علي الاكبر 160

التأبين

ان من المرتكز في الجبلة البشرية إقامة النوائح للفقيد وتأبينه بتعداد مأثره وبيان مبلغ مصابه من الأفئدة وذلك يختلف بتفاوت مراتب الرجال فمهما عظم موقف الرجل من الفضيلة وتعددت فواضله وجلت مصيبتته عظم الاستياء له وطالت مدته وان من الغرائز التي فطر عليها الناس كون فقد الاحبة باعثاً للنفوس حسرة وللعيون عبرة وللقلوب حرقة وان في إفاضة العبرة تخفيف لوعة المصاب على الباكي واخماد جمرته فيتلاشى ما تأثر به قلبه من الفادح الجلل بتساقط الدمعة وتصاعد الزفرة .
ومما يرشدنا الى أن البكاء أمر قهري وجبلي فطري عند تذكر مصاب الفقيد وتصور حياته قول نبي العظمة صلى الله عليه وآله : كلما أتذكر ما يجري على الحسين لم أملك عيني

علي الاكبر 161

عن البكاء (1) كما انه صلى الله عليه وآله لم يتمالك عينه لما أبصر ولده ابراهيم يجود بنفسه وحين استعظم عبد الرحمن بن عوف هذا البكاء من الرسول العظيم التفت اليه وقال : « انها رحمة »ثم اتبعها رسول الله بعبرة اخرى قائلاً :
العين تدمع والقلب يحزن ولانقول مالايرضي الرب وإنا بفراقك ياإبراهيم لمحزونون (2) .
فان التأمل في الحديث يفيدنا ان المنشأ في إنكار ابن عوف مايراه من عظمة النبوة فتخيل انها قاهرة لذلك الحنان الطبيعي فقال له :« وأنت يارسول الله» يريد أن صاحب هذه المكانة السامية هل يقهره البكاء فعرفه النبي صلى الله عليه وآله بحكومة الفطرة على النفوس البشرية فقال : انها رحمة (3) .
وإذا كان جامع المحامد بأسرها وحبيب الله تعالى وخيرة خلقه يأخذ به العطف الجبلي الى أن لايتمالك عن إفاضة العبرة فليس من البدع إذا لم تتعاص نفوسنا عن البكاء لفقد الأحبة .

(1) مسند احمد ج 1 ص 85 .
(2) ارشاد الساري ج 2 ص 414 .
(3) المصدر السابق .
علي الاكبر 162

على ان هذه الجبلة لم تختص بالبشروانما اودعها المهيمن سبحانه في جميع الحيوانات كما يرشد إليه نهي أمير المؤمنين عليه السلام عن ذبح الحيوان ومثله ينظر إليه .
ويتحدث المؤرخون ان جعفر بن علبة لما قتل عمد أبوه الى كل ناقة وشاة يملكها فنحر أولادها وألقاها بين يديها وقال ابكين معنا على جعفر فما زالت النوق تنظر إلى أولادها وترغو والشاء تثفو والنساء يصحن وهو يبكي معهم فما رؤي يوم كان أوجع وأحرق مأتماً في العرب من يومئذ (1) .
وهذه الحالة تشتد إذا كان الفقيد من قادة الاصلاح وله غايات ثمينة يجب السير على أثرها فيكون في تكرر ذكرها لفت للأنظار الى التحلي بها .
وان من أهم ما يوجب توجيه النفوس نحو الفقيد للاستضاءة بآثاره واقتفاء مناهجه والأخذ بأعماله الكريمة هو نظم الشعر المعرب عماله من فضل كثار وأياد ناصعة ومساعي جبارة فان آثار الرجال مهما كبرت في نفوس وعظم أمرها قد يهمل ذكرها بمرور الزمن وتباعد العهد فيغفل عن تلك المآثر ويتناسى مالها من أهمية كبرى .

(1) الاغاني ج 11 ص 146 .
علي الاكبر 163

وان القول المنظوم أسرع تـأثيراً في الاصاخة إليه لرغبة الطباع فيه فتسير به الركبان وتتحفظ به القلوب وتتلقاه جيلاً بعد جيل ولولاه لما كان من المستطاع الوقوف على كثير من قضايا الامم وسيرها وحروبها وعاداتها وآدابها في الجاهلية والاسلام .
ولما كانت ذكرى أهل البيت عليهم السلام قوام الدين وروح الاصلاح وبها تدرس تعاليمهم ويقتفى أثرهم ورد الحث المتواتر من الأئمة عليهم السلام على نظم الشعر فيهم وأكثروا من بيان فضله الى حد بعيد (1) كما أنهم أجزلوا الهبات للشعراء الذين جاهروا في فضلهم ولم يردعهم عن المكاشفة في حقهم وبيان مظلوميتهم مع ملاقاتهم كل خشونة وجور من خلفاء وقتهم حتى تتبعوهم تحت كل حجر ومدر ولقد حبس هشام بن عبد الملك الفرزدق بعسفان لما مدح السجاد عليه السلام في البيت الحرام بقصيدته التي يقول في أولها
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم

(1) راجع مقتل الحسين ص 37 وكتاب العباس ص 221 .
علي الاكبر 164

وحبسوا الكميت الأسدي وشردوا دعبل الخزاعي في البلدان ولاذنب لهم سوى مجاهرتهم في ولاء العترة الطاهرة التي أوصى النبي الأقدس بمودتهم تبليغاً عن الوحي المبين:« قل لاأسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى » (1) .
والنكتة الدقيقة في حمل الأئمة عليهم السلام الشعراء على نظم الشعر فيهم هو علمهم بأن التستر في أمرهم والمجاملة مع أمراء الوقت يوجب إماتة كلمتهم بخلاف المجاهرة فيه فانها تفيد الملأ الواعي لها في الأجيال المتعاقبة بصيرة باحقيتهم لهذا الأمر وان مناوئيهم غاصبون منصبهم المجعول لهم من المهيمن جل شأنه.
ولذلك كانوا عليهم السلام يدرون على الشعراء المال ويقربون مجالستهم منهم بما لايفعلونه مع خواص شيعتهم علماً منهم بأن نهضة الشعراء أكثر تأثيراً مما يحمله رواة الحديث وحفظته .
ذكر المؤرخون أن الكميت الأسدي استأذن على الإمام الصادق وهو في منى على أن ينشده شعراً فكبر على الإمام التذاكر بالشعر في الأيام العظام ولما عرفه الكميت بأنها فيهم

(1) سورة الشورى الآية : 23.
علي الاكبر 165

أنس أبو عبد الله عليه السلام به لما فيه من احياء أمرهم والدعوة الى ذكرهم ثم بعث الى بعض أهله فقرب من المجلس فأخذ الكميت ينشد قصيدته وكثر البكاء من إلامام وأهله حتى إذا أتى على قوله :
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخراً أسدى له الغي أول
رفع أبو عبد الله يديه وقال : اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر وما أسر وما أعلن وأعطه حتى يرضى (1) .
وفي موطن آخر لما فرغ من إنشاد قصيدته أعطاه صرة فيها دنانير واستعذره من قلتها .
وعلى هذا الأساس فقد نهض جماعة من علماء الطائفة وفضلائها الى نظم ما اوثر عن أبي الحسن« علي الأكبر » وما حباه المولى سبحانه من مزايا امتاز بها على جميع الشهداء عدى عمه العباس .
ومن هؤلاء الذين فازوا بالرضوان الأكبر بخدمة شبيه الرسول خلقاً وخلقاً ومنطقاً شيخنا الحجة آية الله الشيخ

(1) الاغاني ج 15 ص 118 .
علي الاكبر 166

محمد حسين الاصفهاني (1) فلقد أبدع في أرجوزته التي صورت نفسية الأكبر وقداسة ذاته وبصيرته التي هي أنفذ البصائر قال قدس سره :
تمثل النبي فـي سليله فـي خـلقه وخلقه وقيلـه
كما تجلى الله في نبيه فقد تـجلى هـوفـي وليه
وقد تجلى قلم الاقلام في لوح سر الوحي والالهام


(1) له أربع وعشرون أرجوزة في النبي وفاطمة والأئمة الاثنى عشر وأبي طالب وحمزة وجعفر الطيار والعباس ومسلم بن عقيل وأبي جعفر السيد محمد بن الامام الهادي وزينب الكبرى وعلي الأكبر والقاسم وعبد الله الرضيع وقد تصدى لطبعها بأجمعها الفاضل صاحب المطبعة الحيدرية في النجف «محمد كاظم الحاج شيخ صادق الكتبي » كما انه لم يزل مجداً في نشر مؤلفات علماء الطائفة الجعفرية وبمسعاه احيا جملة كثيرة كانت في زوايا المكتبات لاينالها الاالنزر من رواد العلم فالى المهيمن نبتهل أن يفيض عليه لظفه في المثابرة على هذا المجهود الكبير الذي يضم الى المكتبة العربية عدداً ليس بالهين من مؤلفات رجالات الشيعة ومتقدميهم في الحديث والكلام والتاريخ .
علي الاكبر 167

فـيه تـجلى محكم التنزيل كمـا تـجلى باطـن التأويل
وكـيف وهو صفوةالولاية ونـخبة الـمبعوث بالـهداية
شمـائل النبـي في شمائله وصـولة الوصي من فضائله
هـوالوصي في علو همته وفـي إبـائه وفـي فتـوته
كـل جـميل هوفي جماله وكـل عـز هـو في جلاله
هـوابن من دنـا إلى أدناه فـما أجـلـه ومـا أعـلاه
ريحانة الحسين أزكى ثمره لمهـجة الـنبي خير الخيرة
فتى قريش بل فتى الوجود وليثها بـل أسـد الاسـود
وسيفهـا العادل في قضائه بل هو سيف الله في مضائه
فارسها بـل فارس الاسلام أكـرم بـهذا الـبطل الهمام

علي الاكبر 168

من دوحة العلياء غصنها الطري نمـاه بالقدس نـمير الكوثر
ذاك علي بـن الحسين بن علي لطيفة الطف الخفي والجـلي
فـي عالم التكوين كـون جامع يـندك في وجـوده الجوامع
بـل هـوفي صـحيفة الأكوان فاتـحة الكتاب فـي الـقرآن
غـرتـه غـزة سيـد الـرسل نور العقول والنفوس والـثل
قـرة عـين الـحق والحقيقـة
درة تـاج الشرع والطـريقة
ووجهه المـضيء في الاعيان بــدر سماء عالـم الامكان
كيف فـي الاشـراق والضياء شمس ضياء عالـم الاسماء
ونوره المـنـير نـور الـنور فأين مـن سناه نور الـطور
أسفـرمن مشرقه صبح الازل به استنار الكون فيما لم يزل

علي الاكبر 169

بـل لايـزال مـستنـيراً أبــدا وكيف لاونـوره نـور الـهدى
نـور بـدا مـن افـق الـرسالة مـن افـق الـعزة والـجـلالة
بل هو في الظهور سر المصطفى فـمنتهى جـلاه غـاية الـخفى
هـو النبي فـي مـعارج الـعلا لـكن عـروجـه بـطف كربلا
نال مـن الـعروج منتهى الشرف ومن رياض القدس افضل الغرف
والـحرب قـد بانت لـها الحقايق مـذفي يـمينـه تـجلى البارق
وافتـرس الفرسان لـيث غابهـا واخـتلس الـكماة مـن ركابها
فكـم كمي حـين الـفى الشرفـر يـقول مـن خـيفتة أين المفر
كـم بـطل مـ ن عـضبة البتار شاهـد في الـدنيا عـذاب النار
سـطا عـلى جـموعهم منفر دا حتـى إذا أوردهـم ورد الردى

علي الاكبر 170

صال كجده الوصي المرتضى بصـولة تشبـه مـحتوم القضا
حـتى إذا تـم نصاب الحرب بالطعن في صدورهم والضرب
فـاجـأه «ابن مـرة » الغدار فـكاد يهـوى الـفلك الـدوار
ألـيس يهـوى الـفلك الدوار ان زال عـن مـركـزه المدار
بـل هـوفي مقامـه المكين مـدار كـل عـالم التـكويـن
وانشـق رأس الـمجدوالفخار بـل مـهجة الـمختار والكرار
لـمااصـيبت هامـة الكرامة عـلى أبـيه قامـن الـقيامـة
ومـذرأى قرةعين المصطفى مـعفراًقال :( على الدنيا العفا )
وانهـملت عـيناه بالدمـوع بـل بـدم مـن قـلبه الجزوع
وكيف لايبكي دما قلب الهدى ومـهجة الدين غدت نهب العدى

علي الاكبر 171

بـكت على شبابه عين السما فأمـطـرت لـعظم رزئه دما
وأذنـت حـزنـا بـالانفطار مـذ غـاب عنهـا قمر الاقمار
ناحـت عليه الكعبة المكرمة مـذ اصبحت اركانـها منهدمة
كيف وناحت كعبة الـتوحيد على مصـاب ركنهـا الـوحيد
ناحـت على كفيلها العـقائل والمـكرمات الـغر والفضـائل
بـكتـه بالـغدو والآصـال عين العلا والمـجد والـكمـال
بكاه ما يرى وماليس يـرى من ذروة العرش الى تحت الثرى
بكاه حزناً رب أرباب النهى ومن هـو المبدأ وهـو المنـتهى
ومـن بكـاه سـيد الـبرايا فرزؤه مـن أعـظـم الـرزايا
بكته عين الرشد والـهدايـة ومن هو المنصـوص بالوصاية

علي الاكبر 172

لفد بكت كالمزن عين المعرفة على فقيد كل اسـم وصفـة
يـاساعـد الله أبـاه مـذخبا نيره ( الأكبر) في ظل الضبا
رأى الخليل في منى الطفوف ذبيـحه ضـريبة الـسيوف
لـهفي عـلى مقائل الرسالة لـما رأيـنه بـتلك الحـالة
عـلا نـحيبهـن والـصياح فانـدهش الـعقول والارواح
لهفي لها إذ تـندب الرسـولا فـكادت الجـبال أن تـزولا
لهفي لها مذ فقـدت عـميدها وهـل يـوازي أحـد فقيدها
ومـن يـوازي شرفا وجـاها مثـال يـاسين شـبيه طاها

علي الاكبر 173

لشيخنا حجة الاسلام آية الله الشيخ عبد الحسين الشيخ صادق العاملي قدس روحه الطاهرة :
عهـدي بربعهـم اغن المعهدي ونديـه يفـتن بـالروض الندي
مـابـاله درس الـجديد جديده ومحا محاسن خـده الـمـتورد
أفـلت أهـلته وغـابت شهبه في رائـح للنـائـبات ومغتـدي
زمـت ركاب قطينه أيدي سبا تفلي الفلات بمتـهـم أو منجدي
ولقد وقفت به ومعتلج الجوى بجوانحي عن حبس دمعي مقعدي
فتخالني لضناي بعض رسومه ولحزأحشـائي أثـافي مـوقدي

علي الاكبر 174

متـقـوس كـالنـؤى (1)إلاأنني لشحوب جسمي مانسوا من مذود
حجـر على عيني يمر بها الكرى من بعـد نازلـة «بعترة أحمد »
أقمار تـم غالهـا خسـف الردى فاغتالها بصروفه الـزمن الردي
شتى مصائبهـم فبيـن مـكـابد سماً ومنحـور وبيـن مصفـد
سل كربلاكم مـن حشـاً لمحمد نهبت بها وكم استجـذت من يد
ولكم دم زاك اريـق بهـا وكـم جثمان قدس بالسـيـوف مبـدد
وبها على صدر الحسين ترقرقت عبراته حـزنـاً لأكـرم سـيـد
( وعلى قدر ) من ذوابـه هاشم عبقت شمائلـه بطـيـب المحتد
أفديـه مـن ريحـانـة ريـانة جفت بحر ظما وحـر مـهـنـد

(1) الحفير حول الخيمة يمنع السيل .
علي الاكبر 175

بكر الذبـول علـى نضارة غصنه ان الذبول لأفة الفصـن الندي
لله بـدر مـن مـراق نـجـيـعه مزج الحسام لجيـنه بالعسجد
ماء الصبا ودم الوريـد تجـاريـا فيه ولاهب قلبه لـم يخـمـد
لم أنسه متعمـمـاً بـشبـا الضبا بين الكماة وبالاسنة مـرتـدي
يلقى ذوابلـهـا بذابـل معطـف ويشيم أنصلهـا بـحيـد أجيد
خضـبت ولكـن مـن دم وفراته فاخضر ريحان العذار الاسود
جمع الصفات الغـر وهي تـراثه من كل غطريف وشهم أصيد
في بأس حمزة فـي شجاعة حيدر بأبي الحسين وفي مهابة أحمد
وتراه في خلق وطيـب خـلائـق وبليغ نطـق كالنـبي محـمد
يرمي الكتائب والفلاغـصـت بها في مثلها من بأسـه المتـوقد

علي الاكبر 176

فيردهاقسراً علـى أعـقـابـها في بـأس عريـس العـريـنة ملبد
ويؤوب للتـوديـع وهـو مكابد لظـمـاالفـؤاد وللحـديـد المجـهد
صادي الحشا وحسامه ريان من ماء الطـلا وغـليـلـه لـم يبـرد
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى ظمأ الحشا إلا إلى الظـامـي الصدي
فانصاع يؤثره عليـه بـريقـه لو كان ثـمة ريـقـه لـم يـجمـد
كل حشاشته كصالـيـة الغضا ولسانـه ضمـئـاً كشـقـة مبـرد
ومذ انثنى يلقى الكـريهة باسماً والموت منـه بمسـمـع وبمـشـهد
لف الوغى وأجالها جول الرحى بمثـقـف مـن بـأسـه ومهـنـد
حتى إذا ماغاص فـي أوساطهم بمطـهـم قـب الايـاطـل اجـرد
عثر الزمان به فغـودر جسمـه نهب القـواظـب القـنـا المـقصد

علي الاكبر 177

ومحاالردى ياقـاتـل الله الـردى منه هلال دجـى وغـرة فـرقد
يانجعة الحيين هـاشـم والـندى وحمى الذماريـن العـلا والسؤدد
كيف ارتقت همم الردى لك صعدة مطرورة الكعبـيـن لـم تـتأود
فلتذهب الدنيـاعلـى الدنيا العفا مابعد يـومـك مـن زمان أرغد


السابق السابق الفهرس التالي التالي