جهاد الإمام السجاد عليه السلام


جهاد الإمام السجاد

زين العابدين
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب
عليهم السلام




تأليف السيد محمد رضا الحسيني الجلالي



جهاد الامام السجاد عليه السلام 9

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمد الرسول الصادق الأمين ، وعلى الأئمة الأطهار المعصومين من آله الأكرمين وعلى التابعين لهم بإحسان الى يوم الدين.

لماذا هذا الكتاب ؟

كثيرة تلك الكتب والمؤلفات التي كتبت حول الإمام السجّاد ، عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، زين العابدين عليه السلام المولود عام (38) والمتوفى عام (95) من الهجرة.
وقد عني مؤلّفوها بجوانب من حياته الكريمة لتزويد الأمة بثرواتها من مكارم الأخلاق والآداب ، والمعارف والعلوم والآثار ، وما في تاريخه من عظات وعبر وجهاد وجهود ، ليستنير أمامها درب الحياة ، للوصول الى السعادة الدنيوية والأخروية.
لقد تبارى في هذا الموضوع الرحب مؤلّفون قدماء ، كما شارك في حلبته مؤلفون في عصرنا الحاضر.
وفي المؤلفين الجدد من استهدف تاريخ الإمام ، ودراسة حوادثه على أساس من المقارنة بين الأسباب والمسبّبات ، ليقتنص حقائق ثابتة ، مدعومة بالادلة ، من بطون المصادر والحوادث التاريخية.
ولقد فوجئت بأنّ عدّة من الدارسين من هذا القبيل ، اتفقوا ـ أو كادوا ـ على مقولة معيّنة في ما يرتبط بواقع الحركة الساسية في حياة الإمام السجّاد عليه السلام.
فهم يؤكّون على إبعاد الإمام عن « الجهاد السياسي » ويفرّعون حياته من كلّ

جهاد الامام السجاد عليه السلام 10

أشكال العمل السياسي.
بالرغم من اختلاف اتجاهاتهم الفكرية وانتمائاتهم الدينية : ففيهم السنّي ، والعلماني ، والشيعي و الزيدي ، بل الإمامي الاثنا عشري !
وهم يحسبون الإمام قائما بدور المعلم ـ فحسب ـ في تربية الطليعة المثقّفة والواعية ، بعيدا عن الصراع السياسي ، ومنصرفا عن أيّ تحرّك معارض للأنظمة الحاكمة ، ويحّددون واجباته بالإعداد الثقافي للاُمة ، والتحصين لها عقائديا ، وفقط ‍‍!
وحاول بعضهم إجراء هذا الحكم على الأئمة بعد الإمام السجاد عليه السلام ، وفرضهم سائرين على منهج واحد ، او يؤدّون دورا ، بعينه.
ولنقرأ معا بعض ما كتبوه في هذا الصدد :
تقول كاتبة جامعية : افتقدت الشيعة ـ بمصرع الحسين ـ الزعيم الذي يكون محورا لجماعتهم وتنظيمهم ، والذي يقودهم الى تحقيق تعاليمهم ومبادئهم ، وانصرف الإمام علي زين العابدين عن السياسة الى الدين ، وعبادة الله عز وجل ، وأصبح للشيعة زعيما روحيا ، ولكنّه لم يكن الثائر السياسي الذي يتزعّم جماعة الشيعة ، حتى أنّه آثر البقاء في المدينة طوال حياته.
وحاول المختار بن أبي عبيدة الثقفي أن ينتزع عليا من حياة التعبد ، والاشتغال بالعلم الى ميادين السياسة ، دون جدوى ! (1)
ويقول كاتب شيعي : كانت فاجعة مقتل أبيه التي شاهدها ببصره أقسى من أن تتركه يطلب بعد ذلك شيئا من إمارة الدنيا ، أو يثق في الناس ، أو يشارك في شأن من شؤون السياسة ، اعتكف على العبادة... (2).
ويقول كاتب سنيّ : لكن الإقبال على الله واعتزال شؤون العالم... كان منهجه في حياته الخاصة ، وطابعه الذي طبع به التشيع الأثني عشري ، فاتجه الى الإمامة

(1) جهاد الشيعة للدكتورة الليثي ( ص 29 ).
(2) نظرية الإمامة ، لصبحي ( ص 349 ) عن كاظم جواد الحسيني : حياة الإمام علي بن الحسين ( ص320 ) ، وانظر ثورة زيد لناجي حسن ( ص 30 ـ 31 )..
جهاد الامام السجاد عليه السلام 11

الروحيّة مبتعدا عن طلب إمامة سياسية (1).
ويقول كاتب يمنيّ : وفي تاريخ الشيعة ـ كذلك ـ نشأت نظرات متخاذلة ، تولّدت من شعور بعض العلويين وأنصارهم بالهزيمة الداخلية ، وقلة النصير ، وفجعتهم التضحيات الكبيرة التي قدّموها ، ففضّلوا السلامة.
وقد وطّدت معركة كربلاء من هذا الاتجاه ، إذ كان تأثيرها مباشرا على علي بن الحسين الذي ابتعد ـ من هول الفجيعة ـ عن السياسة ، ونأى بنفسه عن العذاب الذي عاناه من سبقه ، وعلى قريب من هذا النهج سار ابنه محمد ، وحفيده جعفر (2).
وفي أحدث محاولة لتقسيم أدوار الأئمة عليهم السلام ، جُعلت حصّة الإمام السجّاد عليه السلام « الدور الثاني » وهو الذي امتدّ منذ زمانه حتى زمان الإمام الباقر والصادق عليهما السلام ، وهو : بناء الجماعة المنطوية تحت لوائهم.
ويشرح واحد من أنصار هذه المحاولة هذا الدور بقوله : والمرحلة الثانية التي بدأها الإمام الرابع ، زين العابدين عليه السلام ، تتركّز مهمّة الأئمة عليهم السلام فيها : على حماية الشريعة ومقاومة الانحراف الذي حدث في جسم الامة على يد العلماء المزيّفين والمنحرفين ،... ، ولذلك نرى حرص الأئمة في « المرحلة الثانية » على الابتعاد عن الصراع السياسي ، والانصراف الى بثّ العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين وتخريج العلماء والفقهاء على أيديهم ، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية... (3)
ويقول : إنّ الإمام أراد أن تكون زعامته للاُمة ، زعامة دينية ، وأن تصطبغ نشاطاته بصبغة روحية علمية ، فكانت زعامته في الاًمّة تختلف عن زعامة الأئمة قبله ، حيث كانوا يصارعون الدولة ، ويقصدون الإصلاح ، ويقارعون الظالمين.
فكانت الطريقة التي عاش بها الإمام زين العابدين والظواهر التي برزت في حياته لا تسمح بزعامته إلاّ أن تكون دينية وروحية وعلمية ، وأن يكون قدوة صالحة في

(1) نظرية الإمامة ( ص 349 ) وانظر ( 351 ) ـ وانظر : الفكر الشيعي والنزعات الصوفية ، للشيبي ( ص 17 ) والصلة بين التصوف والتشيع ، له ( ص 104 و 147 )..
(2) معتزلة اليمن ( ص 17 ـ 18 ).
(3) الإمام السجاد ، لحسين باقر ( ص 13 ـ 14 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 12

المجال التربوي والمعيشة الربانية ، لا في مجالات التضحية والجهاد !
فكانت حياته بطولات في ميادين الجهاد الأكبر ـ جهاد النفس ـ لا الجهاد الأصغر ـ جهاد الأعداء ـ (1)..
وزاد في تعميق المفاجأة : عندما وجدتُ هؤلاء ـ جميعا ـ قد أغفلوا أمرا واحدا وهو تحديد « السياسة» التي أدّعوا أنّ الإمام : « ابتعد عنها» أو « انصرف عنها» أو «زهد فيها» أو « لم يشارك فيها» أو « انعزل عن ساحتها» الى غير ذلك من التعابير المختلفة.
واذا كانت في زعامة العباد ، وتدبير امور البلاد (2) فهي داخلة في معنى « الإمامة » التي لا بد أن نفرضها للإمام أو ـ على الأقل ـ نفرضها له عندما نتحدّث عنه من حيث كونه إماما.
وإذا كانت الإمامة متضمنّة للسياسة ، فكيف يريد الإمام أن يبتعد عنها ؟.
أو يريد الكُتّاب أن يفرضوا فراغ إمامته عنها ؟.
أو حصرها بالزعامة الروحية والعلمية ، فقط ؟.
وفي خصوص الإمام زين العابدين عليه السلام : كانت المفاجأة أعمق أثرا ، عندما لاحظت أنّ المصادر القديمة والمتكلفة لذكر حياة الإمام عليه السلام تعطي ـ بوضوح ـ نتيجة معاكسة لما شاع عند هؤلاء الكُتّاب ، وهي :
أنّ الإمام عليه السلام قد قام بدور سياسي فعّال ، وكان له تنظيم وتخطيط سياسي دقيق ، يمكن اعتباره من أذكى الخطط السياسية المتاحة لمثل تلك الظروف العصبية الحالكة.

(1) الإمام السجاد ، لحسين باقر ( ص 63 ) وانظر خاصة ( ص 91 ـ 93 ). ويلاحظ : أن جهاد النفس ليس من شؤون الإمامة ، ولا الإمام فقط ، بل إنمّا هو واجب عام على كل من آمن بالله ، وأراد الجنة !.
(2) يلاحظ أن التصدي للحكام غير الشرعيين يعتبر داخلا في هذا المعنى للسياسة ، حتى في العرف المعاصر. وسيأتي في ( التمهيد ) تحديدنا للسياسة التي ندّعي أنّ للإمام زين العابدين « جهادا وجهودا » في سبيل تحقيقها.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 13

و وقفت على شواهد عينية من التأريخ تدل على أن « الجهاد السياسي » الذي قام به الإمام السجاد عليه السلام من أجل تنفيذ خططه يعدّ من أدق أشكال العمل السياسي ، وأنجحها.
فكان ان قصدت الى تأليف هذا الكتاب ليجمع صورا من تلك الشواهد والعيّنات :
فمهّدت بحثين يعتبران منطلقا أساسيا لما يلي من بحوث في الكتاب ، وهما :
1 ـ البحث عن الإمامة ، وتعريفها ، وما تستلزمه من شؤون.
2 ـ البحث عن إمامة الإمام زين العابدين عليه السلام وإثباتها.
ثم دخلت في الفصول ، وهي :
الفصل الأول : أدوار النضال في حياة الإمام عليه السلام : في كربلاء ، وفي الأسر وفي المدينة.
الفصل الثاني : النضال الفكري والعلمي في مجالات : القرآن والحديث ، والعقيدة والفكر ، والشريعة والأحكام.
الفصل الثالث : النضال الأجتماعي والعملي في مجالات : التربية والأخلاق والإصلاح وشؤون الدولة ، ومناهضة الفساد الأجتماعي في أشكال : العصبية ، والفقر ، والرقّ.
الفصل الرابع : مظاهر فذّة في حياة الإمام : الزهد والعبادة ، والبكاء ، والدعاء.
الفصل الخامس : مواقف حاسمة في حياة الإمام : من الظالمين ، ومن أعوان الظالمين ، ومن الحركات السياسية المعاصرة له.
وختمه بذكر نتائج البحث.
راجيا أن يؤدي دورا في تصحيح الرؤية التي انطلت على أُولئك الكُتاب.
وفي بلورة ما اُريد عرضه على صفحات هذا الكتاب.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 14

وقد يسّر الله جلّ جلاله لي بفضله ومنّه العمل في الكتاب منذ فترة تأليفه سنة (1413) وحتى صدور هذه الطبعة المزدانة بمزيد من التدقيق ، فراجعت المزيد من المصادر والمراجع ، وأخذت بنظر الاعتبار ما لوحظ على الكتاب فزاد من الثقة به ، برفع الأخطاء المطبعية التي تلازم طبيعة العمل البشري ، ومن الله التوفيق.

حُرّر في الخامس والعشرين
من شهر محرّم الحرام سنة 1417 هـ
والحمد لله أوّلا وآخرا
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني
الجلالي



جهاد الامام السجاد عليه السلام 15

التمهيد
وفيه بحثان


البحـث الأول: ألإمـامة ، ومستلـزمـاتهـا
البحث الثاني : إمامة زين العابدين عليه السلام

جهاد الامام السجاد عليه السلام 16




جهاد الامام السجاد عليه السلام 17

التمهيد :

البحث الأول : الإمامة ومستلزماتها


الإمامة : هي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا (1) والإمام : هو الذي له هذه الرئاسة (2).
وقال الشيخ المفيد : الإمامة في التحقيق على موضوع الدين واللسان : هي التقدّم في ما يقتضي طاعة صاحبه والاقتداء به في ما تقدّم به (3).
وقد عرّفها القاضي الآبي ـ من متكلّمي الإمامية ـ بقوله : الإمامة : التقدّم لأمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (5).
فإذا كانت الإمامة بهذه السعة في شمول نفوذها ، وهي كذلك عند المسلمين الشيعة ، الذين يعتقدون بإمامة السجاد عليه السلام ، فلا يمكن أن تفرّغ من « السياسة » فضلا

(1) شرح المواقف ، للجرجاني ( 8 : 345 ) وانظر أنوار التمام لأحمد زبارة المطبوع مع الاعتصام ( 5 : 404 ).
(2) التعريفات ، للجرجاني ( ص 16 ).
(3) الإفصاح ، للمفيد (ص 27 ).
(4) الحدود والحقائق ( ص 15 رقم 16 ).
(5) النكت الاعتقادية ( ص 53 ) جواب السؤال (91).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 18

عن أن يكون للإمام نفسه التخلّي عنها ، واعتزالها.
خصوصا إذا لاحظنا رأي الشيعة في الإمامة ، فهم يعدّونها من الاصول الاعتقادية ، ويعظّمون شأنها ، فيلتزمون بوجوب النص عليها من الله تعالى ، باعتبار أنّ العلم بتحقّق شروطها ، لا يكون إلاّ ممن يعلم الغيب ويطّلع على السرائر وليس هو إلاّ الله تعالى (1).
ولذلك : اختصّت الإمامة عند الشيعة بهالة من القدسية ، وبإطار من العظمة ، وبوفرة من الاهتمام ، تجعلها عندهم بمنزلة النبوّة في المسؤوليات ، إلاّ أن النبوّة تمتاز بالوحي المباشر من الله تعالى ، وقد استوحوا هذه المنزلة من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبّي بعدي » (2) الحديث الذي يعتبر من أدلة إمامة علي عليه السلام.
وقد جاء التعريف الجامع للإمامة ـ على رأي الشيعة الإمامية ـ في حديث الإمام الرضا علي بن موسى بن جعفر عليهم السلام ، حيث قال :...
إن الإمامة هي منزلة الأنبياء ، وإرث الأوصياء.
إن الإمامة خلافة الله عزّ وجلّ ، وخلافة الرسول ، ومقام أمير المؤمنين...
إن الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعزّ المؤمنين.
الإمامة اُسّ الإسلام النامي ، وفرعه السامي
، الى آخر كلامه في ذكر الإمام

(1) الافصاح للمفيد ( ص 27 ) وانظر الأحكام للهادي إلى الحق ( 2 : 460 ـ 461 ) وإكمال الدين للصدوق ( ص 9 ).
(2) حديث « المنزلة » من المتواترات ، قاله الكتاني في نظم المتناثر ( ص 195 رقم 233 ) وأورده من حديث ثلاث عشرة نفسا ، وقال : قد تتبع ابن عساكر طرقه في جزء ، فبلغ عدد الصحابة فيه نيفا وعشرينا.
وفي ( شرح الرسالة ) للشيخ جسوس : حديث « انت مني بمنزلة هارون من موسى » متواتر جاء عن نيف وعشرين صحابيا.
وقد رواه من أصحاب الكتب : البخاري في صحيحه ( 4 : 208 ) و ( 5 : 129 ) ومسلم في صحيحه ( 2 : 360 ) وأحمد في مسنده ( 1 : 173 ) وانظر الاعتصام ( 5 : 390 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 19

وأوصافه ، وواجباته (1).
ومن يُنكر أن تكون السياسة من صميم شؤون النبوّة ، ومسؤوليات النبيّ المهمة ؟ !
وأنى تُبعد السياسة من اهتمامات نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم ؟.

وقد اتفق الزيدية مع الإمامية على مجمل الذي ذكرناه ، إلاّ أنهم عبّروا عن شرط الإمامة ، بالخروج ، وأضافوا : الدعوة الى نفسه (2).
ومذهبهم : أن كلّ فاطمي ، خرج وهو عالم ، زاهد ، شجاع ، سخيّ ، كان إماما واجب الاتباع (3).
وأضاف بعضهم : أن يكون قائما ، شاهرا لنفسه ، رافعا لرايته (4) وهو المراد بشرط الدعوة الى نفسه.
والمراد بالخروج واضح ، وهو إعلان العصيان على الحكومات الجائرة ، الغاصبة للسلطة ، وعدم الانقياد لحكمها.
وقد أدخل متأخّرو الزيدية كلمة « السيف » على هذا الشرط ، فعبّروا عنه بـ « الخروج بالسيف » (5).
ولعله باعتبار ملازمة الخروج للمقاومة ، التي لا تخلو من مقارعة بالسيف ! ولذلك لم تخل حالات الخروج المعروفة في التاريخ من استعمال السيوف ووقوع ضحايا وشهداء !!
أما لو اقتصرنا على مدلول « الخروج » الذي فسّرناه ، فلم يختلف المذهب الزيدي عن الإماميّ ، في الخروج على حكم السلطات وعدم الاعتراف بالحكّام غير

(1) أورده الصدوق في الأمالي ( ص 536 ـ 540 ) وهو تمام المجلس (97) وهو آخر مجلس في الكتاب.
(2) الملل والنحل ، للشهرستاني ( 1 : 156 ) وانظر ( ص 154 ).
(3) الملل والنحل ، للشهرستاني ( 1 : 27 ).
(4) المجموعة الفاخرة ، ليحيى بن الحسين ( ص 219 ).
(5) لاحظ أوائل المقالات للمفيد ( ص 44 ) ومعتزلة اليمن ( 17 ـ 18 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 20

الشرعيين ، ورفض كل أشكال التحكّم الخارج من إطار الإمامة الحقّة.

وأمّا بناءا على الالتزام الخروج بالسيف شرطا في الإمامة فإنّ الإمام علي بن الحسين السجّاد ، وأبناءه الأئمة عليهم السلام لم يقوموا بدور علنيّ في هذا المجال ، حتى نُسِبَ إليهم معارضة كلّ حركة مسلّحة ضدّ الأنظمة الحاكمة !
ولكنّ هذه التهمة بعيدة عن ساحة الأئمة عليهم السلام :
أولا : لأن عمل الأئمة : علي والحسن والحسين عليهم السلام في قياداتهم للحروب واشتراكهم في المعارك ، هو الحجّة عند الشيعة ، ويكفي دليلا على بطلان هذه التهمة ، لأن الإمامة شأنها واحد ، فلو كان للأئمة السابقين أن يقوموا بعمل مسلّح ، فمعناه جواز ذلك للاّحقين ، وأن ذلك لا ينافي الإمامة.
فنسبة معارضة الحركة المسلّحة الى أيّ إمام ثبتت إمامته ، وكان مستجمعا لشرائطها ، نسبة باطلة ، فكيف تجعل دليلا على نفي الإمامة عن أحد ؟
وثانيا: إن الإمام السجّاد عليه السلام هو في أوّل القائمة التي وجهّت إليها هذه التهمة ، مع أنّا نجد موقفه من « السيف» ينافي هذه التهمة تماما ويبطلها ، فهو في الحديث التالي يعتبر « إشهار السيف» عملا لمن هو «سابق بالخيرات».
ففي تفسير قوله تعالى :« ثمّ أوْرَثْنا الكتاب الّذين اصْطفيْنا منْ عِبادنا فَمنهمْ ظالمٌ لِنفسِه ومنْهم مقْتَصِدٌ ومنْهم سابقٌ بِالخيْرات بإذن اللهِ ذْلك هوَ الفضْلُ الكبير»[ فاطر : 35 ـ الآية 32 ].
قال عليه السلام : نزلت ـ والله ـ فينا أهل البيت ـ ثلاث مرات ـ.
قال الراوي : أخبرنا : من فيكم الظالم لنفسه ؟
قال عليه السلام : الذي استوت حسناته وسيئاته ، وهو في الجنة.
قال الراوي : والمقتصد ؟
قال عليه السلام : العابد لله في بيته حتى يأتيه اليقين.
قال الراوي : فقلت : السابق والخيرات ؟

جهاد الامام السجاد عليه السلام 21

قال عليه السلام : من شهر سيفه ، ودعا الى سبيل ربه. (1)
فاعتقاد الإمام السجّاد عليه السلام أنّ الفضل والسبق يتحقّق بإشهار السيف ، يقتضي بطلان نسبة معارضة الحركة المسلحة إليه عليه السلام.
وثالثا : إنّ هذا الشرط « الخروج بالسيف» ليس شرطا على إطلاقه ، وليس قابلا لأن يكون شرطا للإمامة كذلك.
ومن ثمّ ، فإن التهمة المذكورة مردودة وباطلة.

وقد يكون من قلّل من شدّتها وحدّتها ، فعمد الى تخفيفها ، وعبّر عنها بدعوى « عدم صحة الإمامة لو أرخى الإمام ستره ، وأغلق بابه» (2) كان ينظر الى هذه الملاحظة.
فإن هذه الصيغة يمكن التأمّل فيها ، والبحث عنها ، من حيث أنّها لا تتجاوز شرط « الخروج» بالمعنى الذي عرفناه ، لانها يمكن أن تكون فرضا للحدّ الأقل من الفروض الممكنة للخروج ، وأن « إشهار السيف» هو الحدّ الأكثر له.
ومع أنّ « إغلاق الباب ، وإرخاء الستر» ليس ذكرا إلاّ لأبعد الاحتمالات الممكنة ، فإنا لم نجد في سيرة الإمام السجّاد عليه السلام ـ وكذلك الأئمة من ولده ـ مثل هذا الإرخاء وهذا الستر !
فهم عليهم السلام ـ وإن لم يشهروا السلاح الحديدي ـ لكنهم لم يغلقوا أبوابهم ، بل نجد سيرتهم مليئة بالنشاط القيادي ، حتى في أصعب الحالات ، وأقسى المواقف والظروف ، وأكثرها حساسية ، كما في حالة الأسر التي مرّ بها الإمام السجاد عليه السلام ، وحالة السجن التي مرّ بها الإمام الكاظم عليه السلام ، فإنهم لم ينقطعوا فيها عن أداء دورهم المتاح لهم.

(1) تفسير الحِبريّ ( ص 354 ) الحديث (88) وانظر الحديث (89) وتخريجاته ، وكذلك الحديث (90) وشواهد التنزيل للحسكاني ( 2 : 104 ) رقم (782) وفي الحديث (783) نحوه عن زيد الشهيد عليه السلام.
(2) كفاية الأثر ، للخزّاز ( ص 300 ـ 302 ) ولاحظ معتزلة اليمن ( ص 17 ـ 18 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 22

هذا بغضّ النظر عن عملهم الدؤوب في إرشاد الناس وهدايتهم الى الحق في أصول العقائد ، ومن ذلك إعلان إمامة أنفسهم ، وتعريفهم بالحق الصحيح من فروع الأحكام وعلم الشريعة ، وتربيتهم على الأخلاق الفاضلة ، وتعليمهم سنن الحياة الحرّة الكريمة ، هذا العمل الذي هو الهدف لكل الأنبياء في رسالاتهم ، ولكل المصلحين في نضالهم وهو من أميز وظائف الأئمة ، وأبرز واجبات الإمامة.
والظالمون من الحكّام غير الإلهيين يقفون أمام مثل هذا العمل ، ويعدّونه تحدّيا لسلطانهم ، ومنافيا لمصالحهم ، وبناء على ذلك : فالقائم به يكون معارضا سياسيا خارجا عليهم ولو بغير سيف !
وإصرار الأئمة من أهل البيت عليهم السلام على هذا العمل ، الى جانب من كان يقوم منهم بنشاط مسلّح ، يدل على أن الجهاد في هذا المجال له من الأهمية والأثر في الوصول الى الأهداف المنشودة من الإمامة ، ما يوازي الحاصل من الجهاد المسلّح ، على أقلّ الاحتمالات.
ويمكن التأكّد من ذلك ، من خلال الممارسات العنيفة للحكّام الظالمين تجاه اولئك الأئمة الذين لم يحملوا السلاح ، بنفس الشكل الذي واجهوا به المجاهدين المسلّحين.
فعمليات المراقبة ، والمطاردة ، والجلب الى مراكز القوّة والجند وعواصم الحكم ، بل السجن ، والتهديد ، والضغط على بعض الأئمة الأثني عشر ، من الأُمور التي كانت قائمة ومستمرة ، على الرغم من عدم مدّ أيديهم الى الاسلحة الحديدية.
إنّ ذلك يدلّ بوضوح على أنّ الحكّام عرفوا أن هؤلاء الأئمة يحاربونهم بأسلحة أفتك من السيف.
كما يعرف كلّ المناضلين : أن الحرب الفكرية والاختراق الثقافي من أساليب ما يسمّى بالحرب الباردة ، هي أشدّ ضراوة ، وأعمق أثرا في الخصم ، وأنفذ في كيانه ، من الحرب بالأسلحة.
وهل يجرؤ عارف بالتاريخ الإسلامي على إنكار الأثر البارز للأئمة الإثني عشر عليهم السلام في هذا المجال ؟ فضلا عن نسبة « إغلاق الباب وإرخاء الستر » إليهم ! ؟

جهاد الامام السجاد عليه السلام 23

لولا الخطأ في الحكم ؟! أو التعمّد في تخطّي الحقائق ؟!
وعلى كلّ ، فإنّ حالة « إرخاء الستر ، وإغلاق الباب » لا تمثّل إلاّ أبعد الفروض المحتملة ، والممكنة الوقوع في حياة الأئمة عليهم السلام.
كما أن حالة « إشهار السيف » تمثّل أقوى الفروض ، وأشد الحالات ، وأحوجها الى مثل ذلك.
فكلا الفرضين محتمل في الإمامة.
فكما أن من الممكن فرض حالة « إشهار السيف » في ما إذا تحققت الظروف المناسبة للحركة المسلّحة ، وتوافرت الشروط والامكانات اللازمة للخروج بالسيف ، إذ لم نجد نصّا يمنع الحركة ، فضلا عن أن يجوّز للإمام تفويت تلك الفرص ، وتبديد تلك الإمكانات.

فكذلك إذا اجتمعت شروط الإمامة ـ غير السيف ـ فإنّ تحدّي الظالمين عبر وسائل أُخرى ، تعبّر عن الخروج والتصدّي لحكمهم ، هو المتعيّن للكشف عن عدم الرضا باستمرار الأنظمة الجائرة ، ولا يمكن أن يعتبر ذلك نقطة ضعف ، أو يجعله دليلا على التخلّي عن الحركة المسلّحة.
ومن هنا نعلم أن « السيف » ليست له موضوعية ، وهو ليس شرطا بإطلاق الكلمة ، من دون تقييد بوقت ، ولا محدوديّة بإمكانيات.
بل ، لا ريب في أن الخروج بالسيف ، مشروط بما يحقق الأهداف المطلوبة منه ، وهي لا تتحقّق بالخروج العشوائي ، بل ، لا بدّ أن يتأهب الخارج لها ، ويعدّ للامر ما يلزم له من قوّة وعدّة.
وإلاّ ، فإن الانفراد في الساحة ، والاستبداد بالرأي من دون أنصار ، أو بأنصار غير كفوئين ، أو من غير خطة مدّبرة مدروسة ، أو في ظروف غير مؤاتية.
إن الخروج ـ ولو بأقوى سيف ـ في مثل ذلك لا يمكن أن يكون شرطا لشيء متوقّع ، فضلا عن أن يكون شرطا لشيء هامّ مثل « الإمامة ».
هذا إذا صدق على مثل ذلك اسم غير « الانتحار » !
وقد أرشد الإمام السجّاد عليه السلام الى هذه الحقيقة في احتجاجه على من

جهاد الامام السجاد عليه السلام 24

اعترض عليه بترك الجهاد ، والالتزام بالحجّ ، بقوله : تركت الجهاد وصعوبته ، وأقبلت على الحجّ ولينه ، والله عزّ وجلّ يقول : «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون ويُقتَلون » ـ الى قوله تعالى ـ «وبشّر المؤمنين» [ التوبة : 9 الآية 111 ].
فقال الإمام عليه السلام : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج. (1)
وهو المستفاد من كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية : « أما والله لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت أوّلها بكاس آخرها» (2)
ولو كان الخروج واجبا على كل حال ، وغير مشروط ، لما قال الإمام هذا الكلام.
وفي الجامع الكافي للشريف العلوي : قال الحسن عليه السلام : ويحق على من أراد الله والانتصار للدين : أن لا يُظهر نفسه ، ولا يعود بسفك دمه ودماء المسلمين ، وإباحة الحريم ، إلاّ ومعه فئة المتديّنين يوثق بطاعتهم ووفائهم. (3)
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى الى علي عليه السلام ، قال : يا أخي ، عليك بالصبر ، إلاّ أن تجد أعوانا وأنصارا ، فاشهر سيفك حينئذ ، فإن لم تجد أعوانا وانصارا ، فاحقن دمك ، فإنّ القوم لم ينسوا قتل ساداتهم في مواقفك التي شرّفك الله تعالى بها في دينه. (4)
نعم ، قد يضطرّ الواقع إنسانا أبيّا ، إلى الإقدام على الخروج المسلّح ، وإن لم توجد شروطه ، لحاجة الوضع الى إثارة ، فيضحّي بنفسه فداءا من أجل قضيّته.
وهذا وإن كان لا يُسمى في قاموس اللغة « خروجا » ولا في مصطلح الفقه « جهادا » ولا يمكن أن يعتبر في حسابات العقل « واجبا » ولا في موازين

(1) الاحتجاج ، للطبرسي (ص 315) وانظر الكافي (4 : 257) ح 24 ، وثواب الأعمال (71 : 7) ووسائل الشيعة (11 : 95) تسلسل (14330).
(2) الإفصاح للمفيد (ص46) نهج البلاغة (315).
(3) الاعتصام (5 : 408).
(4) المقنع في الإمامة ، للسُدّ آبادي (ص99) وانظر (ص109).

الفهرس التالي التالي