علي الاكبر 61

فضله

لقد كان علي الأكبر سلام الله عليه ابان شبابه تطفح عليه لوائح العظمة وتلوح على أساريره أنوار الفضيلة ويتدفق من جوانبه الكرم النبوي فكان على شرفه الباذخ ومجده الأثيل وخطره التليد الطارف متلفعاً بكل خصال الخير يرفل على باحة المنعة بأبراد المناقب القشيبة وحلل المآثر الساطعة من معروف طافح ونائل متدفق وضرائب حميدة كاثرت النجوم فكثرتها وطاولت الجبال فبذتها وكان فذ وقته في جميع الفضائل آخذاً بأعضاد الشرف والسؤدد وان الواصف مهما تشدق لينحسر بيانه عن بلوغ غاية فضله ولم يجد المخالف إلا البخوع له ومما يرشدنا الى ظهور الفضائل وزهو المآثر عن علي الأكبر في عصره قول مادحه :
لم ترعين نظرت مثله من محتف يمشي ومن ناعل

علي الاكبر 62

يغلـي نهـيء اللحـم حتى إذا انضج لم يغـل على الأكل (1)
كـان إذا شـبـت لـه نـاره أوقدها بالشـرف الـقابـل
كيما يراها بـائـس مـرمـل أو فرد حـي ليـس بالاهل
لايؤثر الـدنـيـا علـى دينه ولا يبيع الحـق بالبـاطـل
اعني ابن ليلى ذا السدي والندى اعني ابن بنت الحسب الفاضل (3)
وهذه الصفات التي نضدها الشاعر في مسلكه الذهبي لم تجر مجرى المبالغة في القول أو الخيال الشعري وانما هي حقائق راهنة كيف لاوقد تفرع « الأكبر » من الدوحة النبوية وكان غصناً من اغصان الخلافة الإلهية وان الفضائل الفواضل بأسرها موروثة له من سلفه الطاهر الهاشمي .

(1) يغلي : الأولى بمعنى يفير ، والنهيء : كامير اللحم الني ويغل : الثانية ضد يرخص .
(2) الشرف : الموضع العالي ، والقابل : بمعنى المقبل .
(3) السدى : هو الندى أول الليل ، والندى : هو النائل آخر الليل .
علي الاكبر 63

ومما يشهد له ان معاوية مع ماعليه من المباينـة مع الهاشمييـن لم يسعـه إلا الاعتراف أمام قومه باجتماع الفضائل في« علي الأكبر » وانه جدير بالخلافة وقابل للزعامة الدينية يوم قال من حضر عنده من أهل الشام وغيرهم :
من أحق بهذا الأمر ؟
قالوا : أنت .
فقال معاوية لاأولى الناس بهدا الأمر علي بن الحسين بن علي جده رسول الله وفيه شجاعة بني هاشم وسخاء بني امية وزهو ثقيف (1) .
نحن لانشك في أن الأكبر كان جامعاً للفضائل وحائزاً لما هو أربى وأرقى منها وهو العصمة عن المآثم ومنافيات الأخلاق والمروءة ولايأتي بما يخالف الأولى كيف لاوقد جمع الخلق المحمدي بأتم معانيه وحتى عن الدنس من الآثام بشهادة أبيه الواقف على نفسيات الرجال وكما شهد نص الزيارة المتلوة عند قبره في أول رجب والتي علمها الصادق عليه السلام أبا حمزة الثمالي (2) .

(1) مقاتل الطالبيين ص 31 إيران .
(2) كامل الزيارة لابن قولويه .
علي الاكبر 64

وهذه الكلمة الصادرة من معاوية ترشدنا الى ان علياً الأكبر يومئذ معروف عند أهل الشام وغيرهم بأنه الجامع للقداسة الإلهية ومحاسن الأخلاق بأجلى مظاهرها وإلا فلا يعقل أن يشير معاوية بأهلية الخلافة الى رجل غير مرموق عند الناس من جميع الفضائل .
كما ان معاوية لم يشك في ان هاتيك الفضائل مورثة له من سلفه الطاهر فحسب ولكنه تغافل عن ذلك حتى شرك معهم غيرهم لمغازي تختلج في صدره .
أولاً ـ أراد أن يزحزح الخلافة عن أبيه الحسين المنصوص عليه من جده النبي صلى الله عليه وآله وأبيه الوصي عليه السلام بإيجاد شخص من هذا البيت يكون مرجع الأمة في النوائب وغياثها المرتجى وفصل القضاء وتبياناً للمشكلات .
وثانياً ـ أراد تخفيف وطاًة المنازع في خلافته بحصر شرائط الخلافة في هذه الأمور الثلاثة دون غيرها لفقده أهم ما يشترط في الخليفة على المسلمين من العلم والعصمة والنص .
ثالثاً ـ أراد إثبات فضيلة في قومه غير أن البرهنة تعوزه فشرك معه من لايدافع في فضله وهم الهاشميون وثقيف

علي الاكبر 65

وأنت على ثقة من خلو البيت الاموي من كل فضيلة ومكرمة منذ نشأة جدهم عبد شمس الذي كفله أخوه هاشم وقد كان مملقاً لا مال له وأمية الذي استعبده عبد المطلب عشر سنين وذلك لما تراهنا على فرسين وجعلا الخطر لمن سبقت فرسه مائة من الابل وعشرة عبيد وعشر إماء واستعباد سنة وجز الناصية .
فسبق فرس عبد المطلب فأخذ الخطر وقسمه في قريش وأراد جز ناصية فافتدى ذلك باستعباد عشر سنين فكان أمية يعد في حشم عبد المطلب هذه المدة .
وأما حرب بن أمية جد معاوية فأجاره عبد المطلب من ابنه الزبير وكفأ عليه إناء هاشم الذي يهشم فيه الثريد (1) وكان أبو سفيان شحيحاً بخيلاً لاينفق على زوجته هند فألجأها ذلك الى السرقة من ماله لتنفق على نفسها وولدها .
فأنى يقاسون هؤلاء بهاشم مطعم الحاج وساقيهم وكانت مائدته منصوبة لاترفع في السراء والضراء وهو أول من سن لقريش الرحلتين الى اليمن والشام وأخذلهم من ملوك الروم وغسان ما يعتصمون به (2) .

1) شرح لابن أبي الحديد ج 3 ص 466 .
(2) تاريخ الطبري ج 2 ص 180 .
علي الاكبر 66

وقد كانت تجارة قريش لاتعدو نفس مكة وضواحيها وإنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها حتى رحل هاشم الى الشام ونزل على قيصر فأعجبه حسن خلقه وجمال هيئته وكرمه فلم يحجبه وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة وكتب أماناً بينهم فارتقت منزلة هاشم بين الناس وسافر في الشتاء الى اليمن وفي الصيف إلى الشام واشترك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام وجعل له معهم ربحاً وساق لهم إبلاً مع إبله وكفاهم مؤنة الأسفار على أن يكفوه أذى الأعداء في طريقه اليهم ومنصرفه فكان في ذلك صلاح عام للفريقين وكان المقيم رابحاً والمسافر محفوظاً فأخصبت قريش بذلك وأتاها الخير من البلاد العالية والسافلة ببركة هاشم وهذا هو الايلاف المذكور في القرآن المجيد (1) .
« لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف » (2) .
وأما عبد المطلب فكان يدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له لكونه مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الامور فكان شريف قومه وسيدهم كمالاً ورفعة غير مدافع وهو من

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3 ص 454 و 458 .
(2) سورة قريش : الآية 1ـ2 .
علي الاكبر 67

حلماء قريش وحكمائهم وقد سن لهم أشياء أمضاها له الاسلام .
فانه حرم نساء الآباء على الأبناء ، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدق به ، وسن في القتل مائة من الابل ، ولم يكن للطواف عند قريش عدد فسنه سبعة أشواط ، وقطع يد السارق ، وحرم الخمر والزنا ، وأن لايطوف بالبيت عريان ، ولا يستقسم بالأزلام ، ولا يؤكل ما ذبح على النصب (1) .
وقيل له الفياض لجوده وكثرة نائله حتى ان مائدته يأكل منها الراكب ثم ترفع الى جبل أبي قبيس لتأكل منها الطيور والوحوش (2) .
ولمنعته وشرفه كان يفرش له بأزاء الكعبة ولم يفرش لأي أحد من قريش ولا يجالسه على بساط الابهة والعظمة إلا نبي الرحمة (3) .
وكان وصياً من الأوصياء وقارئاً للكتب السماوية ولم يزل يلهج في محافل قريش بظهور نبي من صلبه ثم يوصي ولده

(1) الخصال للصدوق ج 1 ص 312 . والسيرة الحلبية ج 1 ص 5 .
(2) النبراس في تاريخ بني العباس ص 165 والسيرة الحلبية ج 1 ص 4 .
(3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 11 وتاريخ الخميس ج 1 ص 270 .
علي الاكبر 68

وقومه بالإيمان واتباع أمره (1) .
وأما أبو طالب سيد البطحاء وموئل قريش وزعيمهم المقدم بعد أبيه لا يفات رأيه ومن غريب أمره ان قريشاً لما أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنين عليه السلام جاؤوا بالآلهة الى جبل أبي قبيس يتضرعون اليها ليسكن ما حل بهم فارتج الجبل وسقطت الاصنام فازداد تحيرهم وفزعوا الى أبي طالب لأنه كأبيه عصمة المستجير وسألوه عن ذلك فرفع يديه مبتهلاً الى الله سبحانه يقول :
« إلهي أسألك بالمحمدية المحمودة والعلوية العالية والفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة » .
فسكن ما حل بهم ببركات هذه الأسماء الطيبة الكريمة على الله تعالى وعرفت قريش فضل هذه الأسماء قبل ظهورها فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعوا بها في المهمات فيكشف الله تعالى عنها ضراءها ولم تكن تعرف حقيقتها (2) .
وما عسى أن يقول القائل فيمن هو أشرف الخليقة وعلة الكائنات المتكون من النور الإلهي القدسي « نبينا

(1) البحار ج 9 ص 31 .
(2) روضة للفتال ص 69 .
علي الاكبر 69

محمد » صلى الله عليه وآله وأعطف عليه في الفضائل كلها وصيه المقدم الذي هو منه بمنزلة هارون من موسى « علي بن أبي طالب » عليه السلام ثم ريحانته سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام .
فعلي الأكبر هو المتفرع من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء والوارث لهذه المآثر النيرة والحائز على جمال النبوة وابهة الخلافة الإلهية .
ورث الصفـات الغر فهي تراثه عن كل غطريف وشهم أصيد
في بأس حمزة في شجاعة حيدر بأبي الحسين وفي مهابة أحمد
وتراه فـي خلق وطيـب خلائق وبليغ نـطق كالنبي مـحمـد

ثم لايخفى على المتأمل في كلمة معاوية :
« في شجاعة بني هاشم » غرضه الذي يرمي إليه فانه أراد حمل الناس على اعتقاد الشجاعة في الهاشميين أجمع بإيجاد شخص من أهل البيت حوى هذه الفضيلة الرابية لتنحرف الناس عن تلك العقيدة الراسخة بأن أمير المؤمنين هو الأسد الخادر ولا يتذاكرون مواقفه المشهودة في مغازي

علي الاكبر 70

الرسول صلى الله عليه وآله .
وهذه الكلمة من معاوية على حد قوله لابن عباس لما مات الحسن عليه السلام :
بلغني ان عند أبي محمد عليه السلام أولاداً صغاراً فمن يكفلهم ومعاوية يعتقد كما ان غيره يعتقد ان« الحسين» عليه السلام هو الذي تتفيء بظله محاويج الناس وبالأخص بنو هاشم لكن ابن عباس لم يتقاعس عن الرد عليه حين قال له معاوية : فأنت سيد القوم .
وليس الغرض إلا تضعيف كفة أبي عبد الله عليه السلام بإيجاد رئيس من هذا البيت يكفل الطائفة ويقول بتدبيرهم .
فقال له ابن عباس :
ان كبيرنا اليوم الحسين بن علي (1) وكل من كان صغيراً يكبر وان طفلنا لكهل وصغيرنا لكبير (2) .
لم يستبد بذلك معاوية بل المتصفح للتاريخ يقف على ان عمر بن الخطاب هو المجد في إكبار رجال من البيت الهاشمي حتى لايكون نظر الناس مقصوراً على أمير

(1) البحار ج 10 ص 137 عن ربيع الابرار للزمخشري .
(2) العقد الفريد ج 2 ص 303 .
علي الاكبر 71

المؤمنين بل تعتقد الامة ان في هذا البيت غير « أبي الريحانتين » يكون مفزعاً للنوائب فنراه يخرج العباس بن عبد المطلب للاستسقاء (1) مع وجود أمير المؤمنين عليه السلام .
وأي أحد يجاريه في صفات الفضل ومخايل الرفعة حتى ان عمر نفسه لم يزل يهتف غير مرة :
لولا علي لهلك عمر (2) .
ويقول :
اللهم لاتبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب (3) .
ويقول :
لا أبقاني الله بأرض لست فيها ياأبا الحسن (4) .
ويقول :
لا أبقاني الله بعدك ياعلي (5) .

(1) شرح النهج الحديدي ج 2 ص 256 .
(2) ذخائر العقبى ص 82 والرياض النضرة ج 2 ص 194 والفيض القدير ج 4 ص 357 .
(3) تذكرة السبط ص 87 ومناقب الخوارزمي ص 58 .
(4) ارشاد الساري شرح البخاري ج 3 ص 195 .
(5) الرياض النضرة ج 2 ص 198 فيض القدير ج 4 ص 357 وتذكرة السبط ص 88 ومناقب الخوارزمي ص 60 .
علي الاكبر 72

ويقول :
أعوذ بالله من معضلة ولاأبو حسن لها . (1)
ويقول :
أعوذ بالله ان أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن (2) .
ويقول : اللهم لاتنزل بي شديدة إلا وأبو الحسن إلى جنبي (3) .
وكان عمر يعلم بأن دعاء أمير المؤمنين أسرع في الاجابة وأقرب الى المهيمن تعالى في استنزال الرحمات الالهية واين يقع دعاء العباس وغيره في جنب دعاء سيد الوصيين عليه السلام اخي نبي الرحمة وخاصته .

(1) تاريخ ابن كثير ج 7 ص 359 والفتوحات الاسلامية لابن دحلان ج 2 ص 306 .
(2) الرياض النضرة ج 2 ص 197 ومنتخب كنز العمال بهامش مسند احمد ج 2 ص 352 .
(3) الرياض النضرة ج 2 ص 194 وذكر العلامة الجليل ميرزا عبد الحسين الاميني في كتابه « الغدير في الاسلام» ج 3 ص 91 كلمات له كثيرة في ذلك وخرج مصادرها .
علي الاكبر 73

لكن النابه الفطن يعرف الغاية المتوخاة له من تقديمه العباس وتركه امير المؤمنين وهو بحضرته لم يغب عن المدينة فان القصد كله ليس إلا تبعيد الناس عن الاستضاءة بذلك النور القدسي وأن لاتحظى الأمة بالزلقى المباركة .
ومن هذه الناحية نشاهده مرة اخرى ينهي عن الاكثار من الرواية عن رسول الله (1) صلى الله عليه وآله فان المغزى من هذا النهي الشديد ما ألمحنا إليه فان الصحابة لما وعوا أحاديث الرسول في موطن بعد موطن وسمعوا هتافه على منبر الدعوة الالهية في فضل اخيه أمير المؤمنين وولده المعصومين وطبعاً إّذا قدموا البلدان يسألونهم الناس عما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله وما شاهدوه من حالاته مع آله الأقربين فتظهر هنالك الحقائق فتضطرب الحالة وينتقض الأمر فأراد بالنهي عن إكثار الحديث عن رسول الله تبعيد الأمة عن سماع تلك الفضائل والمأثر النيرة ولولا هذا فما البأس في نقل الأحاديث التي حملتها الصحابة لتبصر الامة طريق رشدها من غيها .

(1) مستدرك الحاكم ج 1 ص 102 وتذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ـ ص 7 وسنن ابن ماجة ج 1 ص 16 وسنن الدارمي ج 1 ص 85 وجامع العلم لأبي عمر و صاحب الاستيعاب ج 2 ص 120 ط مصر .

السابق السابق الفهرس التالي التالي