كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 107

الانبياء (عليهم السلام) وَلم يَمنعهم كلُ ذلك من السعي قُدماً تجاه وظائفهم الشرعية من أجل إصلاح الامة ، ودعوتهم إلى الله تعالى وإن أدى ذلك إلى الشهادة.
فكذلك الحسين(عليه السلام) الذي لا يثنيه عن عزيمته ّمرٌ ولا يلويه أحدٌ عن موقفه الديني ، سار حسبما أملاه عليه الواجب الشرعي والديني وإن تعرض هو مع أهل بيته للتشريد والقتل والابادة ما دام ذلك بنظر الله وأمره تعالى.
وقد ذكر الحجة الشيخ التُستري أعلى الله مقامه : أن للحسين(عليه السلام) تكليفين : واقعي وظاهري :
أ ـ أما الواقعي الذي دعاه للاقدام على الموت ، وتعريض عيالهِ للاسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك ، فالوجه فيه : أن عتاة بني اُمية قد اعتقدوا أنهم على الحق ، وأن علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل ، حتى جعلوا سبَّه من أجزاء صلاة الجمعة ، وبلغ الحالُ ببعضهم أنه نَسي اللعن في خُطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه ! وبنوا مسجداً سَمُوه « مسجدَ الذكر » فلو بايع الحسينُ يزيدَ وسَّلَّم الامرَ إليه لم يبق من الحقِ أثرٌ ، فإن كثيراً من الناس يعتقدُ بأن المحالفة لبني أُمية دليلُ استصواب رأيهم وحسن سيرتهم ،
وأما بعد محاربة الحسين لهُم ، وتعريض نفسه المقدسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم ، فقد بيَّن لاهل زمانه والاجيال المتعاقبة أحقيتهُ بالامرِ وضَلال من بعى عليه.
ب ـ وأما التكليف الظاهري فلأنه(عليه السلام) سعى في حِفظ نفسهِ وعياله بكل وجه ، فلم يتيسر له وقد ضَيّقوا عليه الاقطار ، حتى كتب يزيد إلى عامله على المدينة أن يقتله فيها ، فخرَج منها خائفاً يترقب ، فلاذَ بحرم الله الذي هو اَمْنُ الخائف وكهف

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 108

المستجير ، فجَدُّوا في إلقاءِ القبض عليه ، أو قتله غيلةً ولو وُجدَ مُتعلقاً بأستارِ الكعبة ، فالتزم بأن يجعل إحرامَهُ عُمرةً مُفردةً وترك التمتعَ بالحج ، فتوجه إلى الكوفة لانهم كاتبوه وبايعوه وأكدوا المصيرَ إليهم لانقاذهم من شرور الامويين ، فألزمَهُ التكليف بحسب ظاهر الحال إلى موافقتهم إتماماً للحجة عليهم ، لئلا يعتذروا يوم الحساب بأنهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظلم الجائرين ، فاتهمهم بالشقاق ولم يغثهم مع أنه لو لم يرجع إليهم فإلى أين يتوجه ، وقد ضاقت عليه الارض بما رحُبت ، وهو معنى قوله لابن الحنفية : لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لا ستخرجوني حتى يقتلوني(1) !
وقال لابي هرّة ـ الازدي ـ : إنَّ بني أُميةَ أخذُوا مالي فَصبرْت ، وَشتموا عِرضي فَصبرت ، وَطلبُوا دَمي فهرَبت(2)(3).
ولهذا كان(عليه السلام) يُؤكدُ للناس أنها وظيفةٌ شرعيةٌ لا محيص عنها ، وخصوصاً مع أُولئك الذين حاولوا صرفَهُ عن طريقه ، وتغيير وجهَة نظره ، فكان ينسبُ الامرَ إلى الله تعالى وبأمر من جده (صلى الله عليه وآله)كما أوضح هذا إلى أخيه محمد بن الحنفية حينما عزم على الخروج من مكة المكرمة ، وقد قال له أخوه ابن الحنفية : ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟ قال : بلى ، ولكن بعدما فارقتك أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقال : يا حسين اخرج فان الله تعالى شاءَ أن يراك قتيلاً.

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص288 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص218 ، بحار الانوار : ج45 ، ص99.
(2) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص226 ، بحار الانوار : ج44 ، ص368 ، اللهوف : ص30.
(3) مقتل الحسين للمقرم : ص170 عن الخصائص الحسينية ص85.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 109

فاسترجع محمد ، وحينما لم يعرف الوجه في حمل العيال معه وهو على مثل هذا الحال ، قال له الحسين(عليه السلام) : قد شاء الله تعالى أن يراهن سبايا(1).
الامر الذي يدل على أن هناك أمراً وتكليفاً شرعياً كما يُستفاد هذا أيضاً من كلمة « شاء الله » حيث قيل أنها المشيئة التشريعية التي يتعلق بها الامرُ ، فاللهُ تعالى يُريد أن يرى الحسين(عليه السلام) المُدافع والمُحامي عن الدين ، والمصلح لما فسد منه ، ولو أدى ذلك إلى الشهادة والقتل في سبيله.
وقد أكَّد هذا أيضاً وذلك حينما اعترضه أحدهم يريد أن يثنيه عن عزمه ، قائلاً له : إني أُذكركَ اللهَ في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ !!
فقال له الحسين(عليه السلام) أفبالموت تخوفني ، وهل يَعدو بكمُ الخطبُ أن تَقتلوني ، وسأقول ما قال أخو الاوس لابن عمه وهو يريد نصرةَ رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا مــا نوى حقاً وجــاهد مسلماً
وواسى الــرجال الصالحين بنفسه وفــارق مثبوراً وخــالف مُجرماً
فإن عشت لم أندم وإن مـتُ لـم اُلَمْ كفـى بك ذُلاً أن تعــيش وتُرغما(2)

وفي رواية أنه لما أكثروا عليه في ذلك قرأ(عليه السلام) بعد الابيات المذكورة هذه الاية الشريفة :«وَكَانَ أَمرُ اللهِ قَدَراً مَّقدُوراً »(3)(4).

(1) اللهوف : ص28 ، بحار الانوار : ج44 ، ص364 ، مقتل الحسين للمقرم : ص167.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص305 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص232 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص225.
(3) سورة الاحزاب : الاية 38.
(4) تذكرة الخواص لابن الجوزي : ص217 ، نفس المهموم : ص170.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 110

وفي رواية قال(عليه السلام) بعد الشعر :لَيسَ شَأني شأَنَ مَنْ يَخافُ الموتَ ، ما أهوَنَ الموت على سبيل نَيْلِ العزِّ وإحياءِ الحقِّ ، ليسَ الموتُ على سبيلِ العزِّ إلا حياةً خالدةً ، وليستِ الحياة مَعَ الذُّلِّ إلاَّ المَوتَ الَّذي لا حَياةَ مَعَهُ ، أفَبالمَوتِ تُخوّفُني ، هيهاتَ طاشَ سهْمُكَ وَخاب ظَنّك لستُ أخافُ الموتَ ، إنَّ نَفْسي لا بْكر وَهِمَّتي لأعلى مِنْ أن أحمِل الضَّيم خَوفاً مِنَ الموتِ ، وهل تقدرُون على أكثر من قتلي ؟ ! مرحباً بالقتل في سبيلِ اللهِ ، ولكنَّكُم لا تقدرُون على هَدم مَجدي ومَحو عزّي وَشرَفي فإذاً لا اُبالي بالقتل (1).
يقول السيد حيدر ـ عليه الرحمة ـ :
كيف يَلوي على الدنيَّة جيداً لسـوى الله مـالواهُ الخضوعُ
ولديه جأشٌ أردُّ من الدُرع لظمـأى القنـا وَهـُنَّ شُروعُ
وبه يَرجعُ الحفاظُ لصـدر ضاقتِ الارضُ وهي فيه تَضيعُ
فأبىَ أن يعيش إلا عزيـزاً أو تجلى الكفاحُ وهو صَريعُ(2)

(1) إحقاق الحق : ج11 ، ص601 ، أعيان الشيعة : ج1 ، ص581 ، موسوعة كلمات الامام الحسين : ص360.
(2) ديوان السيد حيدر الحلي : ج 1 ص 87.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 111

ب ـ البعد الديني في موقف أصحابه(عليه السلام) :


وإذا ما تتبعنا الدوافع التي دفعت بأنصار الحسين (عليه السلام) للوقوف إلى جانبه ونصرته إلى آخر رمق في حياتهم ، وجدناها دوافع انبثقت من الشعور بالمسؤلية الشرعية ، والتي تأخذ بأعناقهم جميعا وتلزمهم بالتضحية معه مهما كلفهم الامر.
وقد أفصحت مواقفهم في هذه الليلة عن نواياهم الصادقة النبيلة ، وعلى طهارة نفوسهم فارتقوا بذلك إلى أرقى الكمالات النفسية ، إذ لم يمازح أهدافهم تلك أي نوع من الأهداف الشخصية ، أو المنافع المادية ، أو المطامع الدنيوية ، أو حب الجاه والشهرة.
بل كانت غايتهم رضى الله تعالى ونصر الرسول صلى الله عليه واله في شخص الحسين(عليه السلام) فأصبحوا مصداقا لقوله تعالى :«دونإنهم فتية آمنو بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من ه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً »(1)
وإذا أمعنا النظر في أفعالهم وأقوالهم في هذه الليلة ، وجدناها تفصح عن دوافعهم الأيمانية وشُعُروهم بالمسؤلية الشرعية التي لا مناص من الالتزام بها ، وهذا ما كان واضحاً جلياً في كلماتهم التي عاهدوا فيها الحسين(عليه السلام) على الشهادة حينما أذن لهم بالانصراف ، فمن تلك الكلمات ما يلي :

(1) سورة الكهف : الاية 13 و 14.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 112

1 ـ كلمة مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها : أنحن نصلي عنك ولما نَعذٌر إلى الله في أداء حقك.
وهذا صريح في أن هذا الامر واجب وفرض لا مناص منه ولِذا ابتدأ كلمته هذه بالاستفهام الانكاري قائلاً : أنحن نخلي عنك ؟! موضحاً أن الاعذار إلى الله تعالى لا يتُم إلا بنصر الحسين(عليه السلام) والوقوف معه وأنه ملزم بالاعذار تجاه الله تعالى وإنها مسؤلية شرعية ، معنى هذا أنه لو تخلى عنها هو وأصحابه فلا يكونون معذورين عند الله تعالى ، وجاءَ في رواية الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ بدل قوله : « ولمَّا نعذَر إلى الله » وبمَ نعتذر إلى الله في أداء حقك ، فبعدَ الاعتراف والاقرار بأن للحسين(عليه السلام) حقاً عليهم معنى هذا أنهم إذا لم يَنصرُوه ولم يؤُدوا حقَه كانُوا مسؤلين أمام الله تعالى وليس لهم حينئذ حجةٌ أمامَه يعتذرونَ بها.
2 ـ كلمةُ سعد بن عبد الله والتي يقول فيها :والله لا نُخليك حتى يعلمَ اللهُ أنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك(1).
وهذه صريحة أيضاً كسابقتها في الدلالة في أن الامر لا يَعدو كونَه تكليفاً شرعياً يتضمن الالتزام بحفظ غيبة النبي (صلى الله عليه وآله) ـ والتي لا يختلف فيها اثنان ـ والمتمثلة في شخص الحسين (عليه السلام) الذي هو امتدادٌ لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله).
وهذا ما أشار إليه أيضاً زهير بن القين في كلمته التي يقول فيها : فلما رأيتُه ذَكرتُ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومكانه منه(1).
3 ـ كلمة جماعة من أصحابه والتي يقولون فيها :فإذا نحن قُتلنا كُنا وَفينا

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص231.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص316 ، وقعة الطف لابي مخنف : ص194.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 113

وقضينا ما علينا(1).
وهذه الكلمة تفصح أيضاً عن إيمانهم العميق بلزوم مؤازرته ، وشعورهم بالمسؤلية الشرعية التي تلزمهم بالدفاع عنه الذي هو الحق للحسين(عليه السلام) عليهم كالدين الشرعي والذي لا يتحقق قضاؤه إلا بالقتل معه فإذا تم ذلك قضوا ما عليهم من الالتزام ووفوا بما عاهدوه عليه.
إلى غير ذلك من كلماتهم والتي أفصحوا فيها عن إحساسهم وشعورهم بالمسؤلية الشرعية الدينية ، والجري نحوها مهما كلف الامر ، ولذا عاهدوه على الشهادة معه في سبيل الله تعالى.

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 114

ج ـ الرضا والتسليم لله تعالى.:


وهو : ترك الاعتراض والسخط باطناً وظاهراً ، وَقولاً وَفعلاً ، وهو : من ثمراتِ المحبة ولوازمها ، إذ المُحب يَستحسنُ كُلمَا يصدرعن محبوبه ، وصاحبُ الرضا يستوي عندَهُ الفقرُ والغنى ،والراحةُ والعناء ، والعزُ والذل ، والصحةُ والمرض، والموتُ والحياة ، ولا يُرجحُ بعضَها على بعض، ولا يثقلُ شيءُ منها على طَبعه ، إذ يرى صُدورَ الكل من الله سبحانه ، وقد رسخ حُبه في قلبه ، بحيث يُحب افعالَه ، ويَرجُح على مُراده مُرادُه تعالى ، فيرضى لكل ما يكون ويرد.
وروي : أن واحداً من أرباب الرضا عمَّر سبعين سنةً ، ولم يَقل في هذه المُدة لشيء كان : ليتَهُ لم يكن ، ولا لشيء لم يكن : ليته كان.
وقيل لبعضهم : ما وجَدتَ من آثار الرضا في نفسك ؟
فقال : ما فيَّ رائحةٌ من الرضا ! ومع ذلك لو جعلني اللهُ جسراً على جهنَّم ، وعبرَ عليه الاولون والاخرون من الخلائق ودخلوا الجنة ، ثم يلقوني في النار ، وملأ بي جهنَّم ، لاحببت ذلك من حُكمه ، ورضيتُ به من قسمه ، ولم يختلج ببالي أنه لِمَ كان كذا ، وليت لم يكن كذا ، ولِمَ هذا حظي وذاك حظهم.
وصاحبُ الرضا أبداً في رَوح وراحة ، وسُرور وبهجة ، لانَهُ يشاهدُ كلَ شيء بعين الرضا ، وينظرُ في كلِ شيء إلى نور الرحمة الالهية ، وسر الحكمة الازلية ، فكأن كلَ شيء حصل على وفق مُراده وهواه.
وفائدةُ الرضا ، عاجلاً ، فراغُ القلبِ للعبادة والراحة من الهموم ، وآجلاً ،

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 115

رضوان الله والنجاة من غضبه تعالى.
والرضا بالقضاء أفضل مقاماتِ الدين ، وأشرف منازل المقربين ، وهو بابُ الله الاعظم ، ومن دخلهُ دخلَ الجنة ، قال الله سبحانه : ( رَضيَ اللهُ عنهُمْ ورَضوا عَنهُ )(1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سأل طائفةً من أصحابه : ما أنتم ؟ فقالوا : مؤمنون.فقال : ما علامةُ إيمانكم ؟ فقالوا : نَصبرُ على البلاءِ ، ونشكُر عند الرخاء ، ونرضى بمواقع القضاء. فقال : مؤمنون ورب الكعبة .
وقال (صلى الله عليه وآله) : إذا أحب الله عبداً ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه(2).
ذلك هو الرضا والتسليم لله تعالى في قضاءه وقدره من خير أو شر ، والذي هو من سمات وصفات الاولياء وأهل الايمان والذين ينظرون إليه تعالى ـ بعين الرضا وكأنه حصل وفق مرادهم.
وهذا الجانب الايماني العظيم ظهر وبشكل بارز وواضح في سلوك أهل البيت (عليهم السلام) كما نراه واضحاً في سلوك سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) والذي ما انَفك عنه في كُل أحواله وأفعاله وأقواله ، ولم يظهر عليه أيُ أثر خلاف ذلك.
بل كان في أعلى درجات الرضا والتسليم للخالق تعالى ، فكانت حكمتهُ في الحياة : رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبرُ على بلائه ، ويوفّينا أجور الصابرين (3).
وقد روي انه(عليه السلام) فَقدَ له ولداً في حياته فلم يُرَ عليه أثراً للكآبة فقيل له

(1) سورة المائدة : الاية 122.
(2) جامع السعادات للزاقي : ج3 ، ص202.
(3) اللهوف : ص26 ، بحار الانوار : ج44 ، ص367.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 116

ذلك ؟!
فقال(عليه السلام) : إنا أهل بيت نسأل الله فيعطينا ، فإذا أراد ما نكره فيما نحب رضينا(1).
وتشهدُ له بهذا أيضاً المواقف المريرة ، ـ يوم العاشر ـ والتي يقول فيها :وقوله أيضاً عند اشتداد المصائب عليه وذلك لما قُتل رضيعه : هَوّنَ عليِّ ما نَزَل بي أنَّهُ بعين الله(2).
وقولهعليه السلام) لما اُصيب بسهم : اللهم إن هذا فيك قليل(3).
يقول الشيخ الوائلي :
ومشت فـي شفاهك الغر نجوى نمّ عنهــا التحمـيد والتهليل
لك عتبي يارب ان كان يرضيك فهـذا إلـى رضــاك قليـل

وقال آخر على لسان حال الحسين(عليه السلام) :
تركت الخلق طراً في هواكا وأيتمت العيال كي اراكا
فلو قـطعتـني بالحب إرباً لما مال الفؤاد إلى سواكا

فكان ـ صلوات الله عليه ـ في أعلى درجات الايمان والذي من إشعاعه الرضا والتسليم لامر الله تعالى وقضائه.
وأما ظهور هذا الامر في هذه الليلة العظيمة ، فأمرٌ واضح في سلوكه(عليه السلام) ، مع ما هو فيه من البلاء العظيم الذي يحذق به وبأهله وأصحابه ، فكان كلما اشتد عليه

(1) حياة الامام الحسين(عليه السلام) للقرشي : ج1 ، ص123
(2) اللهوف لابن طاووس : ص50 ، بحار الانوار : ج45 ، ص46.
(3) حياة الامام الحسين للقرشي : ج3 ، ص284.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 117

الامرُ يكثر وقاره ، ويزيد اطمئنانه ، ويشرقُ لونه ، وتهدأُ جوارحه ، وتسكن نفسه(1) لأنه ـ صلوات الله عليه ـ يشاهد كل ما يجري عليه وعلى أهل بيته بعين الرضا والتسليم .
وكيف لا تطمئن نفسه وهو ينظرُ إلى في كل شيء بنور الرحمة الالهية ، ولذا اختص بنداء خاص(2)بقوله تعالى :«يا أيتُها النَفسُ المطمئنةُ ارجعي إلى ربك »واختص برضاه عن ربّه ورضاه عنه بقوله : «راضيةً مرضيةً » ، واختص بعبودية خاصة وجنة خاصة منسوبة الى الله بقوله:« فادخُلي في عبادي

(1) جاء في معاني الاخبار للصدوق ـ عليه الرحمة ـ ص 288 باب معنى الموت ( ونقله في بحار الانوار أيضاً : ج44 ، ص297 ) : عن أبي جعفر الثاني ، عن أبائه (عليهم السلام) قال : قال علي بن الحسين(عليه السلام) : لمَّا اشتدَّ الامر بالحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم ، لانّهم كلما اشتدُ الامر تغيرت ألوانُهم ، وارتعدت فرانصُهم ووجلت قلوبُهم ، وكان الحسين (عليه السلام) وبعضُ مَنْ معه من خصائصه تشرقُ ألوانُهم ، وتهدأُ جوارحُهم ، وتسكن نفوسُهم.
فقال بعضهم لبعض : انظروا لا يُبالي بالموت !! فقال لهم الحسين(عليه السلام) : صبراً بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟وما هو لاعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، إنَّ أبي حدثني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ان الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. والموت جسر هؤلاء الى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كُذبت.
(2) روي عن دارم بن فرقد قال : قال أبو عبد الله(عليه السلام) : إقرءوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم ، فإنها سورة الحسين بن علي (عليهما السلام) وارغبوا فيها رحمكم الله تعالى ، فقال له أبو اُسامة وكان حاضرَ المجلس : وكيف صارت هذه السورة للحسينعليه السلام) خاصّة ؟ فقال : ألا تسمع إلى قوله تعالى ( يا أيّتها النّفسُ المطمئنّة) الاية ، إنّما يعني الحسين بن علي (عليهما السلام) فهو ذو النّفس المطمئنّة الرّاضية المرضيّة ، وأصحابه من آل محمد (صلى الله عليه وآله) هم الراضون عن الله يوم القيامة ، وهو راض عنهم. بحار الانوار : ج44 ، ص218
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 118

وادخلي جَنَّتي »(1)(2).
ومن كلمات الرضا التي ظهرت في كلماته الشريفة في هذه الليلة قوله(عليه السلام) في ضمن أبيات أنشدها مراراً :
وإنما الامر إلى الجليل وكلُ حيٍّ سالكٌ سبيلي

قالها بكل ثقة واطمئنان مذكّراً بأنّ هذا سبيل كلّ إنسان ، وأن الامر ينتهي إليه تعالى فلا رادَّ لقضائه ولا دافعَ لحكمته ـ عزّوجّل ـ.
ولما خطب في أصحابه هذه الليلة ابتدأها بكلماتِ الرضاء والتسليم لله تعالى وبالثناء عليه والشكر له تعالى قائلاً :أُثني على الله تبارك وتعالى أحسنَ الثناء وأحمدَهُ على السّراء والضراء ، اللهم إني أحمَدُك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً فاجعلنا من الشاكرين(3).
إنه بِحق أعظم موقف في مقام الشكرِ والامتنان لله تعالى على ما أعطاه ومنحهُ من نِعَم ، كما يثني عليه ويحمده على السراء والضراء الامر الذي يدل على تسليمه لامر الله ـ تعالى ـ ورضاه بقضائه في جميع الاحوال.
ومنها إيضاً قوله(عليه السلام) : في موقف مع أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام) فإنَّ اللهَ لا يُخليني من حُسنِ نظره كعادته في أسلافنا الطيبين(4) ، والذي يدل على ارتباطه

(1) سورة الفجر : الاية 27 ـ 30.
(2) الخصائص الحسينية للتستري : ص54.
(3) تاريخ الطبري : ج4 ، ص317 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص231.
(4) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص223.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 119

الشديد بالله ، وثقته العظيمة به وأنّ ما يجري عليه هو بنظره تعالى.
ومن كلماته عليه السلام) في ذلك لهم : فاعلموا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفة لعباده باحتمال المكاره ، وإن الله وإن كان قد خصَّني مع مَنْ مضى من أهلي الذين أنا آخرُهُم بقاءً في الدنيا من الكرامات ، بما سهّل معها على احتمال الكريهات ، فإن لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدنيا حُلوها مرُّ ، ومرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائز مَنْ فازَ فيها والشقي من يشقى فيها(1).
إذ أخذ ـ صلوات الله عليه ـ يرغبهم في احتمال المكاره ، وأنه تعالى يَهبُ المنازلَ باحتمالها وأنه يحتملُها كرامةً لله ـ تعالى ـ ، كما أخذَ يُنَبهُهم من أمر الدنيا ، ويبين حقيقتها فالانسان فيها إمّا أن يُسعد أو يشقى ، فسعادته هي سيّرهُ وفقاً لما أراده الله عزوجل وسعياً لتحقيق الاهداف التي من أجلها خُلق ووجد ، وشقاؤه من اتباع شهوات الدنيا والتعلق بحبائلها والانشغال بزخارفها.
وأوضح(عليه السلام) أن مرارة الدنيا وصعوباتها حين تكون في طريق الله سبحانه تتسم في نظر المؤمن بالحلاوة والجمال ، فالمؤمن مُحب لله ويستحسن كلما يجري عليه من أجل محبوبه.

(1) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص223.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 120

د ـ الاستبشار بالشهادة :


ليس من المُعتاد أن يفرح الانسان ويبتهج وهو يعلم بدنو أجله وانقطاع حبل حياته من الدنيا ، فتراه إذا ما علم بدنو أجله ، اعتراه الخوف والوجل والاضطراب ، ولربما مات بسبب خوفه من الموت ، إذ أن كل إنسان يحب الحياة والبقاءَ ويتشاءم من الموت.
ولعلك تعجب إذا ماسمعت بأن أصحاب هذه الليلة باتوا ليلتهم وهم أشدُ الناس فرحاً ، وأبهجهم حالةً ، وأربطهم جأشاً ، مستبشرين بما أقدموا عليه وبما يصرون إليه وقد أخذ يداعبُ بعضهم بعضاً ، مع علمهم بدنو آجالهم ، وأن أجسادهم سوف تصبح عن قريب طعمةً للسيوف ونهبةً للاسنة. ومرمىْ للسهام.
ولعله لم تمر عليهم ليلةٌ بأسعد منها ، حتى بدت على وجوههم الطلاقة والاشراق والطمأنينة لا يستشعرون بخوف ولا وجل ، وذلك أنهم وجدوا أنفسهم يؤدون وظائفهم الشرعية تجاه سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) ، إذ سوف يحوزون على أعظم وأقدس شهادة عرفها تاريخ البشرية ، ثم ذلك النعيمُ الدائم الذي لا اضمحلال فيه ، فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالى: « إن الذين قالوا رُّبنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون ، أولئك أصحابُ الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون »(1).

(1) سورة الاحقاق الاية : 13 و 14.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 121

وقوله تعالى : « إن الذين قالوا رَبُنا الله ثُمَّ استقاموا تتنزلُ عليهمُ الملائكةُ ألا تخافُوا ولا تحزنُوا وأبشرُوا بالجنة التي كنتم توعدون» (1).
والجدير بالذكر انه جاء في زيارة على بن الحسين (عليهما السلام) : أشهد أنّك من الـ «فَرِحِينَ بِمَا أتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لَم يَلحَقُوا بِهِم مّنْ خَلفِهِم ألاَّ خَوفٌ عَلَيهِم وَلأهُم يَحزَنُونَ » (2)، وتلك منزلةُ كلّ شهيد فكيف منزلة الحبيب إلى الله ، القريب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3).
فهذا ما كان عليه أهل بيت - الحسين(عليه السلام) وأصحابه من الاستبشار والفرح بالشهادة في سبيل الله تعالى ، ولا غروان تتَنزّل عليهم الملائكة وتبشرهم وتطمئنهم«الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون»، وحسبك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الليلة أن يكون هو المبشر بهذا لولده الحسين (عليه السلام) باستبشار الملائكة به.
فقد جاء في الرواية أن الحسين(عليه السلام) لما خفق خفقة في سحر ليلة العاشر رأى جده (صلى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له : يا بُني أنت شهيدُ آلِ محمد ، وقد استبشرَ بكَ أهلُ السماوات وأهلُ الصفيح الاعلى ، فليكن إفطارُك عندي الليلة عجل ولا تُؤخر ، هذا مَلكٌ قد نزل من السماءِ ليأخذ دَمَكَ في قارورة خضراء(4)..
الامر الذي يدل على استبشار الملائكة وأهل الفصيح الاعلى بلقاء

(1) سورة فصلت الاية : 30.
(2) سورة آل عمران الاية 170.
(3) بحار الانوار : ج 98. ص 242.
(4) بحار الانوار : ج45 ، ص3 ، الفتوح لابن الاعثم : ج2 ، ص153.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 122

الحسين (عليه السلام) وأصحابه ، كما استبشرهو أيضاً بهذا اللقاء والذي ما فتىء يَحنو إليه واعتبر يوم يلقاه سعادة كما أشار إلى هذا في قوله(عليه السلام) : إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما (1).
وهو القائل(عليه السلام) :
وإن تكن الابدان للموت اُنشئت فَقتلُ امريء بالسيف في الله أفضل(2)

فالقتل في سبيل الله عنده سعادةً ، والاستشهاد بالسيف أفضل ، إذا كان في ذلك نصرٌ لدينه ، وإحياءٌ لامره ، وحفظٌ لشرعه ، فكان حقيقاً به(عليه السلام) أن يبتهج ويشرق وجهه استبشاراً بلقاء الله بنفس مطمئنة غير وجلة ، وهو القائل : لست أخاف الموت ، إن نفسي لابكر وهمتي لاعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت ، وهل تقدرون على أكثر من قتلي ، مرحباً بالقتل في سبيل الله (3).
يقول السيد حيدر الحلي - عليه الرحمة - :
وسامته يركـب إحــدى اثنتين وقد صـرَّت الحـرب أسنانها
فأمّا يُرى مذعنـاً أو تمــوت نفـــسٌ أبـى العزُّ اذعانها
فقــال لها اعتصمـي بـالابـا فنـفس الابــيّ ومـا زانهـا
إذا لـم تجد غير لبـس الهـوان فبـالمــوت تنـزع جثمانه
رأى القتل صبـراً شعـار الكرام وفخــراً يُزين لها شأنها(4)

(1) تقد تخريجه
(2) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص223 ، مقتل الحسين للمقرم : ص180.
(3) تقدم تخريجه.
(4) ديوان السيد حيدر الحلي ج 1 ص 109 ، رياض المدح والرثاء : ص61.

السابق السابق الفهرس التالي التالي