السيد عبدالكريم الحسيني القزويني : أن أباه الذي قتل في أول المعركة هو جنادة بن كعب الخزرجي(2).
يقول السيد المقرم : وجاء عمرو بن جنادة ألأنصاري بعد أن قُتل أبوه ، وهو إبن إحدى عشرة سنة يستأذن الحسين عليه السلام فأبى ، وقال : هذا غلام قُتل أبوه في الحملة ألأولى ، ولعل أمه تكره ذلك . أما الخوارزمي فيقول في مقتله : ثم خرج من بعده شاب قُتل أبوه في المعركة وكانت أمه معه . فقالت : يا بني قاتل بين يدي إبن رسول ألله حتى تقتل . فقال : أفعل . فخرج يستأذن الحسين عليه السلام فأبى ، وقال : هذا شاب قُتل أبوه في (الحملة ألأولى ) ولعل أمه تكره خروجه . فقال الشاب : أمي أمرتني يا بن رسول ألله .
وقاتل الشاب قتال ألأبطال ، وأمه تنادي خلفه : أبشر يا بني ستسقى من يد ساقي حوض الكوثر . فبرز وهو يقول :
أميري حسين ونعم ألأمير سرور فؤاد البشير النذير
علي وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير

فما أسرع أن قتل ورمي برأسه إلى جهة الحسين عليه السلام ، فأخذت أمه رأسه ومسحت الدم عنه ، وقالت : أحسنت يا بني ، يا قرة عيني وسرور

(1) المصدر السابق : ص 103 .
(2) الوثائق الرسمية : ص 182 .
السابق السابق الفهرس التالي التالي