كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 157

ج ـ لا إكراه على المناصرة


ومما اتسمت به أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) في تعاملهم مع الاخرين أنهم لا يفرضون أنفسهم عليهم بالغلبة والقوة ، بل يتركون لهم حرية اتخاذ القرار بأنفسهم.
كما نجد هذا واضحاً في سيرة أمير المؤمنين(عليه السلام) مع أصحابه ومَنْ حوله ، فلم يقسر أحداً على موالاته ، أو على صحبته أو بيعته ، فإن هناك من تخلف عن بيعته، ولم يجبر أحداً منهم على ذلك ، ولم يمنعهم عطاءهم.
ناهيك عن موقف الزبير وطلحة تجاهه ـ وذلك حينما أرادا الانصرافَ عنهُ ، استأذناه في الذهاب إلى العُمرة ، مع علمه(عليه السلام) بما يضمراه له من سوء ، فلم يمنعهما من الانصراف بل أذن لهما ، مع علمه أيضاً أنهما سوف يؤلبان الناس عليه.
ولما خرجا قال(عليه السلام) لاصحابه : والله ما يريدان العمرة وإنما يريدان الغدرة(1)فتركهما وشأنهما فكانت مكافأتهما له عداوته وجر الناس إلى حربه.
وغيرهما ممن تركه وانصرف عنه كالذين انصرفوا عنه إلى معاوية بن أبي سفيان في جنح الليل ، وقد كان قادراً على منعهم وردهم إلا أنه ترك لهم حرية الرأي وتحديد المصير ، وإن كان على خلاف ما يريد ويهوى مالم يستلزم من ذلك محذوراً آخر يقتضي خلاف ذلك.
نعم لا ينافي هذا أنهم(عليهم السلام) يُرشدون أمثال هؤلاء إلى طريق الحق ، كما لا

(1) بحار الانوار : ج32 ، ص25 ، ح8 ، ب1 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج1 ، ص232.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 158

يدخرون وسعاً في إيقاظهم وتوعيتهم وهدايتهم ، إن كان هؤلاء أهلاً لذلك ، وإلا خلوا بينهم وبين أنفسهم ، وهذا على خلاف ما جرت به سيرة الكثير من الذين يرغَموا الاخرين ـ وإن لم يقتنعوا بهم ـ على الانضواء في صفوفهم وفي حمايتهم ، بالقَسروالغلبة مما يؤدي بهم إلى الانخراط قهراً تحت سيطرتهم والدفاع عنهم خوفاً من بطشهم وجبروتهم ، وإذا ما دافعوا عنهم تعَرضوا حتماً للاذى والبطش ، وإذا ما واجهوا الحرب فلاخيار لهم غيرها ، ولذا غالباً أمثالُ هؤلاء يقاتلون بالجبر والاكراه وليس عن قناعة من أنفسهم.
وأما إذا جئت تستوحي عظمة الأخلاق وسمو الرفعة والنبل في موقف الحسين(عليه السلام) مع أصحابه وأتباعه تجده مثالاً فريداً من نوعه في كيفية التعامل معهم ، فقد التحق بركبه كثيرٌ من الناس وهو في مسيره إلى كربلاء إلا أنه كان يطلعهم على حقيقة الامر فمن شاء التحق به ومن شاء انصرف عنه غير مكره لاحد منهم على مناصرته واللحوق به.
كما أكَّد بهذا ونحوه على أصحاب الابل حينما مَرعليهم بالتنعيم (1) قائلاً لهم : لا اكرِهُكُم ، مَنْ أحبَّ أنْ يمضيَ معنا إلى العراق أو فينا كراءَهُ وأحسنا صحبتَهُ ، ومَنْ أحَبَّ أن يُفارقنا من مكاننا هذا أعطيناهُ من الكراءِ على قَدْر ما قطع من الارض (2).

(1) التنعيم : موضعٌ بمكة خارج الحرم ، هو أدنى الحلّ إليها ، على طريق المدينة ، منه يحرم المكيُّون بالعُمْرة ، به مساجدُ مبنية بين سرف ومكة. مراصد الاطلاع : ج1 ، ص277.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص290 ، الارشاد للمفيد : ص219 ، اللهوف : ص30 ، بحار الانوار : ج44 ، ص367.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 159

وفي ليلة عاشوراء بعد ما خَيّمَ الليلُ وأرخى سترَهُ ، حيثُ إن الليل ستير ، والسبيل غير خطير ، يقف(عليه السلام) خاطباً في أصحابه آذنا لهم بالتفرق والانصراف عنه ، في وقت يتطلب الناصر والمُعين ، قائلاً لهم :ألا وإني قد أذنت لكم ، فانطلِقُوا جَميعاً في حِلٍّ ليسَ عليكُم حرجٌ مني ولا ذِمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وتفرقوا في سوادكم ، ومدائنكم حتى يُفرج الله فإِن القومَ إنما يطلبوني ، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري (1) وفي رواية أخرى قال لهم :وانتم في حلٍّ وسعة من بيعتي وعهدي الَّذي عاهدتموني(2).
الامر الذي يدل على عدم إكراهه(عليه السلام) لاحد منهم على مناصرته.
وقد أكد هذا الامر أيضاً للحضرمي حينما سمعَ أن ابنه اُسر في ثغر الري قال له(عليه السلام) رحمك الله ، أنت في حل من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك (3) ؟!
هذا ولم يُبدِ(عليه السلام) لهم وحشتَه وانكساره فيما لو تفرقوا عنه ، بل أكد عليهم أن انصرافهم عنه ليلاً أسهل منه نهاراً ، وذلك للاختفاء عن الانظار بعكس النهار الذي قد لا يأمن فيه الهارب من الطلب.
ولذا قال(عليه السلام) كما في بعض الروايات : فالليل ستير والسبيلُ غير خطير ، والوقت ليس بهجير....(4)
والحسين(عليه السلام) على الرغم من إبلاغ أصحابه بذلك وتركه الامر لهم ، إلا أنه أخذ يؤكد عليهم في ذلك مِراراً ، كما حصل هذا مع نافع بن هلال ، وذلك حينما تبع

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص317 ، الارشاد للمفيد : ص231.
(2) موسوعة كلمات الامام الحسين : ص401.
(3) أسرار الشهادة : ج2 ، ص219 ، اللهوف : ص40 بحار الانوار : ج4 ، ص392.
(4) الدمعة الساكبة : ج4 ، ص271.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 160

الحسين(عليه السلام) لما خرج في جوف الليل يتفقد التلاع والعقبات ، فلما رآهُ قال له(عليه السلام) : ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك ...(1)
الامر الذي يدل على تأكيده لهم وعدم خصه أحداً بالبقاء معه ، بل خاطبهم جميعاً بما فيهم الصغير والكبير والعبد والحر حتى نساءهم.
وقد وجدناه(عليه السلام) يومَ العاشر عند اشتداد الامر ، وهو يطلق العنان لواحد منهم ، وقد أحله من بيعته وهو : الضحاك المشرقي الذي تعهد للحسين(عليه السلام) بالدفاع عنه ما رأى معه مقاتلاً ، ولما بقي(عليه السلام) وحده ، قال للامام : يا بن رسول الله قد علمت أني ما كان بيني وبينك ، قلت لك أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً فإذا لم أر مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف ؟ فقلتَ لي نعم.
فقال له(عليه السلام) : صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت على ذلك فأنت في حلٍّ.
فأخرج فرسه من الفسطاط وركبه وهرب ونجا بنفسه (2).
وهذا الموقف النبيل في تعامل الحسين(عليه السلام) مع أصحابه لا تجده في سائر المعسكرات الاخرى والتي قد يُتناسى فيها العهود والمواثيق.
فلم يجبر الحسين(عليه السلام) أحداً من أصحابه على نصرته والدفاع عنه ، بل ترك الامر لهم وباختيارهم، وهذا في الواقع ما زاد في عزيمتهم وجعلهم يقاتلون بمحض إرادتهم عن عزيمهُ صادقة.
وكم هو فرق بين أن يقاتل المقاتل في المعركة عن رغبة وشوق وبين أن يقاتل مُكرَهاً على ذلك ، أو من أجل المطامع الدنيوية التي هي منتهى الزوال والاضمحلال.

(1) معالي السبطين : ج1 ، ص344 ، الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273.
(2) تاريخ الطبري : ج4 ، ص339.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 161

د ـ السعي في قضاء حوائج الناس ومواساتهم


وهو : من أفضل الطاعات والقربـات عند الله تعـالى ، وعـنصر مـن عناصر المحبة والاخاء ، ومما يزيد في ترابط المجتمع ووحدتهم وقد ندب الاسلام وحث عليه ومن ذلك :مـا روي عـن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال : من قَضى لاخيـه المُؤمن حاجةً ، كان كمن عبدَ اللهَ دَهراً (1).
وروي عن الامـام الصادق(عليه السلام) أنـه قال : ومَنْ قضى لاخيه المؤمن حاجةً ، قضى اللهُ ( عزوجل ) له يومَ القيامـة مـائة ألف حاجة من ذلك ، أوّلُها الجنة..(2).
وَقد عَدّ الشرعُ الحنيف التهاونَ في قضاءِ حوائج المؤمنين خصوصاً مع القدرة علـيها ، مـن رذائل الصفـات ، ودليلاً عـلى ضـعف الايمـان ، وباعثاً على سلب التوفيق ، ومما ورد في ذلك : ما روي عـن الامـام الصادق(عليه السلام) أيّما رجل من شيعتنا أتى رجلاً من إخوانه ، فاستعانَ به في حاجته فلم يعنْهُ ، وهو يقدر إلاّ ابتلاه اللهُ تعالى بأن يَقضي حوائج عدّة من أعدائنا ، يُعذّبهُ اللهُ عليها يومَ القيامة (3).
وروي أيـضاً عنـه(عليه السلام) : أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه ، وهو يقدر عليه

(1) أمالي الطوسي : ص481 ، بحار الانوار : ج71 ، ص302 ، ح40.
(2) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص192 ، ح1 ، بحار الانوار : ج71 ، ص322 ، ح90.
(3) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص366 ، بحار الانوار : ج75 ، ص181.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 162

عليه من عنده أو من عند غيره ، أقامَهُ اللهُ عزوجل يوم القيامة مُسوداً وجهه ، مزرّقةً عيناهُ ، مغلولةً يداهُ إلى عُنقه ، فيقال : هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ، ثم يؤمرُ به إلى النار (1).
وفي ليلة عاشوراء والتي تُمثل الظروف العصيبة تكتنف في طياتها ألواناً من الاخلاق الفاضلة ، والتي تمثل خُلق الاسلام الحنيف ، فهذا سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ يضرب لنا مثالاً صادقاً في مواساة مَنْ معهُ ، وقضاءِ حوائجهم ، فتراه مَهموماً من أجل غُلام مُسلم قد أسر بثغر الري ، وقد وجد أباه مهموماً من أجلـه ، فيقول له(عليه السلام) : رحمك الله أنت في حِلٍّ من بيعتي ، فاعمل في فكاك ابنك ، وقد أمر له بخمسة أثواب قيمتها ألف دينار ، ليستعين بها في فداءِ ابـنه(2).
هذا وقد ترى وكأنَّ الحالة التي يعيشُها(عليه السلام) حالةً طبيعيةً في تلك الليلة حتى يطلب من أبي الغلام الاسير أن يسعى لفكاك ولـده من الاسرويترك ما هو عليه ، بل ويجعله في حل من بيعته !!
إنه بحق موقفٌ أخلاقي واجتماعي ، فريدٌ من نوعه ، وليس له أهلٌ غير من تَربى فـي حجر الـرسالة وارتضع لبـانَ الإبـاء صبياً ، وتخلق بأخلاق الانبياء ، وتحلى بحُلية الاوصياء ، فهذه من أخلاقه الكريمة والتي أفرزت ليلةُ عاشوراء جانباً يسيراً منها !
ومن تلك المواقف أيضاً والتي تَدلُّ على مَدى حرصِه(عليه السلام) في قضاء حوائج الناس وحفظ حقوقهم ، وإرجاعها إليهم مهما كَلَّفَ الامر ، وذلك حينما أمر مُنادياً

(1) أصول الكافي للكليني : ج2 ، ص367 ، ح1 ، بحار الانوار : ج71 ، ص201 ، ح83.
(2) اللهوف : ص40 ، بحار الانوار : ج44 ، ص392.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 163

في أصحابه ، لا يُقتل معنا رجل وعليه دين ، فقام إليه رجل من أصحابه فقال له : إن عليّ ديناً وقد ضمنته زوجتي فقال(عليه السلام) : وما ضمان امرأة (1) ؟
وروي عن موسى بن عمير عن أبيه قال : أمرني الحسين بن علي (عليهما السلام) قال : نادِ أن لا يُقتلَ مَعي رَجُلٌ عليه دَينٌ ، ونادِ بها في الموالي ، فإنِّي سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يَقول : مَنْ مَات وعليه دينٌ اُخذ من حسناته يوم القيامة (2).
لقد أراد الامام(عليه السلام) أن يكونَ المستشْهدُ بين يديه مُتحرجاً في دينه خاليَ الذمة من حقوق الناس وأموالهم ، ولا يريد أن يكون سبباً في ضياع أيِّ حق من حقوق الاخرين.
وهذا غاية سُمو الاخلاق والرفعةَ والنُبل ، ونموذج مِثالي من الدروس الاخلاقية العظيمة لكل الاجيال في كل زمان.

(1) المعجم الكبير للطبراني : ج1 ، ص141 ، إحقاق الحق : ج19 ، ص429 ، حياة الامام الحسين للقرشي : ج3 ، ص171.
(2) إحقاق الحق : ج19 ، ص429 ، موسوعة كلمات الامام الحسين : ص417.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 164

هـ ـ الايثار والتفاني


الايثار ، وهو : من الصفات الكريمة التي تؤدي إلى سمُو الانسان ، وتكامل شخصيته ونكرانه لذاته وتفانيه في سبيل الحق والخير ، وقد عني به الاسلام عنايةً بالغة ، وأثنى على مَنْ يتخلق به ، فقد مدح القرآن الكريم جماعةً من نُبلاءِ المسلِمين وأفداذِهم ، لانهـم أثرِوا إخـوانَهم عـلى أنفُسهم ، قال تعالى : « وَيؤثرُونَ عَلى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهم خصاصَةٌ وَمَن يُوق شُحَّ نَفسِهِ فَأُولئكَ هُمُ المُفلِحُونَ » (1)(2).
ولا تجد أجلى مصداقاً للاية الشريفة سوى مَنْ نزلت فيهم وأثنت عليهم ، وهم أهل بيت العصمة ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ الذين أثروا غيرهم على أنفسهم ، وناهيك عن صور الايثار التي عرضها القرآنُ الكريم عنهم كما في سورة ـ هل أتى ـ وغيرها ، كليلة مبيت أمير المؤمنين(عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلةَ الغار مؤثرَهُ على نفسه ، حتى تعجبت من إيثاره ملائكةُ السماءِ ، وباهى الله به ملائكتَهُ.
فكانت هذه الصفة من صفاتهم البارزة ، والتي ظهرت في سيرتهم مع الاخرين ، وقد حفلتْ سيرتُهم بألوان من صور الايثار كما لا يخفى ذلك على من يراجع سيرتهم وحياتهم الخالدة.
وكان من الطبيعي أن يتخلق بهذه الخصلة كلُّ من يعاشرُهم ، ويقتفي أثرهم ،

(1) سورة الحشر : الاية 9.
(2) راجع : النظام التربوي في الاسلام للقرشي : ص299.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 165

ويستقي من أخلاقهم ، مثلُ حواريهم وأصحابهم المُخلصين ، والذين تخلقوا بأخلاقهم ، وتحلوا بصفاتهم وحذوا حذوهم.
وفي طليعة هؤلاءِ الذين مَجّدهم التاريخ وحفظ ذكرهم ، أصحاب الحسين (عليه السلام) والذين مثلوا أروع صُورِ الايثار التي خلدها التاريخ وأثنى عليها.
ومن تلك الصور الخالدة ، وقوفُهم ليلةَ عاشوراء مع الحسين(عليه السلام) وقد عاهدوهُ على التضحية والشهادة بين يديه ، ووقف كلُّ منهم يُعاهدُ الاخر على أن يؤثرَه على نفسه ، وكلٌ منهم يُريد أن يَسبق الاخر إلى ساحة القتال !!
ولذا لم يعرف التاريخُ أصحاباً أفضل منهم ، وذلك بما حازوا عليه من صفات شريفة ، وخصال حميدة ، وملكات نفسية ، أهلتهم لان يكونوا أفضل الاصحاب وخيرهم ، ومن ذلك هو تسابقُهم إلى الشهادة ، بإخلاص وتفان في سبيل الحق ، غير مكترثين بالحياة ساخرين من الموت ، متعطشين إلى الشهادة.
قال أحد الاعلام : السبقُ إلى النفع غريزةٌ في الاحياءِ لا يحيدون عنها ولا يُلامونَ عليها ، وقد يؤولُ الى النزاعِ بين الاشخاص والانواع ، ولكنَّ التسابق إلى الموت لا يُرى في العُقلاءِ إلاَّ لغايات شريفة تَبلغُ في مُعتقدِهم من الاهتمام مبلغاً قصياً أسمى من الحياة الحاضرة ، كما إذا اعتقدَ الانسان في تَسابُقه إلى الموت نيلَ سعادات ولذات هي أرقى وأبقى من جميع ماله في الحياة الحاضرة.
ولهذا نظائرُ في تواريخِ الغُزاة والمجاهدين ، ففي صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) « رجالٌ صَدقُوا مَا عاهدُوا الله عَليه »(1) وتسابقوا إلى القتال بين يديه ، مُعتقدين أن ليس

(1) سورة الاحزاب : الاية 23.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 166

بينهم وبين جنان الخلد والفردوس الاعلى سوى سُويعات أو تُميرات يأكلونها أو حملات يَحملونها ، وهذا من أشرف السباق ، وموتُه أهنأ موت ، وشعارهُ أقوى دليل على الفضيلة والايمان ، ولم يَعهد التأريخُ لجماعة بِداراً نحوَ الموتِ وسباقاً إلى الجنة والاسنة مثل ما عهِدناهُ في صَحبِ الحسين(عليه السلام).
وقد عَجم الحسينُ(عليه السلام) عودَهم واختبرَ حُدودَهُم ، وكَسب منهمُ الثقةَ البليغة ، وأسفرت امتحاناتُه كلُّها عن فوزه بصحَب أوفياء وأصفياء وإخوانِ صدق عند اللقاء ، قَلَّ ما فازَ أو يَفوزُ بأمثالهم ناهض ! فلا نجد أدنى مبالغة في وصفه لهم عندما قال : أما بعد ، فإني لا أعلمُ أصحاباً خَيراً مِن أصحابي ، ولا أهلَ بيت أبرَّ وأوفى من أهلِ بيتي (1) .
وكان الفضلُ الاكبرُ في هذا الانتقاء يَعودُ إلى حُسن انتخاب الحسين(عليه السلام) وقيامهِ بكلِّ وجائب الزعامة والإمامة ، وقيامُ الرئيسِ بالواجب يَقود أتباعَه إلى أداءِ الواجب ، واعتصامُ الزعيم بِمبدئِه القويم يسوقُ مَنْ معهُ إلى التمسُّك بالمبدأ والمسلك والغاية ، فكان سُرادق الحسين(عليه السلام) بما فيه من صَحب وآل ونساء وأطفال كالماءِ الواحد لا يفترق بعضُه عن بعض ، فكان كلٌّ منهم مِرآةَ سيدهِ الحسين(عليه السلام) بحاله وفعاله وأقواله ، وكانوا يفتدونَه بأنفُسهم كما كان يتمنى القتلَ لنفسه قبلَهم (2) .
جادوا بأنفسهم في حُبِ سيدهم والجودُ بالنفس أقصى غايةُ الجودِ

ومن صور الاقتداء والإيثار في هذه الليلة العظيمة هو حينما هَّبت الصفوةُ الطيبةُ من أنصـاره ، وأهل بيته(عليهم السلام) بإيمانهم العميق بالمبدأ السامي للدفاع عن حريم

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص317 ، اللهوف : ص39.
(2) نهضة الحسين للشهرستاني : ص113.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 167

الله ورسله (صلى الله عليه وآله) ، يتعاهدون على الشهادة والتضحية بين يدي سيد شباب أهل الجنةعليه السلام) ويتنازعون فيما بينهم أيُّهم ينزل ساحةَ الحرب قبل الاخر.
فهذا العباس بن أمير المؤمنين (عليهما السلام) يَقفُ خاطباً في إخوته وبني عمومته ، مؤكداً عليهم ومُحفزاً لهم على القتال ، وأنهم أولُ من يَبرزُ إلى ساحة القتال ، وأنَّ الحِملَ الثقيل لا يقومُ به إلا أهلُه... ؟ !
فيجيبُه بنو هاشم وقد سَلوا سيوفَهم في وجهه : نحنُ على ما أنت عليه !!
وأما الانصارُ فقد وقف حبيب بن مظاهر الاسدي وهم حوله كالحلقة ، قائلاً لهم ومؤكداً عليهم : فإذا صار الصباحُ فأولُ من يَبرزُ إلى القتالِ أنتم ، نَحنُ نقدمهم للقتال ولا نرى هَاشمياً مُضرجاً بدمه وفينا عرقٌ يضرب لئلا يقول الناس : قدَّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم ؟!
فهزُّوا سيوفَهمُ ، وقالوا : نحنُ على ما أنتَ عليه !!
ولما رأت زينب هذين الموقفين من الانصار وبني هاشم تعجبت من إيثارهم وصدق ثباتهم وشدة عزمهم ، فسكن قلبُها واطمئنت نفسها ، فأخبرت الحسين(عليه السلام) بذلك متعجبةً مما رأتُه ! !
فقال لها(عليه السلام) يا اُختاه اعلمي أن هؤلاءِ أصحابي من عالم الذرّ وبهم وعدني جدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) (1).
وأما التفاني فهي صفحة أخرى منقطعة النظير نقرؤها عند أنصار الحسين(عليه السلام) في ولائهم وإخلاصهم ، وقد ضربوا في ذلك أروع الامثلة في صلابة عزمهم

(1) معالي السبطين للحائري : ج1 ، ص340.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 168

وتصميمهم على الدفاع عنه وعن أهل بيته ، ولم يكترثوا بتلك القوى الهائلة ، ولم يرتاعوا من القتل بل سخروا من الحياة واستهانوا بالموت ، واندفعوا نحو الحسين(عليه السلام) يعاهدونه على التضحية والفداء بالنفس ، وبكل ما يمكن الدفاع به لنصرته حتى آخر رمق في حياتهم وهذا الموقف البطولي الباسل تجده واضحاً في مواقفهم ليلة العاشر ، وتشهد على ذلك وكلماتهم التي تفيض بالفداء والتفاني في سبيله وذلك لمَّا أذن لهم بالانصراف عنه !!
وإليك بعضاً من تلك الكلمات التي يحار فيها العقل ويقف عندهـا بإعجاب وإكبار ، فمن كلماتهم ما يلي :
1 ) كلمة أهل بيته والتي يقولون فيها : لِم نفعل لنبقى بعدَك لا أرانا الله ذلك أبداً ؟!
2 ) كلمة بني عقيل والتي يقولون فيها : لا والله لا نفعل تفديك أنفُسُنا وأموالُنا وأهلونا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك ؟!
3 ) كلمة مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها : أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربُهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ، ولا اُفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتُلهم به لـقذفتُهم بالحجارة دونك حتى أموت معك !
4 ) كلمة سعد بن عبد الله الحنفي والتي يقول فيها : والله لو علمتُ أني اُقتلُ ثم أحيا ثم اُحرقُ حيَّاً ثم اُذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرةً ما فارقتُك حتى ألقى حِمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلةٌ واحدةٌ ثم هيَ الكرامة لا انقضاء لها أبداً !!
5 ) كلمة زهير بن القين والتي يقول فيها : والله لوددت أني قُتلتُ ثم نُشرت

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 169

ثم قُتلتُ حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفعُ بذلك القتل عن نفسك وعن أنفُس هؤلاء الفتية من أهل بيتك !
6 ) كلمة جماعة من اصحابه والتي يقولون فيها : والله لا نُفارقُك ، ولكن أنفُسَنا لك الفداء تقيك نحورنا وجباهِنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كُنا وفينا وقضينا ما علينا (1).
7 ) كلمة بشر الحضرمي والتي يقول فيها : أكلتني السباعُ حيّاً إن فارقتُك (2).
8 ) كلمة نافع بن هلال والتي يقول فيها : ثكلتني أمي ، إن سيفي بألف وفرسي مثلهُ ، فو الله الذي مَنَّ بِكَ عليَّ لا فارقتُكَ حتى يَكلا من فري وجري (3).
9 ) كلمة القاسم بن الحسن عليهما السلام لمَّا قال له الحسين(عليه السلام) يا بني كيف الموت عندك ؟ قال : يا عم فيك أحلى من العسل (4).
فهذه بعضٌ من كلماتهم والتي تفيض بالتفاني والاخلاص فهذا الحسين(عليه السلام) ينطق بالحق في ما يقوله عنهم حين قال لاخته زينب(عليه السلام) : والله لقد بلوتُهم فما وجدتُ فيهم إلا الاشوس الاقعس يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه (5).

(1) تاريخ الطبري : ج4 ، ص318 ، الارشاد للشيخ المفيد : ص231.
(1) اللهوف : ص40 ، بحار الانوار : ج44 ، ص392.
(2) الدمعة الساكبة : ج4 ، ص273.
(3) معالي السبطين : ج1 ، ص343.
(4) تقدم تخريجه.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 170




كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 171

البعد العسكري


كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 172




كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 173

من الأعمال التي قام بها الحسين(عليه السلام) في هذه الليلة العظيمة هو الاستعداد التام لمواجهة الأعدء عسكريا ، وقد أخذ على عاتقه كل ما من شأنه تعزيز موقعهم في طريق مواجهو العدو.
هذا مع ما كان عليه(عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في هذه الليلة الخطيرة التي حفلت بالمكاره والصعاب والمخاطر ، وقد أصبحو بين اناس ليس في قلوبهم ذرة من الرحمة أو الشفقة ، فمنعوهم كلَّ الوسائل الحيوية ، وأهم ما يُعتمد عليه في الحياة إذ حالوا بينهم وبين الماء (1) الذي يلوح ببريقه يرونه ولا يصلون إليه !! حتى أضر العطش بالحسين وأهل بيته وأصحابه ! !
كما مُنعوا وصولَ أي مدد للحسين(عليه السلام) من شأنه أن يُعزز مكانه ويقف إلى جانبه ، كما حالوا بينه(عليه السلام) وبين وصول الاسديين ، الذين جاءوا لنصرته والدفاع عنه ، بقيادة حبيب بن مظاهر من نواحي كربلاء (2)، وقد أخذوا أيضاً يرقبون عن كثب تحركات الحسين(عليه السلام) وأصحابه ، وضيّقوا عليهم أشد تضييق وقد روي أنه نادى ابن سعد : يا خيل الله اركبي وابشري ! فركب النّاسُ ، ثم زحف نحو الحسين(عليه السلام) وأصحابه فكانوا على مقربة من بيوتهم بحيث كانوا يسمعون أصواتهم (3)
هذا ولم يسلم الحسين(عليه السلام) وأصحابه حتى من كلمات العدو الجارحة النابية ، والتي ما زالوا يسمعونها بين الاونة والاخرى ، الامر الذي يدل على خساسة

(1) راجع : تاريخ الطبري : ج4 ، ص312 ، بحار الانوار : ج44 ، ص389.
(2) راجع : الفتوح لابن الاعثم : ج5 ، ص100 ، بحار الانوار : ج44 ، ص386.
(3) راجع : تاريخ الطبري : ج4 ، ص315 ، بحار الانوار : ج44 ، ص391.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 174

عدوهم ودناءته !!
وأما حديث النساء والاطفال فأمرٌ آخر ، مع ما هم عليه من الفزع والرُعب ، فأحدقت أعينهم ولم يناموا ليلتهم وهم يَرون أنفسهم في قبضة عدو لا يرحم أحداً ، مُحاصرين بين سياج من الاسنة والحراب ، وجيش بات على أهبة الاستعداد ينتظر أوامر قيادته للزحف والهجوم عليهم ، فكيف مع هذا كله يغمض لهم جفن ، أو يهدا لهم روعٌ ؟ !
ومع هذا كله نجده ـ صلوات الله عليه ـ لم ينسى أن يَتخذ التدابير اللازمة والاجراءات الوقائية في حماية أهل بيته ، والاستعداد لمواجهة الاعداء ، وما يتقوى به على القتال في سبيل الله تعالى.
وقد ارتكز هذا الجانب العسكري على عدة أمور دقيقة وهي :

الامر الاول

التعبئة المعنوية

التعبئةُ المعنوية لها دورٌ كبير في تكامل المواجهة وترسيخ النفس ، ومقاومتها لاخر رمق ; وذلك بالاقتناع التام بالهدف والمبدأ اللذينِ يُقاتل من أجلهما وفي سبيلهما ، إذ يهون حينها كل شيء ما دام يرى نفسَه على حق ، وبعكس ذلك لا يمكن أن يقف في المواجهة طالما لا هدف له من وراءِ ذلك ، وما دامَ غير مُقتنع فحينها لا يكونُ موطناً نفسه على ذلك.
وقد وجدنا أنصار الحسين(عليه السلام) قد وطنوا أنفسهم في مواجهة أعدائهم ، وذلك بعزيمة صادقة لا تردّدَ فيها ، وبإيمان لا يشوبُه شكٌ حيث الاقتناع التام بالمبدأ السامي الذي يدافعون عنه ويقاتلون من أجله ، فكانوا يتمتعون بروحيّة عالية

السابق السابق الفهرس التالي التالي