كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 296

ولنا اسوةٌ وخـيــرُ عـــزاءٍ بالمنايا في خاتــمِ الأنبيـــاء
وبكى رقّةً عليهــا وحُـزنــاً حينَ أهوت من غَشيةِ الإغـمـاء
قال فاربط أمناً على القلبِ منـها منكَ بالصبر يـا إلـهَ العطــاء
وهو أوصى إلى العقيلـةِ جهـراً ولزينِ العُبّادِ تحـتَ الخَفـــاء
فهي تعطي الأحكـامَ للناس فتوىً بعد أخذٍ من زينـةِ الأولـيــاء
كلُّ هذا ستراً عليـه وحفـظــاً لعليٍّ مـن أعيُــنِ الرُقَبـــاء

الإمام الحسين(عليه السلام)
يرى جده في الرُؤيا
ورأى جـدَّه فأوحــى اليــه قد تدانى ميعــادُ يومِ اللقـــاء
سيكونُ الإفطــارُ منك بحـقٍ في غدٍ عندنا بوقـتِ المســـاء
بك أهلُ الجنانِ زادوا ابتشـاراً والصفيحُ الأعلى بأصفى هناء (1)
ولقد جاء من إلـه البرايـــا ملـك من أكــارم الامنـــاء
ليصون الدماءَ منكَ احتفـاظـاً بين جنبي قـارورةٍ خضـــراء

(1) الصفيح : السماء.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 297

برير وعبد الرحمن
قال عبد الرحمن حُبّاً ونُصحــاً لبريرَ بـدونِ أيِّ جفـــاء (1)
حينما هازلَ ابتهاجاً وبُشـــراً شخصَه في تَحبُّـبٍ وإخـــاء
ليس هذي بساعـةٍ يَعتريهـــا باطلٌ دونَ ريبـةٍ وامتـــراء
قال واللهِ ما ودَدتُ اشتياقـــاً أبــداً كـلَّ باطلٍ وريـــاء
طولَ عُمري طفلاً وكهلاً وقومي لي بهذا مِنْ خيـرةِ الشُهــداء
غير أنّي مُستبشرُ النفسِ فيمــا سوف نلقاهُ من نعيمِ البقـــاء
ليس إلاّ بأن يَميلـوا علينـــا بالمواضي في ساعةِ الإلتقــاء
ثم إنّا نعانقُ الحـورَ فـــوزاً بعدَ هذا في جَنّـةِ السُعـــداء
وحبيبٌ عندَ التبسُـم أوحـــى ليزيدَ هذا بحــدٍ ســواء (2)
لو أتاني إذنُ الحسينِ لعجّلــتُ عليهم مِنْ ساعتي باللقــاء (3)

(1) عبد الرحمن الأنصاري وبرير بن خضير الهمداني.
(2) يزيد بن الحصين الهمداني.
(3) ملحمة أهل البيت (عليهم السلام) للشيخ الفرطوسي : ج 3 ص 288 ـ 296.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 298

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي

ليس هناك في التأريخ البشري ـ حسب علمنا ـ قصيدة أو منظومة أو ملحمة شعرية نظمت من بحر واحد وقافية واحدة وروي واحد واجتاز طولها آلاف الأبيات مثل ( ملحمة أهل البيت (عليهم السلام) ) التي نظمها الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي ولا أدري إن كان ما يسمى في الغرب بكتب الارقام القياسية قد وصلته هذه المعلومة أم إنها قد طويت جهلا أو تبخيساً مثل كلّ الإنجازات الخارقة والأعمال الباهرة التي لا يُلتفت أليها عمداً وقصداً.
فهذه الملحمة ـ ان صح التعبير ـ ما راثون طويل بنفس واحد وبخطوة متكررة واحدة وبحركة حثيثة واحدة ويكفي الشيخ الفرطوسي فخراً أنه أطالها وتجاوز في إطالتها ولو لم يكن له منها إلا هذا الطول لكفاه.
أما ما يخص ليلة عاشوراء فلدينا 157 بيتاً من الملحمة توثّق كلّ ما جرى في هذه الليلة العظيمة على طريقة المنظومات مع حساب الفارق فالنظم هنا على بحر مركب التفعيلات هو بحر الخفيف وليس بحر الرجز السهل النظم ـ فالعرب تسميه حمار الشعر وتسمي من ينظم فيه راجزاً لا شاعراً تفريقاً ـ إضافة الى القافية الموحدة في ملحة الفرطوسي وهي غير قوافي المزدوجات السهلة اليسيرة.

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 299

ـ 19 ـ
للشاعر الأستاذ عبود الأحمد النجفي (1)
الغد الدامي

في غد يشرق الصباح مدمـىً وعلى الترب أنجم مطفـــآتُ
واشتعال الرمال يلهب أفقــا أججته ضغائــنّ وهنـــاتُ
والمدى الرحب خلفه يتـوارى فيه غابت شموسه النيـــراتُ
وجفون السماء تقطر دمعــاً سكبته عيونُهــا الباكيـــاتُ
علّها تُطفيء اللظـي بــزلال وعلى الأرض أكبد ظامئــاتُ
أغلقت دونها الينابيع عذبــا بعدما شحّ بالرواء الفـــراتُ
أيبس الطف والقلوب جفـاف ونفوسٌ عن الرؤى مجدبــاتُ
لن ترى غير مقتل الحق نصراً فهي في صحوة الحياة سبـاتُ
غادرت يقظة الضمائر موتى فتعرت أشلاؤهـا الصدئــاتُ
رسمت لوحة الخطيئة بحــراً من جحيم وعمقـه الظلمــاتُ
أبحرت فيه والمتـاه دلـيــل مزقتها عواصفٌ مهلكـــاتُ

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 300

نبذت قبر عريها كـل أرض فهي في رقدة العذاب شتاتُ
في غدٍ تملأ الشعاب صبايـا ونساءٌ فواجعٌ ثـا كــلاتُ
أثقلتها مصائـب ورزايــا غاب عنها أعزةٌ وحمــاةُ
طاردتها شمس الظهيرة جواً وقفارٌ تحت الخطى مسعراتُ
خلفها يُشعل الخيامَ ضــرامٌ حاط فيها توحّشٌ وقســاةُ
وخيول الأعداء تطحن صدراً وضلوعاً تهفو لها الكائنـاتُ
جسدٌ ضمَّ في ثناياهُ كونــاً يتسامى وفيضُهُ المكرمـاتُ
عانقَ الموتَ والشهادةَ شوقـاً فجنانٌ لشوقـهِ عاشقــاتُ
ووحيداً يُلقن الحشدَ درســاً بثباتٍ يحارُ فيـه الثبــاتُ
حوله من بنيه والصحب جمعٌ جمعتهم مواقفٌ خالــداتُ
وقفوا وقفةَ الإبـاء بحــزمٍ وسيوفٍ تهاب منها الكُمـاةُ
سطّروا صفحةَ الوفاء وساروا بطريق تهيم فيـه الأبــاةُ
فإلى الخلد أنفـسٌ تتعالــى وعلى الرمل أبدنٌ زاكيـاتُ
سال منها دمُ الحيـاة نديــاً بربيع الجراح تَحيى المواتُ
* * * *
في غدٍ يرحل الزمان مجـداً وتباريُ أيامَه اللحضـــاتُ
وإلى الشام يستحـث مسيـراً وإلى الشام تنتهي الخطــواتُ
فعلى الرمـح ثـورةٌ رؤوسٌ وعلى النوق أنفـسٌ حائـراتُ

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 301

سوف تجتاح في غدٍ معقل الظلم وتنهـار أعــرشٌ نكـــراتُ
وستبقى الدمـاءُ ما دام فيهــا صحوةُ الدين والفدا والعظــاتُ
وستبقى الدماء أغلى وجــوداً من حياةٍ يعيش فيهـا الجنــاةُ
ينحني السيفُ خاشعاً وذليــلاً وخضوعاً ستركع المرهفــاتُ
حين أعطت قيادهــا للئــامٍ ثم أودت بعزهــا عثـــراتُ
فاستحقت مدى الزمان عتابــاً وتنامـت بفعلهــا النائبــاتُ

عبود الأحمد النجفي
1 / 11 / 1417 هـ


كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 302

الإستاذ عبود الأحمد النجفي

عبود الأحمد النجفي شاعر يصارع الألم ولايزال في تفاصيل حياته ، فلذا يتبدّى ولاؤه للمأساة الحسينية في أشكال ذاتية يتحسسها بقرب روحي عميق ، وإذا أضفنا إلى ذلك تمرّسه في الكتابة باللهجة المحلية للمنبر الحسيني لسنين طويلة فسوف تختمر تجربته وتتصاعد ، فلا غرو أن تستجيب شاعريته لموضوعة محدّدة التفاصيل مثل ليلة عاشوراء ليصوّرها من أفق الانتظار :
في غد يشرق الصباح مدمّى وعلى الترب أنجم مطفــآت

ليُصور الغد الدامي بتجربة مبتورة إذا نظرنا إلى بقية شعره ، فأنا قد لاحظت قبلاً على النجفي سمة الإرتقاء الشعري من قصيدة إلى أخرى لكنه في هذه المحطة لم يقلْ ما تريده حصيلته الشعرية المتصاعدة ولا أعلم سبباً وجيهاً لهذا النكوص ، فالنجفي لاتضغط على شاعريته المناسبة فهو من فرسانها المجلّين مع ثُلّة من إخوانه من شعراء الولاء ، لكنه بدأ مع تراكم تجربته في الكتابة بالتوجه إلى منحى آخر في التأمل والرؤيا الشعرية إزدانت به مجموعته ـ اهتزاز الذاكرة ـ مما أثرى تجربته بإرتياد مناطق كانت مجهولة لديه وإنفتح عليها نبوغه وتطلّعه ولعلي أصيب حين أسميه بالنابغة النجفي تيمناً بنوابغ الشعر العربي الأصيل ، فعبود الأحمد النجفي كتب الشعر الفصيح متأخراً فتصحّ عليه هذه التسمية ولعله يقبلها برحابة صدره المعهودة.

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 303

ـ 20 ـ
للشيخ علي بن عبد الحميد ـ رحمه الله ـ
العزمات الصادقة

فلما رأى أن لا مناص من الـردى وإنّ مراد القــوم منه كبـيـــرُ
فقال لأهليه وباقـي صحـبـــه ألا إنّ لبثـي فيكــمُ ليسـيـــرُ
عليكم بهذا الليل فاستـتـروا بــه وقوموا وجدّوا في الظلام وسيـروا
ويأخذ كلُّ منكــم يـدَ واحـــدٍ من الآن وخفّوا في البلاد و غوروا
فما بُغيةُ الأرجاس غيري وخالقـي على كلّ شيءٍ يبتغـيــه قديــرُ
فقالوا معاذَ الله نسلمك للـعــدى وتضفى علينا للحـيـاة ستـــورُ
فأيُّ حياة بعد فقـدك نرتـجــي وأيُّ فــؤادٍ يعتـريـه ســرورُ
ولكن نقي عنك الـردى بسيوفـنـا لتحظى بنا دارُ النعـيـم وحــورُ
فقال جُزيتم كلّ خيــرٍ فأنتــمُ لكلّ الورى يوم القيـامـة نــورُ
فأصبح يدعو هل مغيثٌ يُغيثُنــا فقلّ مُجيبــوه وعـزّ نصـيــرُ
ولم تبقى إلا عصبةٌ علـويـــةٌ لهم عزماتٌ ما بهـنَّ قـصــورُ
ولمّا شبّت نار الحروب وأضرمت وقتْ نفسَه هـامٌ لهــم ونحــورُ
ولم أنسه يوم الهيــاج كأنـــه هزبرٌ له وقعُ السيـوف زئيـــرُ
يكرُّ عليهـم والحســام بكفــه فلم يرَ إلا صــارخٌ وعفيـــرُ
وراح إلى نحو الخيـام مودعــاً يُهمهمُ بالقرآن حيــثُ يسيـــرُ

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 304

فقمنَّ إليه الفاطميـات حُسَّــراً يفدينه والمعـولات كثيـــرُ
فقال استعينوا بالإلــه فإنَّــه عليمٌ بما يُخفي العباد بصيــرُ
ألا لاتشقنَ الجيوب ولا يُــرى لكُنَّ عويلٌ إنَّ ذاك غـــرورُ
ألم تعلمي ياأختُ إنَّ جميعَ مـن على الأرضِ كلٌ للمماتِ يصيرُ
عليك بزين العابديــن فإنّــه إمامكِ بل للمؤمنيــن أميــرُ
أطيعي له إنْ قال مولىً فإنَّــه المطاعُ بأحكام الكتاب خبيرُ (1)

(1) المنتخب للطريحي : ص121 ـ 122.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 305

ـ 21 ـ
للشيخ علي الفرج (1)
حديث النجوم

أغسلي يا نجوم عن سأم الليـ ـل جفونَ الحسينِ والأصحـابِ
وَدّعي ذلك الزعيمَ ودمعــا ذابَ فيه طبعُ انكسارِ السحـابِ
دمعةٌ منه أنبتتْ للمــلاييـ ـن حِراباً من سُنةٍ وكتــابِ
ودّعيه دماً تأهبّ فـي الأقـ ـداح كيما يُراق في الأكـواب
دمُه صبغة السماءِ وأين السـ ـيفُ منه وهو انتماء التُـراب
* * * *
حدّثي يا نجومُ عن خيم الوحـ ـي ودمـعٍ من زينبٍ سَكّـابِ
ليلُها...أين ليلُهـا ؟! نسيتْــه نسيتْ صمتَه انتظارَ العــذابِ
حولهَا من خواطر الظمـأ المرِّ ضبابٌ في عُتمـةٍ من ضبـابِ

(1) هو : الشاعر فضيلة الشيخ علي بن عبدالله الفَرَج ، ولد في القديح إحدى مناطق القطيف سنة 1391 هـ ، انهى المرحلة الثانوية ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف سنة 1410 هـ ثم درس شطراً في سوريا سنة 1412 هـ وأخيراً التحق بالحوزة العلمية في قم المقدسة سنة 1416 هـ ، ولا يزال يواصل دراسته العلمية فيها ، وله ديوان شعر : أصداء النغم المسافر ، وكتابات اُخرى ، وله مشاركات في النوادي الأدبية والثقافية في القطيف وسوريا وقم المقدسة.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 306

قسماً لو جرى الفرات وريـــداً في دماها كسلســلٍ مُنســـابِ
هدرته مـاءً فتجتمـــع الأطـ ـفال ، فيه تعود ملأى القِــرابِ
* * * *
حدّثيني عن الاُسود كم امتـــدَّ< بهم للسمـا خيـوطُ انتســـابِ
زرعوا الليل أعيناً تحرس الغ ـاب كَسربٍ من الردى جـــوّابِ
أنت يا ليلة انخساف المرايـــا في وجوه السنيـن والأحقـــاب
غُرست فيك آهتي واحتضـاري ونمت فيك صرختي واغترابــي
عجبٌ أن أراك سـوداءَ والشمـ ـس بجنبَيـكِ معبـدُ الأهــداب
عجبٌ أن أرى لديك ( دويَّ النـ ـحل) يهتزُّ من أُسـود الغــاب
سهروا بين جانحيــك جبــالاً وغدوا فوق راحتيـك روابـــي
* * * *
حدّثيني عن الظلام وما احمــرَّ بأعماقــه مــن الأِرهـــاب
ضاع في رُعبه أنينُ يتامـى الـ ـغد ضاعت مباسـم الأحبــاب
وفؤاد الحسيـن ذاب حنانـــاً وعجيبٌ يذوب فـوق الحــرابِ

على الفَرَج
10 / 11 / 1416 هـ
قم المقدسة


كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 307

الشيخ علي الفرج

شاعرية علي الفرج من الشاعريات القليلة التي تُجبر متلقيها على الإقرار بضرورة الشعر في حياة الإنسان وتجعله متقرباً بأكثر من وسيلة الى التفاعل والإنصهار مع الظواهر الشعرية في كل تجلياتها وكشوفها... فهو حدّاء أصيل يراقب قافلة التلقي والقراءة بأكثر من حاسّة ويحنو على قارئه حنوّ المشفق ، فُيصاحبه صحبة إدهاش وإبهار بسحر الألفاظ المنتقاة وجمال صياغته للتراكيب الموحية وهو يفعل هذا برقّة وشفافية تنمّ عن طبع شعري متجذّر وخُلق فني راسخ ، بعيداً عن دنس تنفير الآخرين وازدرائهم ومقتهم.
فشاعريته بها نزوع نحو التلاحم مع الناس بطيبة صادقة ونيّة حسنة ليقرّر رسالة الشعر ووظيفته كنداء من ضمير ووجدان جماعي يعبّر عن كل الآمال وجميع الآلام ، ولذا فهو يمتلك من إمكانات الإختيار في خطابه الشعري الشيء الكثير ، وله قدرة متشعّبة في توليد التراكيب غير النمطيّة يعاضده إنتقاء واع لألفاظه ، فلا تستطيع أيّة لفظة كانت أن تعبر سياج حقوله الشعرية بلا إذن من رقابته الصارمه وتفحصه الدؤوب ، ولا شك أنّ البساطة التي تظهر بسيولة في شعره هي بساطة مصنوعة بتعب وإخلاص وتفانِ وهناك جهد آخر يقوم به الفرج في إخفائه لآثار الصنعة في بساطة شعره وعذوبته وسيولته ، ولعل السيولة أقرب إليه من غيرها فهو شاعر الماء بحق وهو (نهّام) يؤدي مواويله البحرية لكي يدفع عجلة الحياة ، وإذا تسنّى للفحص والإختبار النقدي أن يولي قصيدة ( حديث النجوم ) إهتمامه فسوف

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 308

يتأكد رسوخ الصور والألفاظ والتراكيب المائية في نسيج القصيدة ، وربما تجاوز الماء الى كل الظواهر والأشياء السائلة بحيث نرى أنه لايكاد أن يخلو بيت شعري لعلي الفرج من ذلك ، وسنحصي ذلك بالترتيب في قصيدته ( اغسلي ، دمعاً ، ذاب ، السحاب ، دمعة ، دماً ، الأقداح ، يُراق ، الأكواب ، دمه ، سكّاب ، الظمأ ، ضباب ، جرى ، الفرات ، وريداً ، دماها ، سلسل ، منساب ، ماء ، ملأى ، القراب ) في الأبيات العشرة الاولى فيحقق إنسيابية سيّالة لرؤاه وصوره لكي يشكل مدخلاً الى مشهد الفجيعة الذي يتعمد فيه الشاعر عدم إستخدام مفرداته المائية ليصوّر ليلة عاشوراء ويخاطبها واصفاً إياها بليلة إنخساف المرايا فلا إنعكاس أمام وجه الزمن لكن الشاعر يخرج من هذا المشهد وينهي القصيدة بهذا البيت :
وفؤاد الحسين ذاب حنانـاً وعجيب يذوب فوق الحراب

فحتى الشهادة العظيمة لسيد الشهداء عليه السلام) يصوّرها علي الفرج بصورة الذوبان فوق الحراب مبدياً عجبه لذلك ، لكننا لا نعجب فالشاعر يريد للشهادة المحببة الى نفسه أن تتزيىّ بحلّة الماء الذي يحقق حيوية شاعرية علي الفرج المنفتحة على مصاديق الآية الكريمة ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) على مستويين : شعوريّ يصاحبه الإختيار الواعي ، ولا شعوري دفين في رغبات وأماني علي الفرج الذي يختار لقصائده أوزاناً منسابة برشاقة الإيقاع الشعري كبحريّ الخفيف والبسيط اللذين طالما كتب بهما أجمل قصائده.

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 309

ـ 22 ـ
للشاعر الأستاذ فرات الأسدي(1)
(1)
مشيئة الدم

عليه اُغمضُ روحي ـ حلمَه العجبا ـ ! فكيف فــرَّ إلى عينــيَّ مُنسربـــا
ومن أضــاءَ له حُــزني فغــادره إلى فضـاء قصيّ اللمـح فاقتربـــا !
حتى تسلّــل من حُبٍّ ومن وجـــعٍ دمعاً يُطهّر نبعَ القلــب لا الهدبـــا
رأيتُ فيما رأيتُ الدهشـة انكســـرت وخضّبت جســداً للمستحيــل كبــا
وكـان يَلقى سيوفَ الليـل منصلتـــاً ويستفزُّ مُـدىً مجنونـــة وظبـــى
وكان يعبر فـي أشفارهــا فزعـــاً مُرّاً ، وترتدُّ عن أوداجـه رُعبـــا !
تمتد لهفتهــا حيــرى فيُسلمُهـــا إلى ضلوع تشظّـت تحتهــا نهبـــا
مَنْ ينحرِ الماء مَنْ يخنـقْ شواطئــه ؟ والنهر مدَّ يديـه نحــوه... وأبـى !
فناولني دمــه ياليلـــة عبـــرت إلى النزيف جريح الخطـو منسكبـــا
* * * *

(1) هو : الشاعر الأستاذ فرات الأسدي ، ولد سنة 1380 هـ ، من عائلة علمية معروفة ، أنهى شطراً من الدراسة الاكاديمية ودرس عدة مراحل في الحوزة العلمية ، ومن نتاجه الأدبي 1 ـ ذاكرة الصمت والعطش ( مطبوع ) 2 ـ صدقت الغربة يا ابراهيم 3 ـ النهر وجهك 4 ـ الخناجر الميتة ( رواية ) ، وله مساهمات فعالة في النوادي الأدبية والثقافية والدينية ، كما شارك في الصحافة والكتابة الأدبية ، ويدير الآن دار الأدب الأسلامي : مشروع النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته في الشعر العربي.
كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 310

يا نافراً مثل وجه الحـلم رُدَّ دمــي إلى هواك... دمي الممهور ما اغتربـا
يطلُّ ظلُّك فيه... بــوحَ اُغنيـــةٍ ظمآنةٍ عبَّ منهـا لحنُهــا اللهـبــا
رأيتُ فيما رأيتُ الليـلَ متّشحـــاً عباءةَ الشمس مختـالاً بهـا طربـــا
وفوق أكتافه فجرُ النعوش هـــوت نجومُه...والمدى يرتـجُّ منتحـبـــا
قبل الحرائق كـان الورد يُشبهـــهُ وبعده لرماد الريـح صــار سبـــا
قبل الفجيعة من لون الفـــرات له شكلٌ ، ومن طينه وجهٌ يفيض صبــا
وبعدها سقطت في النار خضرتــه وحال عن بهجة مسحورة ، حطبـــا
وما تألّـق من جمـرٍ فبسمتــــهُ غارت ، وتحت رمادٍ باردٍ شحبــا !
* * * *
وأنت ، دون عزيف الموت ، صرختنا وأنت.. تنفخ فيها صوتهـا.. نسبــا
وأنت عنـدك مجــدُ الله... آيتــهُ بيارقاً نسلــت... جـرارةً حقبـــا
وأنت تلوي عنان الأرض ثمّ إلـــى أقدارها تطلـق الأقـدار والشُهبــــا
وعند جرحك مات الموت وانبجسـت من الصهيل خيـولٌ تنهـب الصخبــا
فاحملْ دمَ الكوكب الغضّ الذبيح وسـر إلى الخلــود فقد أرهقتَــه نصَبــا
وقف...فحيث مدار الكون صرت له مشيئةً تكتب التاريــخ ، أو قطـبــا

فرات الأسدي
8 / ذو القعدة / 1416 هـ


كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 311

الاستاذ فرات الاسدي
مشيئة الدم

قصيدة عمودية في ظاهرها فقط ، أما جّوها وبناؤها ولغتها وصورها وتراكيب جملها فهي برزخية الإنتماء تتقاطع مع التراث والمعاصرة في مفترقات وملتقيات عدة لتبرز هويتها غير المنحازة وغير المتعيّنة على وجه الدقة ، وهي قصيدة خروج على السائد في كل محاورها وخصوصاً على الثوابت النحوية ـ التي لفرات الأسدي رسوخ طويل بها ـ فهي تقفز منذ صدر البيت الاول فوق المعايير لتلجيء المتلقي الى التأويل والتمحّل لما هو بين شارحتين ـ حلمه العجبا ـ فلا يصل الى شيء ، ويتأكد هذا القفز فوق الثوابت النحوية في مشاكسات ومحاولات للخروج الواعي أو هي على الأقل إشعار بذلك ، مما يُنبيء أن الشاعر يضيق ذرعاً بالمعيارية التي تمتد ضاغطة على الرؤى غير المتشكّلة بعد ، وعلى القواعد التي تحاصر فضاءه وهو (فضاء قصي اللمح) فهو يفرض الحيرة على المتلقي مثلاً في
مَن ينحرِ الماء مَنْ يَخنُقْ شواطئه ؟ والنهر مدّ يديه نحــوه.. وأبـى

فهل (من) إستفهامية أم شرطية وكيف جزمت الفعلين ؟ إن التعمد والقصدية واضحان في التجاوز ونُضيف الى ذلك ما يمكن أن نسميه بـ ( إزدحام الأفعال ) كظاهرة بارزة في القصيدة حتى وصل عدد الأفعال المستخدمة في بيت واحد الى خمسة أفعال :
رأيت فيما رأيت الدهشة إنكسرت وخضّبت جسداً للمستحيــل كبا

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 312

ولإن الفعل في العربية ـ غالباً ـ ما يشكل بدايات الجمل فهذا البيت يطالب ذهن المتلقي أن يقف خمس وقفات ليبتدأ من إنطلاقات الجمل فيحتاج الى تأمل أكثر ووقت أطول فتتعدد المفاتيح الباحثة عن أبواب النص وهناك لدى فرات الأسدي ظاهرة نحوية اخرى يتعمدها في نصّه وهي حشد الضمائر المتصلة فعلى إمتداد (22) بيتاً هناك (53) ضميراً متصلاً على الأقل بحيث تعسر الإحالة ويصعب الإرجاع وسنرى هذا المثال :
وكان يلقى سيوف الليل منصلتاً ويستفزّ مُدىً مجنونـة وظُبـى
وكان يعبر في أشفارها فزعـاً مرّاً وترتدّ عن أوداجه رعبــا
تمتدّ لهفتها حيرى فيسلمهــا الى ضلوع تشظت تحتها نهبـا

فاذا أردنا معرفة عائدية الضمير (ها ) المتصل بالفعل ( يسلم ) فلن نستطيع ذلك ، لإنه قابل للإحالة الى ( اللهفة ، الأشفار ، الظُبى ، المُدى ، سيوف الليل ) وإذا أضفنا الى ذلك العُسر صعوبة تمييز فاعل الفعل ( يسلم ) هل هو فاعل ( كان يعبر ) أي الفاعل الأساس أم هو الفزع المرّ أم الرعب ؟ تشابكت القراءات وتنافرت على المحور الدلالي العام مما يصوّب رأينا القائل أن قصيدة فرات مكتوبة لكي يقرأها المتلقي لا لكي يسمعها فهي نخبوية متوغّلة في موقف جمالي عميق لايشف وهي درامية البناء قائمة على النفور من العواطف والإنفعالات البسيطة لذا نراها تجاهلت المدخليات المألوفة الى ليلة عاشوراء ودارت محاورها على لغة حلمية عميقة تعتمد الإيحاء والإيماء والغموض البرّاق في التعامل مع الأحداث بصدق فني لا يتطابق مع الصدق الواقعي بل يتضمنه ويلازمه في تجربة غنية حافلة بالاجتراح وشاعرية جامحة متمرسة طالما أغنت ساحتها تجارب كثيرة مميزة.

كتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب 313

(2)
الليلة الآخِرة
عكفتْ تشحــذُ للمــوتِ النصـــالا أو تهزُّ الليــلَ ذكــراً وابتهـــالا
فـتــيــةٌ نــاداهـمُ ربُّــهُـــم أقدِموا ، فاستسهلوا الاُخـرى منـــالا
ومضوا عن هذه الدنيـــا عُجالـــى وسرَوا للخُلدِ يبغــونَ الـوِصـــالا
بسَمَ المجـــدُ لهم فابـتـسـمـــوا وإلى أسيــافهــمْ مالــوُا فَمــالا
وارتدَوا من عدَّةِ الحـــربِ هُـــدىً ووفـــاءً ومُــروءاتٍ ثِـقـــالا
جَنَّهُمْ في الطـفِّ لـيـــلٌ وهُـــمُ بالحسينِ الطُهرِ قد جَنُّــوا خَبـــالا
فاشهــدي ياليلة الضــوء هـــوىً نضراً يبتكـر الرؤيـــا جمـــالا
* * * *
يا مسـاءً لم يلُــــحْ في أفْقــــهِ غيـرُ وجهِ اللهِ ، والسبطِ ـ تعالـى ـ !
ترقـــبُ الفجـــرَ به أمنـيـــةٌ حُرَّةٌ لم تُلقِ لـلـرَّهـبـــةِ بـــالا
رغبتْ أن تشهـد الفتــحَ غــــداً بدمٍ ما سـالَ بـل صـالَ وجـــالا !
فأعدَّتْ لـلِـقـــاهُ صَـبــرَهــا ونفوساً أنفـت تهــوى الضـــلالا
وتمدّ اليــدَ لــلـطـاغــي وقـد عاثَ بالديـن حــرامـاً وحـــلالا
ترِبَـتْ كــفُّ أبيــهِ.. ليتَــــهُ نَصبَ القـردَ أميـراً.. واستقـــالا !

السابق السابق الفهرس التالي التالي