الحسين في طريقه الى الشهادة 10

وقد بايعني من اهل الكوفة ثمانية عشر الف . فعجل الاقبال حين يأتيك كتابي . فان الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى والسلام . وكان يزيد آنذاك قد أرسل ثلاثين سيافا وامرهم ان يقتلوا الحسين أينما وجدوه بمكة ولو كان متعلقا بأستار الكعبة . فعلم الحسين ذلك . فجاء الى منزله ليلا وجمع أصحابه وخطب فيهم . فقال : الحمد لله وما شاء الله ولا حول ولا قوة الا بالله وصلى الله على رسوله محمد وآله أجمعين . خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة . وما أولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف . وخير لي مصرع أنا لاقيه . كأني باوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني اكراشا جوفا واجربة سغباء لا محيص عن يوم خط بالقلم رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابرين . لن تشذ عن رسول الله (ص) لحمته وهي

= احتسب غيرك من أصحابه . وحتى احتسبك أنا . فانه لو كان معي الساعة أحد انا اولى به مني بك . لسرني أن يتقدم بين يدي الحسين (ع) حتى احتسبه . فان هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الاجر فيه بكل ما نقدر عليه . فانه لا عمل بعد اليوم . وانما هو الحساب . قال أبو مخنف : وتقدم عابس الى الحسين (ع) بعد مقالته لشوذب فسلم عليه . وقال : يا ابا عبد الله . أما والله ما امسى على ظهر الارض قريب ولا بعيد أعز علي ولا أحب لي منك . ولو قدرت على أن ادفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز عليّ من نفسي ودمي لفعلته . السلام عليك يا أبا عبد الله . اشهد اني على هداك وهدى أبيك . ثم مشى بالسيف مصلتا نحو القوم . وبه ضربة على جبينه فطلب البراز . قال الربيع بن تميم الهمداني . لما رأيت عابساً مقبلا عرفته . وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب . وكان أشجع الناس . فصحت ايها الناس . هذا أسد الاسود . هذا ابن شبيب . لا يخرجن اليه أحد منكم . فأخذ عابس ينادي . الا رجل الا رجل فلم يتقدم اليه أحد . فنادى عمر بن سعد . ويلكم ارضخوه بالحجارة فرمي بالحجارة من كل جانب . فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره خلفه فصيح به عابس جننت ؟ قال : نعم حب الحسين (ع) أجنني . ثم شد على الناس . فوالله لقد رأيته يطرد اكثر من مأتين من الناس . ثم أنهم تعطفوا عليه من حواليه . فقتلوه واحتزوا رأسه . فرأيت رأسه في ايدي الرجال ذوي عدة . هذا يقول أنا قتلته . وهذا يقول أنا قتلته . فأتوا عمر بن سعد . فقال : لا تختصموا هذا لم يقتله انسان واحد كلكم قتله ففرقهم بهذا القول(1)
(1) انظر السماوي . ابصار العين ص 74 .
(24) الرائد . هو الذي يرسلونه اهله ارباب الماشية ليكتشف لهم الارض الخصبة والمربع والماء فانه لا يكذبهم لان الامر كما يهمهم يهمه ايضا .
الحسين في طريقه الى الشهادة 11

مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه وينجز لهم وعده . ثم قال (ع) الاومن كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فاني راحل مصبحا انشاء الله تعالى قال اهل السير : ولما اراد التوجه الى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة . واحل من احرامه وجعلها عمرة مفردة . هذا ولم يرد عليه خبر مسلم ابن عقيل . وشاع خبر سفره الى العراق عند الخاصة . ذكر ابن الاثير والطبري . ان عبد الله بن عباس اتى الحسين (ع) وقال : قد ارجف الناس انك سائر الى العراق فبين لي ما أنت صانع ؟ قال (ع) : قد اجمعت على السير في احد يومي هذين انشاء الله تعالى . فقال ابن عباس : اني اعيذك بالله من ذلك واتخوف عليك من هذا الوجه الهلاك . ان اهل العراق يريدونك كما زعموا فلينفوا عدوهم ثم اقدم عليهم . فان أبيت الا ان تخرج فسر الى اليمن فان بها حصونا وشعابا ولابيك بها شيعة . فقال له الحسين (ع) يا ابن عم اني أعلم انك ناصح مشفق ولكني أزمعت واجمعت على المسير . قال الراوي . وكرر ابن عباس الدخول عليه مرة ثانية . وقد رأى الحسين عازما على الخروج وحققه فجعل يناشده في المقام ويعظم عليه القول في ذم اهل الكوفة . وقال له : انك تأتي قوما قتلوا اباك وطعنوا اخاك وما أراهم الا خاذليك . فقال له : هذه كتبهم معي . وهذا كتاب مسلم بن عقيل باجتماعهم . فقال له ابن عباس : ان كنت لابد فاعلا فلا تخرج أحدا من ولدك ولا حرمك ولا نسائك . فخليق أن تقتل وهم ينظرون اليك كما قتل ابن عفان . فابى ذلك ولم يقبله . قال : فلما ابى الحسين قبول رأي ابن عباس ودعه وانصرف ومضى الحسين (ع) لوجهه . وذكر الطبري عن ابي مخنف . قال ابو جناب يحيى بن ابي حية . عن عدي بن حرملة الاسدي . عن عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الاسديين . قالا خرجنا حاجين من الكوفة حتى قدمنا مكة . فدخلنا يوم التروية فاذا نحن بالحسين (ع) وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب قال فتقربنا منهما . فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين (ع) ان شئت ان تقيم أقمت فوليت هذا الامر فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك . فقال له الحسين (ع) ان ابي حدثني ان بها كبشا يستحل حرمتها فما احب ان اكون انا

الحسين في طريقه الى الشهادة 12

ذلك الكبش(25) فقال له ابن الزبير . فأقم ان شئت وتوليني انا الامر فتطاع ولا تعصى . فقال : وما اريد هذا أيضا . قالا ثم انهما أخفيا كلامهما دوننا فمازالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس متوجهين الى منى عند الظهر . قالا فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة وقص شعره وحل من عمرته . ثم توجه نحو العراق وتوجهنا نحو منى(26) قال الاستاذ علي جلال الحسيني المصري(27) . ولما رأى الحسين (ع) انه وجب عليه المطالبة بحقه في الخلافة والقيام بأمر الامة وانه قادر على ذلك وانه بصرف النظر عن طلب الولاية تعين عليه انكار الفسق والنهي عن المنكر وجهاد الظلم أجاب دعوة اهل العراق ، قال ارباب التأريخ ولقى عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير بعد خروج الحسين من مكة فقال : متمثلا ومخاطبا له .
يالك من قبـرة بمعـمـر خلا لك الجو فبيضي واصفر
ونقري ما شئت ان تنقرى هذا الحسين خارجا فـاستبشر

وقال له ابن الزبير قد خرج الحسين وخلت لك الحجاز ، اقول . لقد اتفق المؤرخون على ان الحسين خرج من مكة يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين من الهجرة ذكر سبط ابن الجوزي(28) . قال : وقد ذكر جدي في كتاب ـ التبصرة . قال : انما سار الحسين (ع) الى القوم لانه رآى الشريعة قد دثرت . فجد في رفع قواعد اصلها . فلما حصروه . قالوا : له انزل على حكم

(25) هذه من المغيبات التي ذكرها امير المؤمنين (ع) واخبر عنها . فان ابن الزبير حوصر بمكة خمسة ايام حاصره الحجاج . ثم قتل في البيت . فكان هو الكبش . وبسببه هتكت حرمة البيت . وبعد ان قتل امر بصلبه فصلب بمكة . وكان يوم الثلاء لاربع عشرة ليلة خلت من جمادي الاولى سنة 73 هجـ .
(26) انظر الطبري ج 6 ص 217 .
(27) انظر علي جلال الحسيني ـ الحسين ـ ج 2 ص 172 .
(28) انظر سبط بن الجوزي . تذكرة الخواص 154 .
الحسين في طريقه الى الشهادة 13

ابن زياد . فقال : لا أفعل واختار القتل على الذل . وهكذا النفوس الابية . ثم انشد جدي .
ولمـا رأو بعـض الحيـاة مـذلة عليهم وعز الموت غير مـذمـم
ابوا ان يذوقوا العيـش والذل واقع عليه وماتـوا ميتـة لـم تـذمـم
ولا عجـب للاسـدان ظفرت بها كلاب الاعـادى من فصيح وأعجـم
فحربـة وحشى سقت حمزة الردى وحتف علي في حسام ابن ملـجم

قال الاستاذ : محمد عبد الباقي(29) فلو بايع الحسين يزيدا الفاسق المستهتر والذي اباح الخمر والزنا وحط بكرامة الخلافة الى مجالسة الغانيات وعقد حلقات الشراب في مجلس الحكم . والذي البس الكلاب والقرود جلاجل من ذهب ومئات الالوف من المسلمين صرعى الجوع والحرمان ، لو بايع الحسين يزيدا أن يكون خليفة لرسول الله على هذا الوضع لكانت فتيا من الحسين باباحة هذا للمسلمين . وكان هذا سكوته ايضا على هذا رضى ، والرضى عن ارتكاب المنكرات ولو بالسكوت اثم وجريمة في حكم الشريعة الاسلامية . والحسين بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصية الاولى المسؤلة في جزيرة العرب بل في البلاد الاسلامية كافة عن حماية التراث الاسلامي لمكانته في المسلمين ولقرابته من رسول الله . ولكونه بعد موت كبار المسلمين . انه كبير المسلمين في هذا الوقت علما وزهدا وحسبا ومكانة . فعلى هذا الوضع أحس بالمسؤلية تناديه وتطلبه لايقاف المنكرات عند حدها . ولا سيما ان الذي يرتكب هذه المنكرات ويشجع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله هذا اولا . وثانيا ـ انه جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب وجاءه ثلاثون الفا من الخطابات من ثلاثين الفا من العراقيين من سكان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة العربيد يزيد بن معاوية . والحوافي تكرار هذه الخطابات . حتى قال رئيسهم عبد الله بن ابي الحصين الازدي

(29) انظر محمد عبد الباقي سرور من علماء الازهر ـ الثائر الاول في الاسلام الحسين ـ ص 79 طبع مصر .
الحسين في طريقه الى الشهادة 14

يا حسين سنشكوك الى الله تعالى يوم القيامة اذا لم تلب طلبنا وتقوم لنجدة الاسلام ، وكيف والحسين ذو حمية دينية ونخوة اسلامية . والمفاسد تترى امام عينه . كيف لا ولا يقوم بتلبية النداء ... وعلى هذا الوضع لبى النداء كما تأمر به الشريعة الاسلامية ، فنجا العراق كما قال الشاعر :
فجشمها نحو العراق تحفه مصاليت حرب من ذوابة هاشم

قلت ينحو نحو الشيء قصده . والعراق علم لأرض بابل ـ القطر المعروف ـ قال الخليل : العراق شاطئ البحر . وسمى العراق عراقا لانه على شاطئ دجلة والفرات مدا حتى يتصل بالبحر على طوله . قال : وهو مشبه بعراق القربة . وهو الذي يثنى منها فتخرز . وقيل سميت بذلك لاستواء أرضها حين خلت من جبال تعلو وأودية تنخفض . والعراق الاستواء في كلامهم قال الشاعر :
سقتم الى الحق معا وساقوا سياق من ليس له عراق

قال الحموي :(30) والعراق أعدل أرض الله هواء وأصحها مزاجا وماء . فلذلك كان أهل العراق هم اهل العقول الصحيحة والآراء الراجحة والشهوات المحمودة والشمائل الظريفة والبراعة في كل صناعة مع اعتدال الاعضاء واستواء الاخلاط . وسمرة الالوان . وهم الذين أنضجتهم الارحام . فلم تخرجهم بين أشقر وأصهب وأبرص كالذي يعتري ارحام النساء الصقالبة في الشقرة . ولم يتجاوز أرحام نسائهم في النضج الى الحراق . كالزنج والنوبة والحبشة . الذين حلك لونهم ونتن ريحهم وتفلفل شعرهم وفسدت آراؤهم وعقولهم . فمن عداهم بين حمير لم ينضج ومجاوز للقدر حتى خرج عن الاعتدال . قال : واقليم بابل موضع التميمة من العقل وواسطة القلادة ومكان اللبة من المرأة الحسناء والمحة من البيضة . والنقطة من «البركار» ولقد اكثر الشعراء في مدح العراق قال بعضهم :
الى الله أشكو عبرة قـد اظلت ونفسا اذا ماعزها الشـوق ذلت
تحن الى ارض العراق ودونها تنايف لو تسرى بها الريح ضلت

(30) انظر الحموي . معجم البلدان مادة عراق .
الحسين في طريقه الى الشهادة 15

وذكر المسعودي في مروجه(31) قال : ذكر ذوو الدراية أن عمر بن الخطاب (رض) حين فتح الله البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر وغير ذلك من الارض ـ كتب الى حكيم من حكماء العصر ، انا اناس عرب . وقد فتح الله علينا البلاد . ونريد أن نتبوأ الارض ونسكن البلاد والامصار . فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والاهوية في سكانها . فكتب اليه ذلك الحكيم ـ عن وصف الاقطار واعطي كل قطر صفته كالشام ومصر واليمن والحجاز والمغرب وخراسان وفارس والجبال وخوزستان والبر ووصف له العراق فقال ـ وأما العراق . فمنار الشرق وسرة الارض . وقلبها اذا تحادرت المياه وبه اتصلت النضارة وعنه وقف الاعتدال . فصفت أمزجة أهله ولطفت أذهانهم . واحتدت خواطرهم . واتصلت مسراتهم . فظهر منهم الدهاء وقويت عقولهم . وثبتت بصائرهم . وقلب الارض العراق . وهو المجتبى من قديم الزمان . وهو مفتاح الشرق . ومسلك النور . ومسرح العينين . ومدنه المدائن وماوالاها ولاهله اعدل الالوان . وانقى الروائح وأفضل الامزجة . وأطوع القرائح . وفيهم جوامع الفضائل وفوائد المبرات . وفضائله كثيرة . لصفاء جوّه . وطيب نسيمه . واعتدال تربته . واغداق الماء عليه ورفاهية العيش به ، وسأل عمر (رض) كعب الاحبار عن العراق . فقال : ان الله لما خلق الاشياء الحق كل شيء بشيء . فقال العقل : انا لاحق بالعراق . فقال العلم : وانا معك . فقال المال وأنا لاحق بالشام . فقالت الفتن : وأنا معك . فقال الخصب : وانا لاحق بمصر . فقال الذل وانا معك . فقال الفقر : وانا لاحق بالحجاز . فقالت القناعة : وانا معك . فقال الشقاء : وانا لاحق بالبوادي فقالت الصحة : وانا معك ، وقال المسعودي(32) ايضا وأوسط الاقاليم اقليم بابل . وقد كان هذا الاقليم عند ملوك الفرس جليلا وقدره عظيما . وكانت عنايتهم اليه مصروفة . وكانوا يشتون بالعراق واكثرهم

(31) انظر المسعودي . مروج الذهب ج 1 ص 370 وص 372 ، طبع دار الرجاء .
(32) انظر المسعودي . مروج الذهب ج 1 ص 374 .
الحسين في طريقه الى الشهادة 16

يصيفون بالجبال . وينتقلون في الفصول الى الصرود من الارض والحرور . وقد كان اهل المروءات في الاسلام كأبي دلف . القاسم بن علي العجلي وغيره يشتون في الحرور . وهو العراق . ويصيفون في الصرود وهي الجبال وفي ذلك يقول أبو دلف :
واني امرؤ كسروى الفعـال اصيف الجبـال واشتـو العـراقا

قال ابو القاسم الزجاجي : قال ابن الاعرابي : سمي عراقا لانه سفل عن نجد ودنا من البحر . والعراقان الكوفة والبصرة . ذكر ابن حوقل(33) قال : واما العراق فانه في الطول من حد تكريت الى عبادان وعبادان مدينة على نحر بحر فارس وعرضه من القادسية على الكوفة وبغداد الى حلوان . وعرضه بنواحي واسط من سواد واسط الى قرب الطيب . وبنواحي البصرة . من البصرة الى حدود جبى والذي يطيف بحدوده من تكريت فيما يلي المشرق حتى يجوز بحدود سهرورد وشهرزور . ثم يمر على حدود حلوان وحدود السيروان والصيمرة وحدود الطيب والسوس حتى ينتهي الى حدود جبى ثم البحر تقويس . ويرجع على حدود المغرب من وراء البصرة في البادية على سواد البصرة وبطائحها الى واسط ثم على سواد الكوفة وبطائحها الى الكوفة . ثم على ظهر الفرات الى الانبار . ثم من الانبار الى حد تكريت بين دجلة والفرات . وفي هذا الحد من البحر على الانبار الى تكريت تقويس ايضا .
وجاء في مجلة المقتطف(34) والعراق او ما بين النهرين من أخصب بلدان المسكونة تربة . فان الفرات ودجلة يحملان اليها بفيضانهما من الطمى (الابليز) كل سنة أربعة أضعاف ما يحمله النيل الى واديه . والمرجح ان تلك البلاد بلغت أوج مجدها في عهد بني ساسان . لانهم بنوا على ما خلفته لهم العصور السالفة . فان الترع المعروفة باسم نهروان وعرضها 400 قدم وعمقها 15 قدما كانت تروي كل البلاد شرقي دجلة . والترعة المسماة دجيل . كانت تروي كل البلاد الغربية .

(33) انظر ابن حوقل . صورة الارض ج 1 ص 331 طبع ليدن .
(34) المقتطف ـ المجلة ـ ج 44 ص 316 . اقتطفته من مقال فليراجع .
الحسين في طريقه الى الشهادة 17

وكان يتفرع من الفرات أربع ترع كبيرة تروي سائر البلاد . حتى قال (امبانوس مرسليانوس) : الذي طاف فيها في القرن الخامس . انها روضة غناء من طرف الى طرف . ثم دوخ العرب تلك البلاد في القرن السابع فوجدوها لا تزال في أوج مجدها . ومصروا فيها الكوفة والبصرة وواسط بدل عواصمها القديمة . وبنوا بغداد(35) فصارت دار الخلافة ولا تزال الى يومنا هذا اكبر مدن العراق . وفاقت بغداد عواصم الدنيا في زمن الرشيد(36) والمأمون(37) . ثم انحط العراق رويدا رويدا . واجهز عليه المغول في زمن (جنكيز خان) والتتار في زمن «تيمور لنك» في القرن الثالث عشر فخربت كل أعمال الري العظيمة حتى لم يبق منها واحد . فزال سد نمرود من دجلة فهبط ماؤه 25 قدما وبطل جريان الماء في ترعتي النهروان ودجيل(38) وأمست ضفاف دجلة العالية قفارا قاحلة . سوى التي تزرع على ماء المطر «ديما» وخربت ضفته اليسرى فما يلي تخوم العجم . ولم تعد مياهه تنصب في البطائح والمستنقعات . ولولا الاعتماد على زرع الارز الذي تصلح له الارض العامرة لما بقي في البلاد زرع يذكر . ومساحة أراضي العراق 12 ميلون فدان . واذا جادت السماء بمطرها زرعت السهول على الجانبين شعيرا لأنها سهول فيحاء لا تحتاج لنمو الزرع فيه الا الى الماء . وزد على ذلك فان النخل ينمو في كل

(35) بغداد . بناها المنصور العباسي الدوانيقي . وبدأ بانشائها سنة 145 هجـ . وقد انفق على بناء المدينة وجامعها وقصر الذهب فيها والابواب والاسواق . اربعة آلاف الف وثمانماية وثلاثة وثمانين الف درهم . وللشعراء فيها مدح كثير . انظر ابن الخطيب تاريخ بغداد .
(36) هو هارون الرشيد بن المهدي الخليفة العباسي توفي في طوس 3 جمادي الاخرة سنة 193 .
(37) المأمون بن الرشيد . مات على نهر البذ ندون 17 رجب سنة 218 .
(38) حتى اليوم لم يجر فيها الماء وتظهر للناظر بعض آثارهما وبعض القناطر على حالتها حتى اليوم . وقفت على بعضها مرارا . وقد تغيرت مجاري المياه واحدثت حكومتنا العربية بعض السدود والجسور ولم تزل مديرية الري دائبة بأعمال الري والزراعة .
الحسين في طريقه الى الشهادة 18

جزيرة العراق ـ أي على ضفاف دجلة والفرات . ولا يقل عدد ما فيه منها عن عشرة ملايين نخلة(39) والمواشي كثيرة في العراق وهي من أجود الانواع . والارض منبسطة لا تحتاج الى تقصيب . وهي صفراء اللون وفيها كثير من الجير «الكلس» ولذاك يسهل اصلاحها وحرثها وتنعيمها . وتكثر الان انجم عرق السوس والنباتات الشائكة من الفصيلة القرنية . وفي المستنقعات أشجار الحور والصفصاف .
(الميامين) مفردها ميمون . وهو ذو اليمن والبركة . جمعه ميامين . و(الورى) . أي الخلق . وابو الورى كنية الدهر . فأصحاب الحسين (ع) وايم الحق هم ميامين هذا الخلق والصفوة من الناس وقتئذ . وقد صحبوا الحسين (ع) في سفره الى العراق ولم يفارقوه حتى رزقوا الشهادة بين يديه رضوان الله عليهم . قال فيهم الازري (ره)(40) .
هم الاسود ولكن الوغـى أجسم ولا مخــالب غير البيض والسمر

وقال آخر :
واذا الجدب جـاء كانوا غيوثا واذا النقع ثار ثاروا اسودا

(39) ان عدد النخل في عصرنا يعد باضعاف ما ذكر . وقد افردت كتابا فيه اسميته «النخلة» مخطوط وقد قرأت في مجلة الزراعة العراقية أن في العراق هذا الوقت نحوا من خمس وثلاثين مليون نخلة وربما يعادل ثلث ما في العالم من النخيل ويذكرون ان اكبر بقعة يكثر فيها النخل العراق ، ويكثر النخل في وسط العراق وجنوبه . والاولوية التي يكثر فيها النخل هي لواء الحلة وكربلاء والديوانية والمنتفك والبصرة واكثره في لواء البصرة حيث بها اليوم ما ينوف على العشرة ملايين نخلة وربما يصدر العراق الى الخارج اكثر من ثلثماية الف طن سنويا من ثمرة غير الذي يستهلك داخل القطر .
(40) هو المغفور له الشيخ كاظم بن الحاج محمد بن الحاج مراد بن الحاج مهدي بن ابراهيم بن عبد الصمد بن علي التميمي الازري البغدادي شاعر العراق وقتئذ . توفي غرة جمادي الاولى 1211 هجـ وقبره في الكاظمية في البيت الذي دفن فيه علم الهدى السيد المرتضى .
الحسين في طريقه الى الشهادة 19

وكأن الاله قال لهم في الـ ـحرب كونوا حجارة أو حديدا

وللسيد حيدر الحلي (ره)
سمة العبيـد من الخشوع عليهم لله ان ضمتـهم الاسحـار
واذا ترجلت الضحى شهدت لهم بيض الصوارم أنهم أحرار

وكأن الشاعر الاندلسي عناهم بقوله :
ساروا فودعهم طرفـى وأودعهم قلبي فما بعدوا عنـي ولا قربوا
هم الشموس ففـي عينـي اذا طلعوا في القادمين وفي قلبي اذا غربـوا
* * *
وقد أتى بسَيره منازلاً حصباؤها قد فاخرت شهب السما

قلت . آتى الحسين (ع) في طريقه الى العراق منازل مشهورة معروفة محدودة . فبعضها اجتازها ولم ينزل بها . والبعض بات بها ليلته . وبعضها قال بها . أي (حل بها وقت القيلولة) وظعن منها الى غيرها . وعددها كما ذكرناه في «المقصورة» . قال أرباب السير . ولما خرج الحسين (ع) من مكة اعترضه يحيى ابن سعيد(1) بن العاص ومعه جماعة . كان قد أرسلهم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص الاشدق فقالوا له انصرف والا منعناك فابى عليهم الحسين (ع) ومضى . قال : وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط . وامتنع الحسين (ع) واصحابه امتناعا قويا . وذكر الطبري(2) عن ابي مخنف . قال : حدثني الحارث بن كعب الوالبي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع). قال لما خرجنا من مكة كتب عبد الله ابن جعفر بن ابي طالب (ع) الى الحسين بن علي مع ابنيه عون ومحمد(3) . اما بعد فاني أسألك بالله . لما انصرفت عن هذا الوجه حين تنظر في كتابي هذا . فاني

(1) يحيى بن سعيد . هو اخو عمرو بن سعيد الاشدق . الوالي على مكة من قبل يزيد بن معاوية .
(2) انظر ابن جرير الطبري . ج 6 ص 219 .
(3) عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر بن ابي طالب (ع) امهما زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (ع) قتلا مع خالهما الحسين يوم الطف .
الحسين في طريقه الى الشهادة 20

مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له . أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك . ان هلكت اليوم طفئ نور الارض فانك علم المهتدين ورجاء المؤمنين . فلا تعجل بالمسير فاني اثر الكتاب والسلام . قال : وقام عبد الله بن جعفر الى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه . وقال : اكتب الى الحسين (ع) كتابا تجعل فيه الامان وتمنيه فيه البر والصلة وتوثق له في كتابك وتسأله الرجوع لعله يطمئن الى ذلك فيرجع . فقال له عمرو . اكتب ما شئت واتني به حتى اختمه . فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب ثم اتى به عمرو وقال : اختمه وابعث به مع أخيك يحي . فانه أحرى أن تطمئن نفسه اليه . ويعلم انه الجد منك ففعل . قال : فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب . فقالا أقرأناه الكتاب وجهدنا به فكان مما اعتذر به الينا أن قال : اني رأيت رؤيا فيها رسول الله وامرت فيها بأمر أنا ماض له علي كان أولى . فقالا له وما تلك الرؤيا ؟ قال ما حدثت أحدا بها وما انا محدث بها حتى ألقى ربي . قال : وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين ابن علي ما نصه ـ بسم الله الرحمن الرحيم . من عمرو بن سعيد الى الحسين ابن علي بن أبي طالب . أما بعد . فاني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك . وأن يهديك لما يرشدك . بلغني أنك قد توجهت الى العراق . واني اعيذك بالله من الشقاق . فاني أخاف عليك فيه الهلاك . وقد بعثت اليك عبد الله بن جعفر ويحيى ابن سعيد فاقبل الي معهما . فان لك عندي الامان والصلة والبر وحسن الجوار لك الله علي بذلك شهيد وكفيل ومراع ووكيل والسلام عليك . قال : فكتب اليه الحسين (ع) اما بعد . فانه لم يشاقق الله ورسوله من دعا الى الله عز وجل وعمل صالحا . وقال : انني من المسلمين . وقد دعوت الى الامان والبر والصلة فخير الامان . أمان الله . ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا . فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا امانه في يوم القيامة . فان كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجزيت خيرا في الدنيا والاخرة والسلام . ثم ان الحسين (ع) جد بسيره حتى انتهى الى بستان بن عامر وهو أول منزل لمن يفصل من مكة المكرمة على هذا الطريق .

الحسين في طريقه الى الشهادة 21

فالمنزل الأول بستـان ابن عا مر وللتنعيم مسرعاً أتى

لما فصل الحسين (ع) من مكة المعظمة زاد الله شرفها وتعظيمها . كان اول منزل مرّ به هو (بستان ابن عامر) وقيل بستان ابن معمر ذكر الحموي(1) في معجمه قال : ـ بستان بن معمر ـ مجتمع النخلتين النخلة اليمانية والنخلة الشامية وهما واديان . والعامة يسمونه بستان ابن عامر وهو غلط .. قال الاصمعي وابو عبيدة وغيرهما بستان بن عامر انما هو لعمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب . ولكن الناس غلطوا فقالوا بستان ابن عامر وبستان بنى عامر وانما هو بستان بن معمر . وقوم يقولون نسب الى حضرمي بن عامر وآخرون يقولون نسب الى عبد الله بن عامر بن كريز . وكل ذلك ظن وترجيم . وذكر ابو محمد عبد الله بن محمد البطليوسي في شرح كتاب ادب الكاتب فقال : وقال يعني ابن قتيبة(2) ويقولون بستان ابن عامر وانما هو بستان ابن معمر .. وقال البطليوسي بستان ابن معمر غير بستان ابن عامر وليس احدهما الاخرى . فاما بستان ابن معمر فهو الذي يعرف ببطن نخلة . وابن معمر هو عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي . واما بستان ابن عامر فهو موضع آخر قريب من الجحفة وابن عامر هذا هو عبد الله بن عامر بن كريز استعمله عثمان على البصرة وكان لا يعالج أرضا الا انبط بها الماء . ويقال ان اباه أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اني لمسقي فكان لا يعالج أرضا الا أنبط فيها الماء وقال الازرقي(3) فان بستان ابن معمر في ملتقى النخلتين الشامية واليمانية . اما البستان القريب من مزدلفه فهو بستان ابن عامر يتصل بثنية ابن كريز ويسمى «ذو النخيل» قلت مر الحسين بظعنه مجدا حتى وافى التنعيم .

(1) انظر ياقوت الحموي ـ المعجم ـ ج 2 ص 170 .
(2) هو ابو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكوفي المروزي ولد بالكوفة سنة 213 وتوفي ببغداد سنة 276 هجـ .
(3) انظر محمد بن عبد الله بن احمد الازرقي . اخبار مكة ج 2 ص 236 طبع مصر .
الحسين في طريقه الى الشهادة 22

(التنعيم) . بفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وياء ساكنة وميم . موضع في الحل . وهو بين مكة وسرف(4) على فرسخين من مكة وقيل على أربعة فراسخ . وقال : عبد المؤمن مفتي الحنابلة بالشيرية . لا خلاف بين الناس انه على ثلاثة اميال من مكة ، وهو أقرب أطراف الحل الى البيت . وسمي بذلك لان جبلا عن يمينه . يقال له نعيم . وآخر عن شماله . يقال له ناعم . والوادي نعمان . وبالتنعيم مساجد وسقايا ، ومنه يحرم المكيون بالعمرة وكان على نعيم وناعم علمان قديمان قال الفاسي : بعد ان ذكر أنصاب الحرم . وان نصبها اسماعيل ثم عدنان ابن أدّ ثم نصبها محمد المهدي العباسي وفي خلافة الراضي العباسي عمر العلمان الكبيران اللذان في جهة التنعيم بالارض لا بالجبال وذلك سنة 325 هجـ(5) . وذكره النميري بشعره قال :
فلم تـر عينـي مثـل سرب رأيته خرجن من التنعيـم معتـمرات
مـررن بفـخ ثم رحـن عشيـة يلبين للرحمـن مـؤتـجـرات
فأصبح ما بيـن الاراك فـحـذوه الى الجذع جذع النخل والعمرات
له أرج بالعنبـر الغـضّ فـأغـم تطـلـع ريـاه من الـكفـرات
تضوّع مسكا بطن نعمان ان مشت به زينب في نسـوة عـطـرات

وقال المهلهل : يرثي كليبا ويذكر الانعمين(6) :
بـات ليلي بالانعمين طويلا أرقب النجم ساهرا ان يزولا
كيف اهدى ولا يزال قتيل من بني وائل ينسـى قتـيلا(7)

(4) قال ياقوت . سرف . موضع على ستة اميال من مكة . وقيل سبعة وتسعة واثنى عشر . تزوج به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة بنت الحارث وهناك بنى بها . وهناك توفيت . قال عبيد الله بن قيس الرقيات .
لـم تكلم بالجهلتين الرسوم حـادث عهـد أهلها ام قديم
سرف منزل لسلمة فالظـ ـهران منها منازل فالقصيم
وسرف فلا يدخله الالف واللام انظر معجم البلدان ج 5 ص 71 .
(5) انظر حسين عبد الله باسلامه ـ تاريخ عمارة المسجد . جده .
(6) الانعمان . ثنية أنعم . موضع بناحية نعمان . وهو وادي التنعيم .
(7) انظر النويري . نهاية الارب ج 15 ص 400 .
الحسين في طريقه الى الشهادة 23

وللابيوردي(8) يذكر نعمان بنجدياته قوله :
نـزلنـا بنعمـان الاراك وللنـدى سقيط به ابتلت علينا المطـارف
فبت اعانـي الوجـد والركب نوم وقد اخذت مني السرى والتنائف
واذكر خودا ان دعاني على النوى هواها اجابته الـدموع الذوارف
لهـا في مغاني ذلك الشعب منزل لئن انكرته العين فالقلب عارف
وقفـت بـه والدمـع اكثـره دم كأني من جفنـي بنعمان راعف

وذكر البكري(9) التنعيم على لفظ المصدر من نعمته تنعيما . وهو بين مر وسرف . بينه وبين مكة فرسخان . ومن التنعيم يحرم من أراد العمرة . وهو الذي أمر رسول الله (ص) عبد الرحمن بن ابي بكر (رض) أن يعمر منه عائشة . وانما سمي التنعيم . لان الجبل الذي عن يمينه . يقال له ناعم . والوادي . نعمان . وروى يوسف بن ماهك . عن حفصة بنت عبد الرحمن بن ابي بكر عن ابيها . ان رسول الله (ص) قال له : يا عبد الرحمن اردف اختك عائشة فاعمرها من التنعيم . فاذا هبطت بها من الاكمة فلتحرم فانها عمرة متقبلة ، وفي مراصد الاطلاع(10) قلت لاخلاف بين الناس انه على ثلاثة اميال من مكة . وفي التنعيم . قتل زيد بن الدثنة . وصلب خبيب بعد واقعة يوم الرجيع في غزاة هذيل وكان قد بعث رسول الله سرية الى غزو هذيل . قال ابن هشام(11) وأما زيد بن الدثنة . فابتاعه صفوان ابن امية ليقتله بأبيه امية بن خلف . وبعث به صفوان بن امية مع مولى له ـ نسطاس الى التنعيم . واخرجوه من الحرم ليقتله . واجتمع رهط من قريش . منهم ابو سفيان بن حرب فقال له ابو سفيان حين قدم ليقتل : انشدك

(8) هو ابو المظفر محمد بن العباس . بنتهي نسبه الى معاوية الاصغر توفي في 20 ع 571 هـ باصفهان ـ ابن خلكان ـ .
(9) انظر الوزير البكري . معجم ما استعجم ص 200 طبع اوربا .
(10) انظر مراصد الاطلاع ج 1 ص 216 طبع اوربا .
(11) انظر محمد بن عبد الملك ابن هشام ج 3 ص 164 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي