كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 142

وكما لا يخفى أن هذه الخصلة الشريفة من خصال أهل بيت العصمة(عليهم السلام) ، والتي ظهرت بشكل واضح على أفعالهم وأقوالهم ، فهمُ الصديقون حقاً ، كما عناهم القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى : « يا ايُها الذينَ آمنوا اتقُوا اللهَ وكونُوا معَ الصادِقين » (1) فهمُ الصادقونَ الذين أمر القرآنُ الكريم باتباعهم والسيرَ على منهجهم الشريف ،
وقد استأثرت هذه الخصلة الشريفة بعناية بالغة عندهَم(عليهم السلام) مؤكدين عليها ، وملتزمينَ بها في حياتهم ، وفي تعاملهم مع سائر الناس ، بعيداً عن المداهنة والخداع والتضليل ، حتى في وقت الشدائد ووقوع المكاره ، فقد اتسم طريقُهم بالصِدقِ والصراحة في جميع فترات حياتهم ، وإن أدى ذلك إلى تفرُّق الناس عنهم ، ما داموا على الحق والذي لا يعدلون به إلى غيره.
إذ ليسوا كغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ من أولئك الذين يصلون إلى غاياتهم ، بكل وسيلة ما دام ذلك يُعزِّرُ موقفهم والتفاف الناس حولَهم ، ويُحقق لَهمُ الفوزَ والغلبةَ على مُناوئيهم ولو بالمُداهنة والخُداع والتضليل.
إلا أن أهلَ البيت(عليهم السلام) المتميزين عن غيرهم بما خَصهُم اللهُ تعالى ومنحهمُ به ، لا يتوصلونَ للحق إلا مِنْ طريق الحق ، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أشار عليه المُغيرة بن شعبة أن يبقيَ معاوية بن أبي سفيان أميراً على الشام ولا يعزله كيما يستتب له الامر ، ثم بعد ذلك يعزله.
قال له (عليه السلام) : أتضمن لي عمري يا مغيرة فيما بين توليته إلى خلعه ؟ قال : لا ،

(1) سورة التوبة : الاية 119.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 143

قال (عليه السلام) لا يسألني الله عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً « وما كنتُ متخذَ المُضلينَ عَضُدا » (1) الخبر (2).
ومما حدّث به بعضهم في فضائله (عليه السلام) قال : ثمّ ترك الخديعة والمكر والغدر ، إجتمع الناس عليه جميعاً فقالوا له : أكتب يا أمير المؤمنين الى من خالفك بولايته ثمّ اعزله ، فقال : المكر والخديعة والغدر فالنار (3)
وكذا إذا رجعنا إلى موقفه (عليه السلام) يومَ الشورى حينما بُويع بعد وفاة الخليفة الثاني على أن يعمل بسيرة الشيخين لم يُساومهم ولم يخادعهم ، بل كان صريحاً معهم في موقفه من ذلك وقال (عليه السلام) : بل على كتاب الله وسنّة رسوله واجتهاد رأيي ، فعدل عنه إلى الخليفة الثالث (4) ولم يكن (عليه السلام) بوسعه أن يسلك طريقاً لا يراه ، بل أوضح لهم المنهج الذي يَسير عليه ، وإن ذهبت الخلافةُ إلى غيره.
فهو (عليه السلام) يَبني أساس الحكم على الصدق والحق ، وعدم الالتواء مع الاخرين وإن كان ذلك يُحقق له الانتصار والغلبة ، وهذا من مميزاتهم عن سائر الاخرين.
وإلى غير ذلك من الشواهد الاخرى في سيرتهم ، والتي أوضحوا فيها منهجَهم الصادق القائم العدل والحق.
ويتضح هذا الامر أيضاً في مواقف الحسين (عليه السلام) وفي منهجه الشريف والذي اتسم بالصدق والصراحة ، بعيداً كل البُعد عن تلك الاساليب التي ينتهجها بعضهم في ساعة المحنة ،

(1) سورة الكهف الاية : 51.
(2) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب : ج3 ، ص195 ، وعنه بحار الانوار : ج32 ، ص34 ، ح 20 ـ 22.
(3) بحار الانوار : ج40 ، ص 105 ، ح117.
(4) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج1 ، ص188.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 144

فيخدعون الاخرين وخصوصاً أتباعهم بكل وسيلة وحيلة من أجل البقاء على سلامة رؤوسِهم ، ولو كلف ذلك إبادتهم جميعاً !!.
( فكان ـ صلوات الله عليه ـ في جميع فترات حياته لم يوارب ولم يُخادع ، ولم يَسلك طريقاً فيه أيَ التواء ، وإنما يَسلك الطريق الواضح الذي يتجاوب مع ضميره الحي ، وابتَعد على المنعطفات التي لا يقرُها دينُه وخُلقُه ، وكان من ألوانِ ذلك السلوك النير أن الوليد حاكم يثربَ دعاه في غَلس الليل ، وأحاطهُ علماً بهلاك معاوية ، وطلب منه البيعةَ ليزيد مُكتفياً بها في جنح الظلام ، فامتنع (عليه السلام) وصارحَه بالواقع قائلاً : يا أمير إنا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد فاسق فاجر ، شارب الخمر ، قاتلُ النفس المحرمة ، مُعلنٌ بالفسق والفجور ، ومثلي لا يبايع مثله (1) ، وكشفت هذه الكلمات عن مدى صراحته ، وسمُو ذاته ، وقوة العارضة عنده في سبيل الحق.
ومن ألوان تلك الصراحة التي اعتادها وصارت من ذاتياته أنه لما خرج إلى العراق وافاه النبأُ المُؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل سفيره مسلم بن عقيل (عليه السلام) ، وخُذلان أهل الكوفة له ، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية لا للحق :... فَمَن أحبَّ مِنكُم الانصراف فلينصرفْ ، لَيْسَ عَليه منّا ذِمامٌ (2) ، فتفرق عنه ذوو الاطماع ، وبَقى معه الصفوةُ من أهل بيته.
لقد تجَنّب (عليه السلام) في تلك الساعات الحرجة التي يتطلب فيها إلى الناصر

(1) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص184 ، اللهوف : ص10 ، بحار الانوار : ج44 ، ص325.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص300 ، بحار الانوار : ج44 ، ص374.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 145

والاغراء والخُداع ، مؤمناً أن ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربها والمؤمنة بعدالة قضيتها) (1).
ويتضحُ هذا الامرُ جلياً في هذه الليلة التي خَلدّها التاريخ ، وذلك من خلال موقفه (عليه السلام) في ساعات هذه الليلة الاليمة مع أهل بيته وأصحابه ، وذلك حينما أوقف أصحابه على الامر الواقع ولم يخفِ عليهم ليكونوا على بينة من أمرهم ومستقبلهم ، فوقف قائلاً لهم : إني غداً أُقتل وكلكُم تُقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (2) حتى القاسم وعبد الله الرضيع (3).
مؤكداً عليهم أن كلَ من يَبق معه منهم سوف يستشهد بين يديه ، فهو (عليه السلام) لا يُريد أن يتركَهُم في غَفلة من أمرهم ، ولئلا يتوهم أحدٌ منهم بأنه ربّما يُهادنُ القومَ فيما بَعد ، أو يقبل بخيار آخرَ غيرِ القتال ، ولكنه (عليه السلام) بَيّن لهم أنه يُقتل وهُم أيضاً يُقتلون إذا مَا بقُوا معه ! وبهذا يكون (عليه السلام) قد أوقفهم على حقيقة الامر.
وقد أكد هذا الامر مرةً أخرى فيما قال لهم ، مشفقاً عليهم قائلاً لهم أنتم جئتم معي لعلمِكم بأني أذهب إلى جماعة بايعوني قلباً ولساناً ، والآن تجدونَهم قد استحوذَ عليهم الشيطانُ ونسوا الله ، والان لم يكن لهم مقصدٌ سوى قتلي ، وقتل من يجاهد بين يدي ، وسبي حريمي بعد سلبهم ، وأخاف أن لا تعلموا ذلك ، أو تعلموا ولا تتفرقوا للحياء مني ، ويحرم المكر والخدعة عندنا أهل البيت (4).

(1) حياة الامام الحسين ( ع ) للقرشي : ج1 ، ص119 ـ 120.
(2) نفس المهموم : ص230.
(3) مقتل الحسين للمقرم : ص215.
(4) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص222 ، الايقاد : ص93.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 146

فأحاطهم علماً بأنه يُقتل ومن معه أيضاً ، وأن حريمَه تُسبى بعد قتله ، إذ لعل بعضهم يكره هذا ، خصوصاً من جاء بنسائه فيكون على علم بهذا الامر. كما أنه (عليه السلام) عَدَّ إخفاءَ هذا الامر عليهم خُدعةً ومكراً وأن ذلك محرمٌ عندهم لا يجوز بحال من الاحوال ، إذ كانوا(عليهم السلام) أبعد الناس عن مثل هذه الامور التي لا يقرونها لاحد مهما كلف الامر.
وقد حَذَّروا من هذا الامر وذموا من يتصف به ، فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) : أنه قال : ليس منّا مَنْ ماكر مسلماً.
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان كثيراً ما يتنفس الصُعداء ويقول : واويلاه يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة في النار ، فأصبرُ على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا (1).
وهذا أيضاً مما تميز به منهجهم ـ صلوات الله عليهم ـ الذي حوى كل صفات الاخلاق الرفيعة والمُثل العليا.
ولذا وقف سيدُ الشهداء (عليه السلام) في هذه الليلة العظيمة مُشفقاً على أصحابه ، ليطلعهم على ما خفي عليهم ما داموا قد وطنوا أنفسهم معه على ذلك الامر الخطير ، فهو لا يُريد ناصراً قد منعه الحياء عن نصرته ، ما لم يكن عن علمه وبقناعته الشخصية في ذلك..
وهذا من أعظم الدروس الاخلاقية والتربوية المستفادة من ليلة الطف العظيمة ،

(1) جامع السعادات للنراقي : ج1 ، ص239.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 147

التي ينبغي الوقوف عليها والاستفادة منها.
وهنا لا ننسى أيضاً ظهور هذا الجانب الاخلاقي العظيم في سلوك أنصار الحسين(عليه السلام) إذ ظهر الصدقُ على أقوالهم وأفعالهم ، حينما عاهدوه على الشهادة معه والدفاع عنه ، فكانت نياتُهم في ذلك صادقةً لا يشوبها أيُّ تَردد أو ميل ، فكانوا عازمين بالفعل على نصرته والذب عنه ، وخير شاهد على ذلك هو وفاؤهم بما ألزموا به أنفسهم ، وتسابقهم إلى الشهادة بين يديه ، فلم تنحل عزيمتُهم وهم في أوج المحنة وشدتها ـ في ظهر عاشوراء ـ مع شدة العطش وحرارة الشمس ، وجراحات السنان ، وطعنات الرماح ، إذ أن النفس ساعتها ربما سَخت بالعزم وتناست الوعد ، وتعلقت بحب البقاء ، وحينها يتلاشى ما التُزم به من وعود وعهود.
إلا أنهم ـ رضوان الله عليهم ـ ثبتوا أمام الاعداء بلا تراجع أو تردد وقاتلوا بجدارة فائقة منقطعة النظير ، وَوفَوا بما التزموا به ، فوافقت ظواهُرهم بواطَنهم ، وبهذا وصلوا إلى أعلى مراتب الاخلاص في صدقهم ، كما أن الوفاءَ بالعهد أفضل أنواع الصدق القولي فكانوا بحق مصداقاً لقوله تعالى : «رجالٌ صَدَقُوا مَا عاهدُوا اللهَ عَليه فمِنُهم مَّن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم من يَنتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبِديلا »(1).
والجديرُ بالذكر أن الحسين (عليه السلام) كان يُردد هذه الاية الشريفة حين مقتل أصحابه (2) ـ رضوان الله عليهم ـ ، الامر الذي يدل على وفائهم وصدق موقفهم النبيل.

(1) سورة الاحزاب : الاية 23.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص331 ، بحار الانوار : ج45 ، ص20.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 148
ب ـ الصبر وقوة التحمل


الصبر : هو حبس النفس عما تنازع إليه من ضد ما ينبغي أن يكون عليه ، وضده الجزع قال :
فَإنْ تَصبِرا فالصَّبْرُ خَيْرٌ مغبَّة وإِن تجزَعا فالامرُ ماتَريانِ(1)

(ومما يدعو ألى تماسك الشخصية وتوازنها الصبر على الاحداث وعدم الانهيار أمام محن الايام وخطوبها ، وقد أكد الاسلام على هذه الظاهرة بصورة خاصة ، وحث المسلمين على التحلي بها وأن من يتخلق بها فإن الله يَمنحهُ الاجرَ بغير حساب ، قال تعالى : « ولنجزينَّ الذين صَبرُوا أجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يَعملون» (2) ، وقال تعالى : « إنما يُوفى الصّابرُون أجرَهُم بغيرِ حِساب» (3) ، وقال تعالى :« وجزاهم بما صَبروا جنةً وَحريراً» (4) ، وقال تعالى :«وجعلنا مِنهُم أئمةً يَهدوَن بأمرنا لمّا صَبروا وكانُوا بآياتنا يُوقنون» (5) ، وقال تعالى في مدحه لنبيه أيوبَ(عليه السلام) :« إنا وَجدناه صَابراً نِعمَ العبدُ إنه أواب» (6).

(1) مجمع البيان للطبرسي : ج4 ، ص855.
(2) سورة النحل : الاية 96.
(3) سورة الزمر : الاية 10.
(4) سورة الانسان : الاية 12.
(5) سورة السجدة : الاية 24.
(6) سورة ص : الاية 44.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 149

إنَّ الصبر نفحةٌ من نفحات الله ، يَعتصمُ به المؤمن فيتلقى المكارهَ والمصاعب بحزم ثابت ونفس مطمئنة ، ولولاهُ لانهارت نفسُه ، وتحطمت قواه ، وأصبحَ عاجزاً عن السير في رَكب الحياة ، وقد دعا الاسلامُ إلى الاعتصام به لانه من أهم الفضائل الخُلقية ، وقد ذكرهُ القرآنُ الكريم في سبعين آية ، ولم يذكر فضيلة أخرى بهذا المقدار ، وما سببُ ذلك إلا لعظيم أمره ، ولانه من مصادر النهوض الاجتماعي ، فالامة التي لا صَبرَ لها لا يُمكن أن تصمُدَ في وجهِ الاعاصير ، مضافاً لذلك أنه يُربي ملكاتِ الخير في النفس فما فضيلة إلا وهي محتاجةٌ إليه.
وقد أثر عنهم في ذلك الشيء الكثير من الاخبار ، فقد قال الامام أبو جعفر(عليه السلام) : الجنة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ، فمن صَبَر على المكاره في الدُنيا دخل الجنة (1) ، وقال الامام زين العابدين(عليه السلام) : الصبرُ من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبرَ له (2).
إن الصبر بلسمٌ للقلوب المكلومة التي أثكلها الخطب وجار عليها الزمانُ ، وهو عزاءٌ للنفوس الحزينة التي هامت بتيار الهواجس والهموم ، وهو تسليةٌ للمعذبين يجدون فيه الاطمئنان ، وتحت كنفه ينعَمون بالراحة والاستقرار )(3)
وفي ليلة عاشوراء التي حَفلت بعظيمِ المكاره والمصائب والارزاء ، والتي لا يُعهد لها مثيل في تاريخ البشرية ، نرى وقد برزَ الصبرُ فيها ، وصار أحدَ سِماتها ، وصفةً قد تحلى بها أصحابُها ، حتى أصبحَ كلُ واحد منهم كالجبل الاصم لا تهزه

(1) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص89 ، ح7 ، بحار الانوار : ج68 ، ص72 ، ح4.
(2) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص89 ، ح4 ، بحار الانوار : ج68 ، ص81 ، ح17.
(3) النظام التربوي في الاسلام : للقرشي ص283.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 150

العواصف ومِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ الذي كُلما ازداد الموقف شدةً ازداد صبراً وإشراقةً.
يقول الاربلي : شجاعةُ الحسين(عليه السلام) يُضربُ بها المثل ، وَصبرُه في مأقط الحرب أعجزَ والاواخر الاوائلَ والاواخر(1).
وكما قيل : إن في بشاشة وَجه الرئيس أثراً كبيراً في قوُة آمال الاتباع ونشاط أعصابهم ، فكان أصحابه كلما نظروا إليه(عليه السلام) ازدادوا نَشاطاً وصمُوداً ، هَذا مع ما هو فيه ـ صلوات الله عليه ـ من البلاء العظيم والخطب الجسيم في ليلة لم تمر عليه باعَظمَ منها ، حيث يُرَى الاعداءَ قد اجتمعوا لقتاله وقتال أهل بيته ، وهو يَرى أهلهَ يرقبونَ نزولَ البلاء العظيم مع ما هُم فيه من العطش الشديد ، بلا زاد ولا ماء حتى ذَبُلت شِفاهُهُم وغارت عيونُهم ، وبُحّت أصواتهم ، وذعُرتْ أطفالهم ، وارتاعت قلوبهم ، في وَجَل شديد على فراق الاحبة وفقد الاعزة ، ومَنْ يرى ذلك كيف لا ينهار ولا يضعُف ولا تقل عزيمته وهو يرى ما يَبعثُ على الالم ويُحطِّم القُوى !!
إلا أن الحسين(عليه السلام) الذي كان يَلحظ ذلك بعينه ، لا تجد أثراً من ذلك في نفسه بل كان يزدادُ صبراً وعزيمةً ، وتحمل تلك الاعباء الثقيلة ، وتسلح بالصبر على الاذى في سبيل الله تعالى وهو القائل : ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين (2) فكان(عليه السلام) نعم الصابر المحتسب عند الله تعالى .
وقد جاء في الزيارة عن الامام الصادق(عليه السلام) : وصَبرتَ على الاذى في جنبه

(1) كشف الغمة للاربلي : ج2 ص20.
(2) بحار الانوار : ج44 ، ص330.
(3) بحار الانوار : ج97 ، ص293 و ج98 ، ص256.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 151

محتسباً حتى أتاك اليقين (1).
وناهيك تعجب ملائكة السماء من صبره كما جاء في الزيارة : وقد عجبت من صبرك ملائكةُ السموات (2).
وكان يقول(عليه السلام) في أوقاتِ الشدة يوم عاشواء وهو متشحّط بدمه : صَبراً على قضائك يا رب لا إلهَ سِواكَ ، يا غِياثَ المستغيثين (3) مالي ربٌّ سواك ولا معبود غيرك صبراً على حكمك (4) وناهيك عن موقفه المرير وهو يُشاهد مقتلَ رضيعه الصغير وهو يقول : اللهم صبراً واحتساباً فيك (5).
وكيف لا يكونُ صابراً محتسباً وهو من الذين عناهم الله تعالى في قوله : « وَجَعلنا مِنهُم أئمةً يَهُدون بأمرِنا لمَّا صَبرُوا » (6) وقوله : « وَجزاهم بِمَا صَبَروُا جَنةً وَحريرَاً » (7).
فالحسين(عليه السلام) شخصيةٌ منفردةٌ بجميع صفات الكمال ، وتجسدت فيه كلُ صور الاخلاق ، وقد أراد(عليه السلام) أن يضفي من كماله على أصحابه وأهل بيته بوصاياه لهم بالصبر الجميل ، وتوطين النفس ، واحتمال المكاره ، ليستعينوا بذلك في تحمُّل الاعباء ومكابدة الالام ، وليحوزوا على منازل الصابرين وما أعَد اللهُ لهم.

(1) بحار الانوار : ج98 ، ص293 و ج98 ، ص256.
(2) بحار الانوار : ج98 ، ص240.
(3) أسرار الشهادة : ج3 ، ص68.
(4) مقتل الحسين للمقرم : ص283.
(5) معالي السبطين : ج1 ، ص343.
(6) سورة السجدة : الاية 24.
(7) سورة الانسان : الاية 12.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 152

فأما أصحابه فقد أوصاهم(عليه السلام) مراراً بالصبر والتسلُّح به في مواجهة النوائب والمحن ، والصبر على حدِّ السيف وطعن الاسنَّة وعلى أهوال الحرب.
وكما لا يخفى أن هذا ليس بالامر السهل إذ أن مواجهة ذلك يحتاج إلى التدرُّع بالصبر والحزم ، وعدم الجزع من أهوال المعركة والثبات عند القتال ، وعدم الاستسلام أو الانهزام ، فإذا ما تسلح المقاتل بالصبر كان في قمة المواجهة ، لا يبالي بما يلاقيه وما يتعرَّض إليه من ألم السنان وجرح الطعان.
ولذا نادى - صلوات الله عليه - فيمن تبعه من الناس - في بعض المنازل - قائلاً لهم : أيها الناسُ فمَنْ كان منكم يصبر على حدِّ السيف وطعن الاسنة فليقُمْ معنا وإلا فلينصرف عنَّا (1).
فإذا كان المقاتل لاصبر له على ذلك كيف يثبت في ساحة القتال حينما يرى أهوال المعركة إنّ هذا وأمثاله لا يؤمن منه الجزع ، فإما أن ينهزمَ أو يستسلم للاعداء.
وهنا لا ننسى تأكيد القرآن الكريم في هذا الجانب إذ حثّ المجاهدين في سبيل الله تعالى على التحلَّي بالصبرو والثبات في ساحة القتال قال تعالى : « يَاأيُّها الَّذينَ آمنُوا اصبرُوا وصابروا وَرَابِطُوا »(2) ، وقال تعالى : « إِنْ يَكُنْ مِنْكُم عِشرُونَ صَابُرونَ يَغْلِبُوا مِائَتَينِ »(3) ، وقال تعالى : «يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا إِذَا

(1) ينابيع المودة : ص338 ، كلمات الامام الحسين : ص348.
(2) سورة آل عمران : الاية 200.
(3) سورة الانفال : الاية 65.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 153

لَقِيتُم فِئَةً فَاثْبُتُوا واذكَرُوُا اللهَ كثيراً لَّعَلَّكمُ تُفْلحِوُنَ »(1)
ومن الواضح أن نجد الحسين(عليه السلام) في هذه الليلة ـ استعداداً للمواجهة ـ أن يوصي أصحابه بذلك ويرغبهم في احتمال المكاره قائلا لهم : فإن كنتُم قد وطأتم أنفسكم على ما قد وطأتُ عليه نفسي ، فاعلمُوا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفةَ لعبادة باحتمال المكاره ، وإن الله وإن كان قد خَصَّني مع مَنْ مضى من أهلي الذين أنا آخِرهُم بَقاءً في الدُنيا من الكرامات ، بما سَهّل معها على احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدُنيا حُلوها مرٌ ، ومرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائزُ من فاز فيها والشقي من يشقى فيها (2).
الامر الذي أثَّر في نفُوسهم وزاد في تَحمُّلهم ، حتى أوقفهم على غامض القضاء ، وكَشف عن أبصارهم فرأوا منازلهم من الجنة وما حباهُم الله تعالى من النعيم.
كما أوصاهم(عليه السلام) بهذا أيضاً ونحوه بعد ما صلَّى بهم الغداةً قائلاً لهم : إن الله تعالى أذنَ في قتلكم وقتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال (3).
وكذلك لما رآهم وقد تناوشتهم السيوف وقف(عليه السلام) قائلاً لهم : صَبراً يا بَني عُمومتي صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتُم هَواناً بعد هذا اليوم أبداً (4).
وكذا يوصي غلاماً له وقد قطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبر

(1) سورة الانفال : الاية 45.
(2) أسرار الشهادة للدربندي : ج2 ، ص223.
(3) كامل الزيارات لابن قولويه : ص73 ، بحار الانوار : ج45 ، ص86.
(4) مقتل الحسين للخوارزمي : ج2 ، ص27 ، بحار الانوار : ج45 ، ص36.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 154

على ما نَزلَ بك واحتسب في ذلك الخير (1).
وفي رواية أنه لما قتل الطفل الرضيع وضع(عليه السلام) كفيه تحتَ نحره قائلاً له : يا نفس اصبري ، واحتسبي فيما أصابَكِ (2).
وأما أهل بيته وعياله فقد أوصاهم ـ صلوات الله عليه ـ غير مرة بالصبر والتقوى وعدم الجزع ، وتحمل المتاعب في سبيل الله تعالى والتوكل عليه ، والقيام بالمسئولية على أحسن حال.
ومن وصاياه لهم : ولا بدّ أن تروني على الثرى جديلاً ، ولكن أُوصيكم بالصبر والتقوى ، وذلك أخبر به جدكم ولا خُلف لوعده ، وأسلمُكم على من لو هتك الستر لم يستره أحد (3).
ومن وصاياه أيضاً(عليه السلام) لاخته زينب (عليها السلام) وذلك حينما رآها وقد أثّر عليلها ألمُ المُصاب وحرارةُ الفراق ، أوصاها قائلاً :
يا أختاه تعزي بعزاء الله وارضي بقضاء الله (4)
يا أخية لا يذهبنَّ حلمَك الشيطان ...
يا أُخية اتقّي اللهَ وتعزّي بعزاءِ الله ، واعلمي أن أهل الارض يَموتون وأن أهل السماء لا يبقون ، وأن كلَ شيء هالكٌ إلا وجْهَ اللهِ الذي خلقَ الارض بقُدرتهِ ، ويبعث الخلقَ فيعودون وهو فردٌ وحدَه ، أبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني واخي خير مني ولي وَلهُم ولكل مُسلم برسولِ الله أسوةٌ.

(1) وقعة الطف : ص254 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص241.
(2) تظلم الزهراء : ص203 ، معالي السبطين : ج1 ، ص423.
(3) أسرار الشهادة : ج2 ، ص222.
(4) مقتل الحسين للخوارزمي : ج1 ، ص238.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 155

قال : فعزّاها بهذا وَنحوهِ ، وقال لها : يا أخيّةُ إني أقسمُ عليك فأبرِّي قسمي ، لا تشُقي عليَّ جَيباً ولا تخمشي عليَّ وَجهاً وَلا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت (1).
وفي رواية ثم قال(عليه السلام) : يا اُختاه يا أمَّ كلثوم وأنت يا زينب وأنت يا فاطمة وأنت يا رباب إذا أنا قُتلت فلا تَشققنَّ عليَّ جيباً ، ولا تخمشن عليَّ وجهاً ، ولا تقلن هجراً(2).
وقد أخذ(عليه السلام) في وصاياه يؤكد عليهنَّ بالصبر على الاحداث الاليمة ، والتجلد في المواقف الرهيبة والكوارث الاليمة ، وأن يتمالكن أنفسَهُنّ حين يَرينهُ صريعاً مُجدلاً.
وخصوصاً أخته زينب (عليها السلام) والتي حَمّلها مسؤليةَ حفظ الحرم والاطفال ، وقد أكّدَ عليها كثيراً بالصبر والتجلد لكي تقوم بالمسؤلية ، ولتؤدي وظيفتها على أحسن حال في حفظ ورعاية العيال والاطفال ، الذين ليس لهم مُحام ومدافع سواها ، ولكي تُشاطرَهُ في مهمته ، ولئلا يَغلب عليها الاسى في إبلاغ حجته ، وإتمام دعوته ، خصوصاً في المواقف الحرجة الاليمة في الكوفة والشام.
وَكلُّ هذا التأكيد عليها في وصاياه لها (إعلامٌ لها بتحمُّل المسؤولية وأن تكون أمام الكوارث المقبلة كالجبل الاشم ، والصخرة الصماء ، تتكسر عليها كل عوامل الذلة والانكسار ، ولا تستولي عليها دوافع الضعف ، وعوامل الانهيار ، وأن تتأسى بجدها رسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وتتعزى بعزاء الله.
إنه عبءٌ ثقيل في تحمُّل مسؤولية الكفاح المتواصل لربط الثورة بأهدافها

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص319 ، الإرشاد للمفيد : ص232.
(2) اللهوف : ص36.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 156

المتوقعة وعواملها المنتظرة ، وقد تجسدت لها الحوادث بعد أن أطلعها الحسينعلى كثير من مهماتِها ، وَفتحَ أمامَها نوافذَ مهمة مَهّدَ لها طُرقَ التسلية عما تلاقيه فيها من بلاء وما تصطدم بها من نكبات.
ولقد كانت على موعد مع هذا الحدث العظيم ، حدثتها اُمها فاطمة الزهراء عليها السلام وسمعت من أبيها علي(عليه السلام) ، ما يدل على وقوع ذلك ، وكما لمّح لها أخوها الحسن عليه السلام) بآثار الفاجعة ، وصرّح لها الحسين(عليه السلام) بدنو ما كانت تخشاه ، وحلول ما كانت تتوقعه.
ولقد تحملت مسؤولية إتمام الرسالة التي قام بها الحسين(عليه السلام) فأوضحت للعالم عواملَ الثورة ، فنبهت الغافل ، وفضحت تلك الدعايات المُضلِلة ، لقد مَثّلت زينب (عليها السلام) دورَ البطولة في ميدان الجهاد ، وثبتت أمام المحن والمكاره ، ثبوتَ الجبلِ أمامَ العواصف ، واحتسبت ما أصابها من بلاء في جنب الله ، طلباً لمرضاته وجهاداً في سبيله ، وإعلاءً لكلمته. لقد أدت واجبها في ساعة المحنة ، فهي تسلي الثاكل وتُصبر الطفل ، وتُهدىءُ روعَ العائلة.
وانظر إلى موقفها كيف وقفت أمام مجتمع الكوفة فحملتهم مسؤولِيةَ هذه الجريمة الكبرى ، ووسمتهُم بالذُلِ وألبستهم العار ، وكيف قابلت يزيد الماجن المستتر الطائش ، فأوضحت للملا الحادَه وكفرَه ، وسلبتهُ مواهب التفكير ، فوقف أمام قوة الايمان موقف ذلة وانكسار، فكان النصرُ حليفَها ولا زال إلى الابد ) (1).
وتشاطرت هي والحسينُ بدعوة حتــمَ القضــاءُ عليهما أن يُندبا
هذا بمشتبك النصولِ وهــذه في حيث مُعترك المكاره في السبا(2)

(1) مع الحسين في نهضته لأسد حيدر : ص202 بتصرف.
(2) للعلامة المرحوم ميرزا محمد علي الاوردبادي نور الله ضريحه.

السابق السابق الفهرس التالي التالي