كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 123

فكان(عليه السلام) أربط جأشاً مع كل ما جرى عليه غير مكترث بعدتهم وعديدهم وقد انعكس هذا الأمر على اصحابه فكانوا غير مكترثين بما يجري عليهم ، مع علمهم بمصيرهم المهول ، إذ استقبلوه بشجاعة فائقة ، لا يوجد فيها تخاذل أو تردد بل على العكس هُم في عَدّ السويعات القليلة ، مع رجاء انقضائها وبزوغ شمس الجهاد والتضحية ، وفلق هام رؤوس الاشرار ، مع السرور والحبور وملاقاة الحور بشراء النفس ابتغاء مرضات الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وكيف لا يكونون أشد الناس فرحاً وهم يَبلغون مَبلغَ الفتح العظيم ، ويستقبلون اعظم شهادة مقدسة عرفها التاريخ ، كما أشار إلى هذا سيد شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ في كتابه إلى بني هاشم : فإن من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف عني لم يبلغُ مبلغ الفتح...(1).
وكما لا يخفى أن من آثار الفتح الفرح والاستبشار عند الفاتح ، ولعل إلى هذا أشار سلمان الفارسي ـ رضوان الله عليه ـ في حديثه مع زهير بن القين ، وقد حدث به أصحابه لما التحق الاخير بركب الحسين(عليه السلام) قائلاُ لهم : من أحب منكم ان يَتْبعني وإلا فهو آخر العهد.
إني سأحدثكم حديثاً ، إنا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال سلمان الفارسي ـ رحمة الله عليه ـ : أفرحتم بما فتَح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟! قلنا : نعم ، فقال : إذا أدركتم سيدَ شباب آل محمد فكونوا أشدَ فرحاً بقتالكم معهم مما أصبتم اليوم من الغنائم.(2)..

(1) اللهوف لابن طاووس : ص28 ، المناقب لابن شهر آشوب : ج4 ، ص76 ، بحار الانوار : ج44 ، ص330 ، وج 45 ص 85.
(2) الارشاد للشيخ المفيد : ص221 ، بحار الانوار : ج 44 ص 372 ، تاريخ الطبري : ج4 ، ص299.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 124

هذا ما كانوا عليه ـ صلوات الله عليهم ـ إذ أخذ كل منهم يداعب الاخر ويضاحكه استبشاراً منهم بالشهادة والتي سوف يحققونها عملياً على صعيد ذلك التراب الطاهر.
وهذا في الواقع يُمثل قمة الشجاعة والصمود حيث أنهم في ساعاتهم الاخيرة ، غير مكترثين بالاعداء ، ومواقفهم ليلة العاشر تَشهد على ذلك والتي منها : موقف برير مع عبد الرحمن لما أخذ يهاذله ويضاحكه إقال له عبد الرحمن : دعنا فوالله ما هذه بساعة باطل ؟ قال له برير : والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون ، والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم ، ولو وددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم !! (1).
وموقف حبيب بن مظاهر مع يزيد بن الحصين الهمداني ، حينما رأى يزيدُ حبيبَ خارجاً يضحك ! !
فقال له : ما هذه ساعة ضحك ؟ !
فقال حبيب له : فأي موضع أحق مِنْ هذا السرور ؟ والله ما هو إلا أن يميل علينا هذه الطغام بسيوفهم فنعانق الحور العين (2).
وكذلك أيضا موقف نافع بن هلال ـ رضي الله عليه ـ الذي قضى شطرَ ليله في كتابة اسمه على سهام نبله إمعاناً في طلبه المثوبة والاجر ، وإمعاناً في السخرية

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص321 ، اللهوف : ص41.
(2) اختيار معرفة الرجال للطوسي : ج 1 ص 293.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 125

الخطر ، وإمعاناً في الترحيب بالموت(1).
فكانوا حقاً كما قال فيهم الحسين(عليه السلام) : فما وجدت فيهم إلا الاشوس الاقعس ، يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه(2).
وهذا ما استأثر بعناية بالغة عند شعراء وأدباء الطف إذ صوروا ما كان عليه أصحاب الحسين(عليه السلام) من التفوق والروح المعنوية العالية ، واستبشارهم وفرحهم بالشهادة ، يقول السيد رضا الهندي ـ عليه الرحمة ـ :
يتمايلون كأنمــا غنّـى لهـم وَقـعُ الظّبـى وسقاهُمُ أكوابا
وكأنَهم مستقتـبلونَ كواعبــاً مستقبليــن أسنــةً وكعابا
وجدوا الردى من دون آل محمد عَذباً وبعدَهُم الحياة عذاباً(3)

وقال أيضاً :
ادركوا بالحسين أكبر عيد فغدوا في منى الطفوف أضاحي(4)

ويقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ـ نور الله ضريحه ـ :
وبأسـرة مــن آل أحمــد فتتية صينت ببذل نفوسها فتيــاتها
يتضاحكون إلــى المنون كأنَّ في راحاتــها قد أُترعت راحاتها
وترى الصَّهيل مــع الصَّليل كأنَّه فيهم قيـانٌ رجِّعـت نغمـاتها
وكأنَّمــا سمر الرمـاح معاطفٌ فتمايلت لعنــاقها قامــاتها

(1) الدوافع الذاتية لانصار الحسين لعابدين : ص231.
(2) الدمعة الساكبة : ج 4 ، ص273 ، مقتل الحسين للمقرم : ص219.
(3) رياض المدح والرثاء : ص95.
(4) رياض المدح والرثاء : ص97.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 126

وكأنما بيض الظّبي بيض الدّمى ضمنت لمى رشفاتها شفراتها
وكأنَّـما حمـر النصول أنامل قد خضَّبتها عَنْدَماً كاساتها(1)

ويقول السيد محمد حسين الكيشوان : عليه الرحمة ـ في وصفه لهم (عليهما السلام) :
تجري الطَّلاقة فـي بهـاء وجوهِهـم إن قطَّبـت فَرَقاً وجـوهُ كُماتها
وتطلّـَعـت بـدجـى الـقتام أهلـَّة لكـن ظهـور الخيل من هالاتها
فتدافعت مشـي النزيـف إلى الردى حتّـى كـأنَّ الموت من نشواتها
وتـعانـقت هـي والسّيوف وبعدذا مـلكت عنـاق الحور في جناتها

وقال شاعر آخر :
ومُذ أخذت في نينوى منهم النوى ولاح بها للغدر بعــض العلائم
غــداً ضاحكاً هـذا وذا مُتبسما سروراً وما ثغرُ المنون بباسم(2)

وبهذه الروح المعنوية العالية انتصروا وحققوا ما كانوا يصبون إليه وما يهدفونه ، مع قلتهم وكثرةِ عدوهم الذي كان يفقد الروح المعنوية في مواجهة الحرب إذ كانوا مدفوعين بالقوة لاهدف لهم سوى الباطل . فأخذوا يرقبون الحربَ وهم على خوف ووجل ، بخلاف ما كان عليه أصحاب الحسين(عليه السلام) الذين باتوا في أبهج حالة وأربط جأش مطمئنين بما يجري عليهم ، فكانوا كلما اشتد الموقف حراجة أعقب فيهم انشراحاً وسروراً.

(1) مقتل الحسين للمقرم : ص 381.
(2) نفس المصدر : ص216.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 127




كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 128

البعد العبادي


كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 129

قيل إن من آثار المحبة ولوازمها الشوق والانس في الخلوة مع المحبوب ، ولذة مناجاته ، كما أن من شأن المُحب أن يؤثر مراد محبوبه على مراده.
ولذا كان من شأن المُحب (1) للخالق تعالى عدم الغفلة عن عبادته وذكره في كل أحواله ( إذ من أحب شيئاً أكثر ضرورةً ذكرَه وذكر ما يتعلق به ، فمحب الله لا يخلو عن ذكر الله وذكر رسوله وذكر القرآن وتلاوته ، لانه كلامه ، ويكون محباً للخلوة ليتفرد بذكره وبمناجاته ، ويكون له كمالُ الانس والالتذاذ بمناجاته ، وفي أخبار داوود : كَذبَ من ادعى محبتي وإذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يحب لقاءَ حبيبه ، فها أنا ذا موجود لمن طلبني) (2).
وكذا أيضاً من آثار المحبة للخالق عزوجل عدم الصبر على فراقه والبعد عنه ، قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في دعاء كميل : فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك ، فكيف أصبرُ على فراقك ، وكما جاء أيضاً في مناجاة الامام زين العابدين(عليه السلام) : وغلتي لا يُبردها إلا وصلُك ، ولوعتي لا يطفيها إلا لقاؤُك ، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك ، قراري لا يقر دون دنوي منك(3).
ومن شأن العبد المُحب أيضاً الاحساس والشعور دائماً بالتقصير نحو الخالق تعالى مهما كثرت عبادته وطالت مناجاته ، جاء في دعاء الامام زين العابدين(عليه السلام) :

(1) كما لا يخفى أن محبة الله تعالى تتفاوت من شخص لاخر حسب الايمان ! وان كانوا مشتركين جميعهم في أصل المحبة باعتبارهم مؤمنين به تعالى ، فعلى هذا يترتب على المحبة شدةً أو ضعفاً آثار ولوازم.
(2) جامع السعادات للنراقي : ج3 ، ص176.
(3) جامع السعادات : ج3 ، ص154.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 130

إلهي قد تقشّع الظلامُ ولم أقض من خدمتك وطراً ، ولا من حياض مُناجاتك صدراً (1).
الامر الذي يدل على الشوق والانس بمناجاة الخالق ، والرغبة الاكيدة في الاستمرار في عبادته بلا انقطاع بدون ملل ولا سأم ، كل ذلك حُباً فيه (2) وتعظيماً له واعترافاً له بالعبودية والتي سمتها الخشوع والخضوع ، جاء في دعاء الحسين(عليه السلام) يوم عرفة : وَأقمني بصدق العُبوديَّة بين يدَيكَ.
إنه الموقف الصادق في سلدك أهل بيت العصمة (عليهم السلام) والذي يُمثل أعلى مراتب الانقياد والطاعة والخشوع بين يدي المولى ، والاقرار بمقام العبودية والاذعان له تعالى ، فلا يأنسون إلا بذكره ، ولا تبرد غلتهم إلا بوصله ، ولا تنطفىء لوعتهم الا بلقائه ، فإذا ما سدل الليلُ ستَره ، ونامت العيون ، أخذوا في مناجاة خالقهم بالعبادة في بُكاء وخشوع لا يشغلهم شاغلٌ عمّاهُم عليه من التوجه إلى الباري تعالى ، فكانوا كما قال عنهم تعالى:« كانُوا قَليلاً مِنَ الليلِ مَا يَهجَعُون ، وَبالاسحَار هُم يَستغفِروُن»(3) وقال تعالى:«تتجافى جُنوبُهُم عن المضاجع يَدعَون رَبَّهُم خَوفاً وَطمَعاً ومِمَّا رَزَقناهُم يُنفِقُونَ» (4).

(1) بحار الانوار : ج46 ، ص40.
(2) وهذه العبادة أفضل العبادات ، وهي التي تسمى بعبادة الاحرار ، روي عن أبي عبد الله عليه السلام) قال : إنَّ العبادة ثلاثة : قومٌ عبدوا الله ( عزّوجل ) خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقومٌ عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء ، وقومٌ عبدوا الله (عزّوجلّ) حبّاً له فتلك عبادة الاحرار وهي أفضل العبادة. بحار الانوار : ج70 ، ص255.
(3) سورة الذاريات : الاية 17 و 18.
(4) سورة السجدة : الاية 16.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 131

وإذا ما راجعنا سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) في خصوص هذا الامر ، وجدناه(عليه السلام) إذا ماجن عليه الليل خرج يبحث عن مكان يخلو فيه مع ربه ، كما شهدت له بُعيلاتُ النخيلِ بذلك ، وليلةُ الهرير ، وهو بين السهام والرماح ، ولم يثنه ذلك عن مناجاة الخالق تعالى.
وعلى هذا المنهج سار أولادُه الطاهرون (عليهم السلام) وإنك لتجد ذلك واضحاً في سيرتهم كجزء من حياتهم لا ينفك عنهم ولا يبتغون غيرهَ ولا يأنسون إلا به ، فهذا سيدُ شباب أهل الجنة الحسين(عليه السلام) يَحكي سيرةَ أبيه أمير المؤمنين(عليه السلام) وَما كان عليه حالهُ في العبادة كَماً وكيفاً.
أما كماً ، فناهيك عما حَدّثَ به من هو أعرف الناس به والمُطلع على شؤونه وأسرار حياته ، ولدُه زينُ العابدين وسيدُ الساجدين(عليه السلام) لمَّا قيل له : ما أقلَ ولد أبيك ؟ !قال(عليه السلام) : العجبُ كيف ولدتُ له ! ! كان يصلي في اليوم والليلة ألفَ ركعة ، فمتى كان يتفرغ للنساء(1).
وأما كيفاً ، فناهيك عما يعتريه إذا حضرته الصلاةُ من شدة الخوف ، فيتغير لونُه وترتعد مفاصلهُ ، فقيلَ له في ذلك ؟! فقال(عليه السلام) حقٌ لمؤمن يقف بين يدي المَلكِ القهار أن يَصفّرَ لونُه وترتعدُ مفاصلُه(2).
وقد تعجب الناسُ الذين شاهدوا حالتَه من شدة خوفه فقالوا له : ما أعظم

(1) العقد الفريد للاندلسي : ج4 ، ص384.
(2) العوالم (الامام الحسين) للبحراني : ج17 ، ص61 ، الخصائص الحسينية للتستري : ص45.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 132

خوفك من ربك ؟! فقال(عليه السلام) : لا يأمن يومَ القيامة إلا من خاف الله في الدنيا(1).
فهكذا كان حاله(عليه السلام) إذا حضرته الصلاة ، وقام بين يدي الله تعالى وكأنه انتقل إلى عالم آخر ، فلا يشعر بمن حوله ، وناهيك عن صلاته يوم العاشر وهو بين الاسنة والرماح وقد أحاط به الاعداء فلم يكترث بهم ولم يشغله ذلك عن مُناجاة الله تعالى ، الامر الذي يدل على ارتباطه الشديد الوثيق بالخالق تعالى ، والذي ما انفك عنه مذ خلقه الله تعالى نوراً في الانوار
ومهلِّلين مكبرين وآدم من مائه والطين لن يتركبا

وقد كان(عليه السلام) في بطن أُمه ـ صلوات الله عليها ـ وكانت تسمع منه الذكر والتسبيح(2).
وأما التلاوة فكان يتلو كتاب الله آناءَ الليل وأطراف النهار وقد رُفع رأسُه على الرمح وسُمع منه الذكر وقراءة القرآن فقد روي عن زيد بن أرقم انه قال : مُرَّ به عليَّ وهو على رمح ، وأنا في غرفة لي فلما حاذاني سمعته يقرأ : «أم حَسبتَ أنَّ أصحابَ الكهف والرَّقيم كانوا مِنْ آياتناعَجباً »(3) فوقف والله شعري وناديت رأسك والله يا بن رسول الله أعجب وأعجب (4).
وأما الدعاء فلم يبارح شفتيه وناهيك عن أدعيته في السراء والضراء وفي الاماكن المقدسة كدعاء عرفة وغيره وكأدعيته في ليلة عاشوراء ويومها إلى أن

(1) مناقب آل ابي طالب : ج4 ، ص69 ، بحار الانوار : ج44 ، ص192.
(2) الخرائج والجرائح للراوندي : ج2 ، ص844 ، بحار الانوار : ج43 ، ص273.
(3) سور الكهف : الاية 9.
(4) الارشاد للشيخ المفيد : ص245.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 133

غمضت عينة ولسانه لهجٌ بذكره تعالى.
هذا ما كان عليه(عليه السلام) في العبادة والذكر والمناجاة ولاجل هذا استمهل(عليه السلام) القومَ ليلة عاشوراء التي هي آخر ليلة من عمره الشريف فأراد أن تكون كسائر لياليه الماضية ، وليتزود فيها من العبادة بالصلاة والاستغفار والدعاءِ وقراءة القرآن.
وقد أفصح(عليه السلام) بهذا حين قال لاخيه العباس(عليه السلام) عصر تاسوعاء : فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة ، وتدفعهم عند العشية ، لعلنا نصلي لربِّنا الليلة وندعوه ونستغفرله ، فهو يعلم أني قد كنت أُحب الصلاة له ، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار(1) .
فجعل هذه الليلة العظيمة ليلة توديع وتزود من العبادة والمناجاة ، فبات ـ صلوات الله عليه ـ وأصحابه ولهم دوي كدويِّ النحل ، ما بين راكع وساجد ، وقائم وقاعد ، حتى الصباح فكانت ليلة عبادة ومناجاة كما أرادها(عليه السلام) .
قال أحد الشعراء :
قال امهلونا يا طغـاة إلــى غـد وغـداً سَيحكُم بيننـا الصمصامُ
ودعــوا سواد الليل أن يَلقـى بنا قومـاً بحبُ صلاتِهـم قد هاموا
والله يـعلـمُ أن سـبـط محمـد مـــا راعـهُ كـرُّ ولا إقدامُ
لكنه يهــوى الصـلاةَ لــربه ولهُ بها رَغم الخطوب غرامُ (2)

وقال آخر :
خَيّمَ الليلُ فالعبادة وهجٌ يتمنى ألا يضيءَ الصديعُ

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص316 ، بحار الانوار : ج44 ، ص392.
(2) كربلاء ( ملحمة أدبية ) : للعسيلي ص289.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 134

لا لان الرحيـل صعـبٌ ولكن عشقَ النسكَ فالفراق مروعُ
حيث لو خـيروه بـين جـنان أو رجوع لها لقال : الرجوعُ

الامر الذي يدل على تفانيه في العبادة ، وعشقه وتعلقه بالصلاة ، والمحافظة عليها ، والاهتمام بها مهما بلغ به الحال وكانت الظروف فلا يشغله شيء عن ذلك حتى لو اجتمعت عليه الانس والجن (1).
مع أنه مَنْ كان في مثل موقفه الرهيب كيف يتسنى له أن يفرغ نفسه للعبادة ، وهو في ليلة حرب وقتال مع علمه بما يجري عليه وعلى أهل بيته ؟ وأيُّ قلب يحمل مثل هذه الهموم يكون فارغاً للعبادة ويتعلق بالخالق مع تراكم الاحداث الاليمة وتعرضه للاغتيال والتشريد ، مع أن العبادة تحتاج إلى فراغ القلب وعدم الانشغال وراحة البال لتصفو له المناجاة مع الخالق.
ومع هذا كله نجد سيد شباب أهل الجنة(عليه السلام) وبما اعتراه من المصائب والالام يتوجه للعبادة ويفرغ نفسه لها وكأنه لم يحدث شيء من ذلك ، وهذا غاية التفاني في الله تعالى والتعلق به والاخلاص إليه !.
ويذكرنا ـ صلوات الله عليه ـ بهذا أن الصلاة لا تُترك بحال من الاحوال ، لانها الصلة والرابطة بين الخالق تعالى والمخلوق فهي ربيع القلوب ، وشرف المؤمن ، وعمود الدين ، وروح العبادة ، وأول ما يُسأل عنها العبد يوم القيامة ، وهذا بعض ما يُستفاد من دروس ليلة الطف الخالدة.

(1) روي عن الامام الصادق(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عُسر أم على يُسر. سفينة البحار : ج6 ، 271.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 135

والجدير بالذكر أنّ هذه الليلة العظيمة من الليالي التي ينبغي إحياؤها بالعبادة وعدم إغفالها ، فقد جاء في الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عبد الله عبادة جميع الملائكة ، وأجر العامل فيها كأجر سبعين سنة (1).
وروي أيضاً عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال : إن استطعت أن تحافظ على ليلة الفطر ، وليلة النحر ، وأول ليلة من المحرم ، وليلة عاشور ، وأول ليلة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، فافعل وأكثر فيهن من الدعاء والصلاة وتلاوة القرآن (2).
فعلى هذا تُعدُّ ليلةُ عاشوراء من الليالي العبادية والتي ينبغي إحياؤها ، وهذا بلا شك يلحظه أهلُ البيت ـ صلوات الله عليهم ـ.
فكانت هذه الليلة الشريفة ـ ليلةُ الدعاء والعبادة ـ مع موعد لتتزامن فيه مع السبط الشهيد(عليه السلام) في مواقفه البطولية الرائدة ، لتكتنف في طياتها ما يمليه عليها ، وما يتركه من بصمات فيها ، ولتشهد الحدث والموقف ـ على تراب كربلاء الطاهر الذي شهد بعضاً منهما في السابق من مواقف بعض الانبياء (3) (عليهم السلام) لتمليهما على الاجيال في كل زمان ومكان ، وتزيل بهما الحجب والاستار عن وجه الحق.

(1) الاقبال لابن طاووس : ج3 ، ص45.
(2) مصباح المتهجد للطوسي : ص783.
(3) روي عن الامام الباقر(عليه السلام) أنّه قال : خرج علي(عليه السلام) يسير بالناس حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يقال له المقذفان ، فقال قُتل فيها مائتا نبي ومائتا سبط كلّهم شهداء ، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء ، لايسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من جاء بعدهم.
بحار الانوار : ج41 ، ص295 ،ح18.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 136

فكان مما شهدته هذه الليلة العظيمة ، هو ذلك العروج الملكوتي والارتباط الروحي مع عالم الغيب ، وذلك حينما قام سيد شباب أهل الجنة(عليه السلام) مع أصحابه بين يدي الخالق منقطعين إليه الله تعالى بين راكع وساجد ، وقاريء للقرآن ، ولهم دويٌ كدوي النحل ، فتراهم خُشعاً أبصارهم ، وقد كَستهم العبادة أنواراً إلهية ، فكان لها الاثر الكبير في تهذيب نفوسهم وشَحذ قلوبِهم وصقلها فتسلحوا بها على أعدائهم ، وحققوا بها أكبرَ انتصار عرفهُ التاريخ.
يقول الشاعر :
ودويٌ كالنحـل فـي صلوات لو أتوها على الوجود لزالا
يَشحذون الفـؤاد كي لا يهالا حين ترتجُّ أرضُها زلزالا

وما أحقهم بوصف من قال :
لله قــومٌ إذا ما الليلُ جنّهــمُ قـاموا مِنَ الفُرش للرحمن عُبّادا
ويركبـون مطـايا لا تملّهــمُ إذا هُم بمنـادي الصـّج قد نادى
همُ إذا ما بياض الصبح لاح لهمْ قالوا من الشوق ليث الليل قد عادا
همُ المُطيعون في الدنيا لسّيدهـم وفي القيامـة سادوا كلّ مَنْ ساردا
الارضُ تبكي عليهم حين تفقدهم لانّهــم جُعلِوا للارضِ أوتادا(1)

وقد كان لعبادتهم أيضاً أثر كبير في نفوس آخرين ، فقد اهتدى بهم ـ كما في الرواية(2) ـ اثنان وثلاثون رجلاً من معسكر بن زياد إذ عبروا إليهم ، وقد كانوا بالقُرب من خيامِهم ، وذلك لمَّا استوقفتهم تلك الاصوات الرخيمة التي كانت تعلو

(1) سفينة البحار للقمي : ج5 ، ص45.
(2) اللهوف : ص41.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 137

خيام الحسين(عليه السلام) بهمهمة التسبيح وتلاوة القرآن ، فجذبت قلوبَهم ورأوا أنفسهم يتحركون نحوهم حتى انضموا إلى ركبهم ، وهذا خيرُ دليل على صِدق عبادتِهم وطهارة نفوسِهم وإخلاصهم لله تعالى.
هذا وقد أمضوا ليلتهم هذه حتى الصباح في عبادة وخشوع ، ومِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ وهو يرتلُ القرآنَ ترتيلاً ، وقد أحدقوا به يَستمدون من إشعاعاتهِ النورانية ما يهيئهم للقاء الله تعالى ، وقد انعكس حاله وما كان عليه من المناجاة على حالهم ، فأقبلوا معه يتضرعون إلى الله تعالى ويستغفرونه ويتلون كتابه ، فكانت عبادة بحق خالصة لوجهه الكريم ، ولهذا زادتهم صموداً واستعداداً في مواجهة الطغيان والتحدي.
ليــس فـي القارئين مثلُ حسيـن عـالمـاً بالـجواهر الغاليــات
فهو يدري خلف السطـور سطـوراً ليـس كلُ الاعجاز في الكلمــات
للبيان العُلويّ فـي أنفس الاطــهار مـسـرى يفوقُ مسرى اللُغــات
وهو وقفٌ على البصيرة ، فالابصار تـَعشوا ، في الانجم الباهــرات
يَقذفُ البحرُ للشواطـيء رَمـــلاً والـلالي تغوصُ فـي اللُّجــات
والمصلون في الــتلاوة أشبــاهٌ وإن الـفــروقَ بـالنيـــات
فالمناجــاةُ شعــلةٌ مـن فـؤاد صــادقِ الحسّ مرهف الخلجات
فإذا لم تكن سوى رجــع قــول فهـي لهــوُ الشفــاه بالتمتمات
إنما الساجـدُ المصــلي حسيـنٌ طاهــرُ الذيـلِ طَيّبُ النفحات(1)

(1) عيد الغدير لبولس سلامه : ص262.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 138




الملهوف على قتلى الطفوف 139

البعد الاخلاقي والتربوي


الملهوف على قتلى الطفوف 140




الملهوف على قتلى الطفوف 141

أ ـ الصدق والصراحة في التعامل


الصدق هو : من الصفات الكريمة ومن أشرفها ، والتي تؤدي إلى سمو الانسان ورفعته وتكامل شخصيته ، وأساس ثقة الناس به ، وهو أحد الاركان التي عليها مدار نظام المجتمع الانساني.
ولذا عنى الاسلام بهذه الصفة الكريمة وبالغ في التحلي بها ، وقد أثنى على من تخلق بها ، قال تعالى : « من المؤمنين رجالٌ صَدقُوا مَا عاهدُوا اللهَ عَليه»( 1) كما أثنى تعالى على نبيه إسماعيل به وقال : « إنه كانَ صادِقَ الوعدِ وكانَ رسولاً نبياً» (2).
ومما ورد عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام) في مدح هذه الخصلة الشريفة والتحلي بها : ما روي عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال : إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث ، وأداء الامانة إلى البر والفاجر (3).
وروي عنه (عليه السلام) يوصي شيعته : كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم ، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع (4).

(1) سورة الاحزاب : الاية 23.
(2) سورة مريم : الاية 54.
(3) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص104 ، ح1.
(4) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص105 ، ح10.

السابق السابق الفهرس التالي التالي