علي الاكبر 92

الأكبر في الطريق

هذا حال الأبناء مع آبائهم ولاشك ان الأبناء يتفاوتون في طي مراحل الطاعة حسب تفاوت نفسياتهم وملكاتهم واختلاف مراتبهم فكلما قوي الإيمان واشتد العقل وكمل الاحساس وتنزهت النفس عن الرذائل قربت من المولى سبحانه ودانت للقيام بأداء التكاليف والمثول أمام المهيمن جل شأنه في الخضوع والطاعة .
ولقد كان الشهيد « الأكبر» عليه السلام حاوياً صفات الجلال والجمال المحمدي متصلاً بالمبدأ الأعلى متجرداً عن عالم الملك الزائل وقد نزعت نفسه الطاهرة الى صقع القداسة وناهيك من قوة إيمانه ونفوذ بصيرته وتفانيه دون كلم الحق وسلوكه مسلك أبيه الطاهر الى غاياته الكريمة في نهضته المقدسة مع ما كان يشاهده في تلك الثنايا والعقبات

علي الاكبر 93

من المنذرات بتخاذل القوم وتدابر النفوس وانهم قادمون على أسنة مشرعة وسيوف مشحوذة ونبال مفوقة وعصبة تريد استئصال شأفة آل الرسول .
لكن إخلاصه في التضحية وتسليمه للمفادات دون إمام الحق لم يثن من عزمه شيئاً ولاأكذى له أملاً وكان فرحاً بقرب الموعد وازوف الغاية وكيف لايكون كذلك :
وهـو ابـن دنـا إلـى أدنـاه فمـا أجـلـه ومـا أعـلاه
فتـى قريش بـل فتـى الوجود وليثـها بـل أسـد الاسـود
وسيفهـا العـادل فـي قضائه بل هو سـيف الله في مضائه
فارسهـا بـل فـارس الاسلام أكـرم بهـذا البطـل الامـام
من درحة العلياء غصنها الطري نمـاه بالقـدس نميـر الكوثر
هـو النبـي في معـارج العلا لكـن عروجه بطف كربـلا

علي الاكبر 94

نال من العروج منتهى الشرف ومن رياض القدس أفضل الغرف
يشهد لهذا حديث عقبة بن سمعان قال لما كان السحر من الليلة التي بات الحسين فيها بقصر بني مقاتل أمرنا بالاستقاء ثم ارتحلنا فبينا هو يسير إذ خفق برأسه خفقة وانتبه يقول« انا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين» وكرره ثلاثاً .
فأقبل إليه ابنه علي الأكبر وكان على فرس وقال له جعلت فداك مم استرجعت وحمدت الله ؟
فقال الحسين عليه السلام :
حفقت برأسي خفقة فعن لي فارس يقول :
القوم يسيرون ولمنايا تسري اليهم .
فعلمت انها أنفسنا نعيت إلينا .
قال علي الأكبر عليه السلام :
ياأبت ألسنا على الحق ؟

(1) من ارجوزة الحجة آية الله الشيخ محمد حسين الاصفهاني رحمه الله .
علي الاكبر 95

فقال الحسين عليه السلام :
بلى والذي إليه مرجع العباد .
قال علي الأكبر عليه السلام .
إذاً لانبالي أن نموت محقين .
فقال الحسين عليه السلام :
جزاك الله من ولد خيرما جزى ولداً عن والده (1) .

(1) الطبري ج 6 ص 231 .
علي الاكبر 96

الأكبر الى المشرعة

الماء عنصر حيوي لكافة الموجدات لاغنى عنه في الحياة واستقرارها كما أنبأ عنه سبحانه وتعالى « وجعلنا من الماء كل شيء حي »(1) فالمولى جل شأنه شاء بلطفه وكرمه ان يكون الماء أصلاً لكل موجود في الكون وبه حياة كل دابة هو آخذ بنا صيتها وبه قوامها ودوامها وجعله مباحاً للصادر والوارد وبهذا ينطق الحديث : الناس شرع سواء في الماء والكلاء .
فلا يصد عنه إلا كل لئيم العنصر خسيس المنتمى الذي لايهمه الكيان البشري والبقاء القومي فلن تجد في قادة الحق ودعاة الشرائع من منع الماء عن مناوئيه ولن تسمع بهذا ممن يحمل شيئاً من الشهامة أو تحلى بيسير من الشرف .
نعم لما استولى معاوية على الماء بصفين منع أصحاب

(1) سورة الانبياء : الآية 30 .
علي الاكبر 97

أمير المؤمنين عليه السلام لكن قائد العظمة وإمام الهدى علي بن أبي طالب لما استرده من الظالمين بالسيوف الماضية أباحه للعدو والولي .
وهذه غريزة بني هاشم الأكارم وشنشنة بني أمية الاخساء في كل محتشد ومصطدم .
ولقد سقى الحسين الحر وأصحابه وهم زهاء ألف فارس وسقى خيولهم على حين أزمة شديدة وحراجة في الموقف والماء في ذلك الحال أعز ما لديهم إلا أن نفسه القدسية وكرمه النبوي وعنصره الطيب الطاهر لم يدع له منتدحاً عن الفضل والجود بما هو أنفس الذخائر في تلك القفراء الجرداء وهنا تعرف« الاناء ينضح بما فيه »فان هؤلاء الجمع لم تسمح نفوسهم الشريرة ومنبتهم السيء بالوفاء على المعروف ولم يغب عنهم فضل سيد الشهداء في ذلك المكان الذي تعز فيه الجرعة الواحدة فحالوا بين الماء الذي تلغ فيه خنازير« السواد» وكلابه وبين فئة المجد وعصبة الخطر من آل محمد صلى الله عليه وآله المضطهدون عندئذ وكانوا أشد العالمين حاجة الى الروي وهم لباب الكون والغاية من الخلق ووسائط الفيض بين المولى سبحانه وبين عبيده .
غير أن الحكمة البالغة لم تدع لهم إلا التسليم للقدر

علي الاكبر 98

الجاري والرضا بالقضاء الفاصل وواجب السير وراء الغاية الكريمة قطع عنهم الأخذ بالتدابير اللازمة من عاديات ومعاجز فالواقف على حالتهم لم يشاهد إلا قلوباً ولهى وأكباداً حرى وأحشاء كظها الظمأ فمن رضيع يلتظي وطفل يصرخ وحرة تنتحب وحماة الحرائر على ما في أفئدتهم من معتلج الصدى نفوس مقسومة بين الفرات الجاري وبين لهب أكباد العيال الواري فلا الحكمة تساعدهم على خرق ناموس الطبيعة لإرواء تلكم الصبية ولا الوسائل العادية تمكنهم من التسرب الى ذلك النمير الذي حلؤهم عنه .
فكان ورد الردى أهناً عندهم من كل مالذ وطاب كيف وهم أباة الضيم وحماة العقائل والكفاة في كل نازلة .
ولعل من هذا البيان يسعك التعرف لتكلم الشدائد المدلهمة والأزمة الملمة بربات خدور الرسالة ومبلغ حاجتهن الى هذا المباح الجاري الذي منع عنه أعز الخلق واشرفهم ارومة وسيد شباب أهل الجنة ومبلغ لؤم الامويين المحلئين أولئك الصفوة عنه في أحرج المواقف ومبلغ الفضل والمثوبة لمن أمكنته الفرص لاغاثة القوم بشربة من ماء علاوة على ما في مطلق السقاية من اجور جزيلة .
نعم تمكن من هذه الفضيلة الرابية ولو في هنيئات معدودة ( علي الأكبر ) عليه السلام .

علي الاكبر 99

ففي حديث الصادق عليه السلام ان الحسين أرسله في ليوم الثامن مع ثلاثين فارساً إلى الماء فخاضوا لجج الجيش للهام ولم يثن عزمهم الحرب الدامية والجلاد المنهك مورين هب القتال المبير مقتدحين زنادها المضطرم مجللين ليل لقسطل الحالك جالين ذالك العثير المتراكم بشهب السيوف بعد جهاد متواصل ملكوا المشرعة وملأواأسقيتهم وعادوا لى المخيم و( شبيه النبي ) يود إيصال الماء قبل وصوله يسمح أن تسيل نفسه دون قطرة منه .
أنا لاأدري ان حرم الرسالة بأيهما أسر أبعود شمس لنبوة أم بالحياة الجديدة المستردة بتلك الأسقية وهل عينها النظر الى ذلك المحيا الأبهج اقر أو ببلوغ الامنية من وصول الماء إليهن .
ولكن لايفوت القارئ البصير ان هذه الكمية القليلة من الماء ماعسى أن تجدي هؤلاء الجمع الكثير الذين يزيدون على المائتين فسرعان أن عاد إليهم الظما وإلى الله المشتكى .

علي الاكبر 100

الأكبر في ليلة عاشوراء

كانت هذه الليلة أعظم مامر على آل الرسول لأنها حفت بالمكاره والمحن وآذنت بالخطر وأشعرت بالرهبة أجنت على مكثورين قطعتهم الحالة القاسية عن الوسائل الحيوية كلها واعوزهم حتى الماء أضف اليه البأساء السائدة في حرم النبوة من رعب شامل وانكسار مؤلم وانقطاع عن المدد ويأس من الانتصار وعطش مرمض وهم مدلهم وشجو مبرح يسمعن مخدرات الامامة ضوضاء الرجال وصهيل الخيل من جانب وصراخ الصبيه من ناحية ويبصرون لوائح النصر لغيرهم والابتهاج بالظفر في مناوئيهم .
إذاً فما حال رجال المجد من بني هاشم بين تلكم الكوارث فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفساً تعالج الحياة والحرب من غد .
نعم كانت ضراغمه ( أبي طالب ) والاباة الصفوة من

علي الاكبر 101

الاصحاب حينئذ في أبهج حالة وأثبت جأش كأنهم نشطوا من عقال بين مباشرة للعبادة وتأهب للقتال وكان لهم دوي كدوي النحل بين قائم وقاعد وراكع وساجد .
وبلغوا من الثبات على الحق وقوة الإيمان فيهم وشدة اليقين انه لم يردعهم عن النهضة في وجه المنكر أي رادع ولا ألم بهم ندم أو فتور ولا دعاهم الى التسلل عن سبط الرسول عليه السلام حتى ان سيد الشهداء أطلق لهم السراح في هذه الليلة واذن لهم في المفارقة .
فقال لهم هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وتفرقوا في سوادكم هذا وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فان القوم إنما يطلبونني ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري .
فابتدر أبو الفضل وعلي الأكبر قائلين : ولم نفعل ذلك ؟ لاأبقانا الله بعدك وتابعهما الهاشميون والأصحاب الأكارم فجروا على ذلك أطفالاً وشبانأ وكهولأ ومشيخة وهم على الحالة التي وصفناها .
فكان لعلي الأكبر بين تلكم المصاعب والأهوال الغارب والسنام من منصة المفادات وموقف التضحية والسير الحثيث في سنن الاخلاص والابتهاج بما يرد عليه من

علي الاكبر 102

السيوف المشحوذة والاسنة المشرعة والنبال المفوقة كل ذلك نصرة للحق ورداً لعادية الضلال .
وفي بعض زيارات علي الأكبر عليه السلام ما يؤكده يقول الامام الحجة عليه السلام :
أشهد انك من الفرحين بما أتأهم الله من فضله وهذه منزلة كل شهيد فكيف منزلة الحبيب الى الله القريب الى رسول الله زادك الله من فضلة في كل لفظة ولحظة وسكون وحركة مزيداً يغبطه به أهل عليين يا كريم الجد ياكريم الأب ياكريم النــــفس (1) .

(1) مزار البحار ص 173 .
علي الاكبر 103

الشهادة

هذا مقام يرتج فيه على الخطيب بيانه ويعصي الكاتب قلمه فلا يدري أي ناحية يصفها وأي جانب يقف عليه فتتجه إليه الأوصاف من شتى النواحي من جهة بسالة الفقيد تلك البسالة المشهودة له ولمعهودة منه ام من جهة تأثير فقده في المحتمع الديني واخص منه الاسرة الهاشمية وبالاخص عقائل بيت الوحي في ذالك المشهد الرهيب يوم فقدن أمل الآمل والمثل الكامل لمثال النبوة فقد كن يحسبنه عماد أخبيتهن وحمى أمنهن ومعقد آمالهن بعدالحسين عليه السلام كما هو الشأن في الخلف الأكبر بعد كبير البيت لا سيما اذا كان جامع مأثر الأسرة من بطولة وشهامة وبسالة وفضائل وفواضل .
فلا عجب منهن إذا اتففن به حين يمم الحرب ولذن به وقلن ارحم غربتنا لأن هذه ترى هتاف الرسالة في وشك

علي الاكبر 104

الانقطاع عن سمعها وتلك تجد مرآة الجمال النبوي في شفا الانكساف واخرى تشاهد الخلق المحمدي قد آذن بالرحيل الى من تحسب به ثمال اليتامى وتغيب عنها عصمة الايامى .
فليس من البدع حينئذ إذا لم ترق لهن عبرة ولا هدأت زفرة وهناك ناحية اخرى أعظم وأشجى وهي تأثر السبط الشهيد بفقد المثل الجامع لكل فضيلة رابية وقد كان الحسين جد عليم بأن من يودعه الى سفر لارجوع بعده هو المظهر التام للحقيقة المحمدية ومرآة صافية للجمال الإلهي وآية من آيات الجلال الربوبي وانه سيفقد فلذة كبده وشظية من شظايا الامامة وبلجاً من أنوار الخلافة وستصبح سماء الدين بعده مظلمة ومستوى العظمة موحشاً .
نعم ، شاهد الحسين عليه السلام ولده العزيز عليه يخطوالى الحرب والقتل أمامه واليأس من ورائه فلم يجد ندحة من أن أذال مذاب قلبه من أجفانه « وأرخى عينيه بالدموع » (1) هاتفاً بعمر ابن سعد(2) : مالك قطع الله رحمك

(1) ابن نما في مثير الأحزان ص 35 .
(2) أشار أبي الضيم بهذا الهتا ف إلى الرحم الثابتة بين الأكبر وابن سعد فان ليلى ام الأكبر وسعد بن أبي وقأص ولدا خالة لأن أم ليلى ميمونة بنت أبي سفيان كما في الاصا بة ج 4 ص 178 بترجمة =
علي الاكبر 105

كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (1) فلا بارك الله فيك وسلط عليك من يذبحك على فراشك (2)

= أبي مرة وام سعد حمنة بنت أبي سفيان كما في الرياض النضرة ج 2 ص 292 .
واختلف في ولادة عمر بن سعد فابن عساكر يرجح ولادته على عهد النبي صلى الله عليه وآله لرواية ابن اسحاق ان أباه سعداً أرسل جنداً الى الجزيرة بأمر عمر بن الخطاب سنة 19 وكان معهم ولده عمر ويحيى بن معين يختار ولادته سنة موت عمر بن الخطاب وحديث سيف يشهد له قال تزوج سعد بن أبي وقاص يسرى بنت قيس بن أبي الكتم من كندة في زمان الردة فولدت له عمر وفي الرياض النظرة امه بنت قيس بن معد يكرب وفي منتخب كنز العمال بهامش مسند احمد ج 5 ص 113 وتذكرة الخواص ص 141 وابن الاثير ج 4 ص 94 ومثير الاحزان لابن نما ص 25 ان أمير المؤمنين عليه السلام لقي عمر بن سعد وقال له كيف بك ياأبن سعد إذا قمت مقاماً تخير فيه بين الجنة والنار فتختار النار وفي ص 74 من كامل الزيارة لابن قولوية ان أمير المؤمنين اخبر سعد بن أبي وقاص بأن ولده عمريقتل الحسين عليه السلام وفي ابن الأثير ج 4 ص 94 ان عبد الله بن شريك يقول أدركت أصحاب الأردية المعلمة واصحاب البرانس السود اذا مر بهم عمر بن سعد قالوا هذا قاتل الحسين وذلك قبل ان يقتله وفي تاريخ أبي الفدا ج 1 ص 195 في سنة 66 في ذي الحجة قتل المختار عمر بن سعد وابنه حفصاً .
(1) اللهوف ص 63 صيدا.
(2) تظلم الزهراء ص 116 .
علي الاكبر 106

ورفع شيبته المقدسة نحو السماء مشيراً الى أن المتحلي بهاتيك الصفات الجميلة والمرتدي بإبراد الفضائل هو هذا الذي يحدوه الميثاق الأزلي الى الحتف الصارم .
وقال : اللهم اشهد فقد برز إليهم أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك محمد صلى الله عليه وآله وكنا إذا اشتقنا الى نبيك نظرنا الى وجهه (1) اللهم امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً ومزقهم تمزيقاً واجعلهم طرايق قدداً ولا ترض الولاة عنهم أبداً فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا .
وتلا :« ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم» (2) (3) .
يريد أن فقيد بيت النبوة من تلك الذرية الطيبة وشلو من أشلاء الامامة قادم على عصبة لاترقب فيه إلا ولا ذمة .
وإنما صدر منه هذا الهتاق ليعلم الملأ الديني مدى العصور الواعين كلمته الذهبية مبلغ القوم من القساوة والشقاء

(1) اللهوف . ص 113 .
(2) سورة آل عمران : الأية 34 .
(3) تظلم الزهراء ص 116 .
علي الاكبر 107

ومبلغ ولده من المفاداة والتضحية في سبيل الدين وليعلموا ان ديناً يفتدى بهذا الفداء الثمين آثر شيء للاعتناق به وبطبع الحال يقتص أثره كل من يفقه هذا النداء البليغ ولا يفوت من يدرس هذا التعليم ان شريعة الحق تفتدى بأعز ما في الكون ويستهلك دونها أهم الذخائر .
كما ان فيه اشادة بذكر الفقيد وبيان فضله بتقريب ان الذي يبذل نفسه في النهضة الإلهية لانقاذ البشرولهداية الاجيال من بعده هو هذا الانسان الكامل المتفرع من الدوحة النبوية الذي يجب أن يكون قدوة الامم وأن تكون اسوتهم به في التضحية والمفاداة وفي كل مأثرة كريمة .
تقدم « علي الأكبر » إلى النزال أو أن شمس النبوة بزغت في أفق الميدان فما راع جماهير الطغام إلا جمال محمد في جلال علي وعصمة فاطمة وبسالة السبط الشهيد ولم يشعروا أهو الأكبر يطرد زمر الأعداء أم أن الوصي جده يزأر في الميدان أم أن الموت الزؤام أنشب فيهم أظفاره أم أن الصواعق تترى في بريق سيفه فيهم بين مندهش وخائر ومكبر وذاكر ومنتكص على عقبيه غير شاعر وصريخة بني هاشم يضرب فيهم قدماً لايلوي على أحد معرباً عن نسبة تارة وعن مأربه اخرى وعن موقف بأسه طرواً حيث يقول :

علي الاكبر 108

أنا علـي بن الحسين بن علي نـحـن ورب البيت أولـى بالنبي
تالله لايحكـم فينا ابن الدعي أضرب بالسيف أحامي عـن أبي
ضرب غلام هاشمي قرشي (1)
فلم يفتأ مغبراً في وجوه القوم يحمل على الميمنة ويعيدها على الميسرة ويغوص في الأوساط فلم يقابله جحفل إلا رده ولا شجاع إلا قتله حتى انهي المقتول بسيفه الى المائة وعشرين بطلا (2) غير مكترث بتكاثر الجيوش عليه شأن سلفه الاطهرين في المآزق الحرجة :
يرمي الكتاب والفلا غصت بها في مثلها مـن بـأسـه المتوقد
فيردهـا قـسراً عـلى أعقابها في بـأس عريس العرينة ملبـد

(1) الأبيات بتمامها في ارشاد المفيد وزاد ابن شهر اشوب في المناقب بعد الرابع : « أطعنكم بالرمح حتى ينثني » ولم يذكر الطبري ج 6 ص 256 غير الثلاثة الأولى .
(2) هذا في تظلم الزهراء ص 117 وعند ابن شهر اشوب قتل سبعين وفي روضة الواعظين ص 161 قتل عشرة ورجع الى أبيه .
علي الاكبر 109

غير ان كثرة الجراح ونزيف الدماء وشدة الاوام لم تترك له بقية يساور بها الرجال ويباشر الحرب العوان هاهنا اشتد به الشوق الى لقاء ربه فراقه ترديع أبيه والتزود من محياه .
ويؤب للتوديع وهـو مـكابـد لظمـا الـفـؤاد وللحديد المجهد
صادي الحشا وحسامه ريان من مـاء الطـلاوغليـلة لـم يبـرد
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى ظمأ الحشا إلا إلى الظامي الصدي
فـانـصاع يـؤثره عليه بريقه لـو كان ثمـة ريقـة لم يجمـد
كـل حـشاشته كصالية الغضى ولسانـه ظـمئـاً كشقـة مبـرد

هنالك طفق يشكوه الحالة وما انتابه من مضاضة الحرب والضرب وما تلظت به حشاشته من صالية الحر واحتدام العطش فقال : العطش قتلني وثقل الحديد اجهدني فهل الى شربة ماء أتقوى بها على الأعداء (1) .
شكوى لم يقصد بها إلا بثها وانه قد ناء بما وجب عليه

(1) اللهوف . ص 113 .
علي الاكبر 110

على قدر وسعه وطاقته وانه لم يفتر عن ذلك حتى بلغ منه اللغوب على حين انه لاسبيل الى ماء يقويه على مكافحة الأعداء فالاستفهام انكاري قصد به المعذرة عن القيام بمثل ما تقدم منه في المستقبل .
أو أنه أراد من أبيه الامام الشهيد عليه السلام إيجاد الماء على سبيل الاعجاز المقدور لكن الحسين عليه السلام أبي إلاان يمضي ولده على حال أربى في نيل الجزاء وآثر عند الجليل عز شأنه يوم الخصام وهو القتل مظلوماً ممنوعاً من الورود فطمنه بوصوله الغاية في الخدمة وبشره بأزوف الشروع بدور الجزاء ومفتتح ذالك ان جده المنقذ الاكبر صلى الله عليه واله سيسقيه بكأس الروية فلا يظمـأ بعدها أبداً (1) ثم أعطاه خاتمه ليضه في فمه (2)

(1) ابن نما في مثير الاحزان ص 35 . (2) مقتل العوالم ص 95 وفي معاهد التنصيص ج 2 ص 51 ، ان يزيد بن مزيد الشيباني لما لحق الوليد بن طريف واجهده العطش وضع خاتمه في فمه وتبع الوليد حتى طعنه بالرمح وهذا يستعمله المسافرون إذا بلغ منهم اللغوب ومن لم يجد الخاتم يضع الحصاه ونحوها وبذلك حاءت احاديث أهل البيت عليهم السلام ففي الكافي للكليني عن الصادق عليه السلام لابأس للصائم أن يمص الخاتم وبه افتى العلماء بالجواز ولعل من اسرار وضع الخاتم ونحوه في الفن =
علي الاكبر 111

فعرج ( علي الأكبر ) إلى الميدان وملؤ جوانحه بهجة ومسرة بتلك البشارة الصادقة وهو لايدري حين يقاتل أهو يقابل البيض الصفاح أم الخود الرداح وهل يناطح المقانب أم يبشر بنيل الرغائب فزحف فيهم زحفه العلوي السابق حتى أكمل المائتين من القتلى (1) .
ومذ انثنى يلقـى الكريهة باسماً والموت منه بمسمع وبمشهد
لف الوغى واجالها جول الرحى بمثقـف مـن بأسـه ومهند
حتى إذا ما غاص في أوساطهم بمطهـم قـب الاياطل أجود
عثـر الزمان به فغودر جسمه نهب القواظب والقنا المتقصد
هنالك أتيحت له الامنية باقتراب المنية حين علا هامته المطهرة (2) سيف مرة بن منقد العبدي (3) ثم طعنه في

= تسييب عمل الغدد في الافراز .
(1) تظلم الزهراء ص 117 .
(2) مقتل العوالم ص 95 . (3) هذا في ابن الاثير ج 4 ص 30 والاخبار الطوال ص 254 وارشاد المفيد ص 238 وابن نما في اللهوف وزاد ابن جرير في التاريخ =
علي الاكبر 112

ظهره(1) . فاعتنق فرسه واحتمله الى معسكر الاعداء فقطعوا جثمان النبوة بأسيافهم إرباً (2) .
ومـحـا الـردى ياقاتل الله الردى منـه هلال دجى وغرة فرقد
يـانـجعة الـحيين هـاشم والندى وحمى الذمارين العلا والسؤدد
كيف ارتقت همم الردى لك صعدة مـطرورة الـكعبين لم تتأود
أفـديـه مـن ريـحانـة ريانـة جـفت بـحر ظما وحرمهند
بـكـر الذبول على نضارة غصنه ان الذبول لآفة الغصن الندي
لله بـدر مـن مـراق نـجيـعـه مزج الحسام لجينه بالعسجد
ماء الصبـا ودم الوريـد تجاريـا فيه ولاهب قلبه لـم يخمـد

= ص 256 منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي واما في مقتل العوالم ص 95 فنص على انه منقذ بمن مرة .
(1) ابن شهر اشوب ج 2 ص 222 .
(2) مقتل العوالم ص 95 .
علي الاكبر 113

لم انسه متعمماً بشبا الصبا بين الكماة وبالأسنة مرتدي
ولم يفته في آخر نفس لفظه ان ودع أباه بالسلام عليه تحت مشتبك النصول منادياً إياه ومبشراً بانجاز الوعد بقوله هذا جدي يقرء عليه السلام (1) وقد سقاني بكأسة الأوفى شربة لاأظمأ بعدها أبداً وهو يقول ان لك كأساً مذخورة (2)
وعندئذ لم يملك نفسه دون أن يتجه الى فلذة كبده هبوب الريح عساه يقف على بقية منه يتمتع بالنظرإليه ويتحظى بلفظه الدري فرأى الظن مخفقاً والأمل لم يقترن بالانجاز ووجد شلو الرسالة منبوذا على الصعيد تنتاشه المرهفات وتطعمه أسنة الرماح فألقاه الوجد المحتدم ولوعته المعتلجة على بضعته المتلائية واضعاً خده على خده (3) يستاف منه عبق النبوة ويشم ريحانة العصمة حيث فاته التوديع وبه رمق الحياة وقال :
على الدنيا بعدك العفا ما أجرأهم على الرحمن

(1) رياض المصائب ص 321 .
(2) مقتل العوالم ص 95 .
(3) رياض المصائب ص 321 واللهوف . ص 114 .
علي الاكبر 114

وعلى انتهاك حرمة الرسول (1)
متأثراً بفقده تارة وبعدم تمكنه من إمداد مثله اخرى فلم تزل الزفرات منه إلى صعد والعبرات في صبب يتجرعها غصصاً طوراً ويلفظ ما في نفسه من لوعة اخرى فيقول :
يعز على جد ك وعمك وأبيك ان تدعوهم فلا يجيبوك وتستغيث بهم فلا يغيثوك (2) . ثم أخذ بكفه من دمه الطاهر ورمى به الى السماء فلم يسقط منه قطرة (3) .
هذا والوحدة العنصرية لاتسيغ له مفارقته ومهمة الحرب تحدوه الى النهوض فلم يزل بين جاذبة ودافعة حتى انهضه واجب الأخذ بالتراة لكن بلا مهجة تقويه على الكفاح ولنفسه القدسية نزوع إلى الالتحاق بولده المحبوب وقد اسود الفضاء بعينه واكدت الآمال .
وحيث لم يجد الحسين من نفسه قوة بحمل ذلك المتقطع من كبده المتشظي من روحه المنفصل من حياته أمر

(1) تاريخ الطبري ج 6 ص 256 .
(2) مقتل العوالم ص 95 .
(3) كامل الزيارة لابن قولويه ص 222 .
علي الاكبر 115

فتيانه بحمل شلوه المبضع الى الفسطاط الذي أعده للقتلى من آله وصحبه (1) .
فجاء به الفتية وحرائر بيت الوحي ينظرن إليه محمولاً قد جللته الدماء بمطارف من العز حمراء وقد وزع جثمانه الضرب والطعن فاستقبلنه بصدور دامية وشعور منشورة وعولة تصك سمع الملكوت وامامهن عقيلة بني هاشم « زينب الرزايا » صارخة نادبة فألقت بنفسها عليه تضم إليها جمام نفسها الداهب وحمى خدرها المنثلم وعماد بيتها المنهدم (2) .
لهفي على عقائل الرسالة لـما رأيـنه بتلك الحالة
عـلا تـحيبهن والصياح فاندهش العقول والارواح

(1) الطبري ج 6 ص 256 .
(2) قال الطبرسي في اعلام الورى ص 145 خرجت زينب تصيح ياابن اخاه فردها الحسين الى الفسطاط الذي يقاتلون امامه وطبع الحال يقضي بأن النسوة شاركنها في الحسرة والزفرة واقامة المأتم على مثال النبوة لأنها المتكفلة بحياطة الحرم والمسكنة لفورتهن فاذا ادهش العميد هول المصاب فكيف بالفواقد المستعرة اكبادهن بنيران الفوادح .
علي الاكبر 116

نـاحـت عـلـى كفيلها العقائل والمـكرمـات الـغروالفضائل
لـهفـي لهـا إذ تنـدب الرسولا فـكـادت الـجبال ان تـزولا
لـهفـي لـهـا مذ فقدت عميدها وهــل يــوازي احد فقيدها
ومـن يـوازي شـرفـاً وجاهاً مثـال يـاسين شـبيه طـاها
يـاسـاعـد الله ابـاه مـذخـبا نيره« الاكبر»في ظل الضبـا
رأى الـخليل فـي منى الطفوف ذبـيحـة ضريبـة الـسيوف


السابق السابق الفهرس التالي التالي