المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة171

عليه تربته(1) والنبي يقول : «اللهم اخذل مَن خذله ، واقتل مَن قتله ، ولا تمتعه بما طلبه» .
[قال :] فلمّا أتى على مولده سنتان خرج النبي صلى الله عليه وآله في سفر له ، فوقف في بعض الطريق ، واسترجع ودمعت عيناه .
فسئل عن ذلك ، فقال : «[هذا] جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يقال لها كربلاء ، يقتل فيها ولدي الحسين [بن فاطمة» .
فقيل له : مَن يقتله يا رسول الله ؟
فقال : «رجل اسمه يزيد ،] وكأنّي أنظر غلى مصرعه ومدفنه» .
ثم رجع صلى الله عليه وآله من سفره مهموماً مغموماً ، فصعد المنبر فخطب ، والحسن والحسين بين يديه ، ثمّ نزل فوضع يده اليمنى على رأس الحسن ويده اليسرى على رأس الحسين ، وقد رفع رأسه إلى السماء فقال : «اللهم إنّ محمّداً عبدك ونبيّك ، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيّتي [وارومتي(2)] ومن اُخلفهما في اُمّتي ، وقد أخبرني جبرئيل عليه السلام أنّ ولدي

(1) قال رحمه الله : وقد أخرج أحمد بن حنبل من حديث علي عليه السلام في ص 85 من الجزء الأوّل من مسنده حديثاً في هذا الموضوع طويلاً جاء في آخره : انّ جبرائيل عليه السلام حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحسين بشط الفرات وانّه قال له : هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟
قال : قلت : نعم .
قال صلى الله عليه وآله وسلم : فمدّ يده فقبض من تراب فأعطانيها فلم أملك عينيّ ان فاضتا .
(2) الاُرومة : الأصل .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة172

هذا مخذول مقتول .
اللهم بارك له في قتله ، واجعله من سادات الشهداء ، اللهم ولا تبارك في قاتله وخاذله» .
[قال :] فضجّ الناس في المسجد بالبكاء .
[فقال النبي : «أتبكون ولا تنصرونه ؟! اللهم فكن له أنت ولياً وناصراً»] .(1)
ثم رجع صلى الله عليه وآله فخطب خطبة أخرى موجزة وهو متغيّر اللون وعيناه تهملان دموعاً فقال :
«أيها الناس ، إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ألا وإنّي أنتظرهما ، وإنّي لا أسألكم في ذلك الاما أمرني ربّي المودة في القربى .
ألا وإنّه سترد عليَّ [يوم القيامة] ثلاث رايات من هذه الامّة :
الاولى : سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة ، فتقف عليَّ ، فاقول : مَن أنتم ؟
فينسون ذكري ، فيقولون : نحن أهل التوحيد من العرب .
فأقول [لهم] : أنا أحمد نبيّ العرب والعجم .

(1) مقتل الخوارزمي 1 : 163 ، ذخائر العقبى : 149 ، الصراط السوي للشيخاني المدني : 93 ، الملهوف : 94 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة173

فيقولون : نحن من اُمّتك .
فأقول لهم : كيف خلّفتموني في عترتي وكتاب ربّي ؟
فيقولون(1) : أمّا الكتاب فضيّعناه ، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن آخرهم .
فأُولّي عنهم وجهي ، فيصدرون عطاشاً مسودّة وجوههم .
ثمّ ترد عليَّ راية اُخرى أشدّ سواداً من الاولى ، فأقول لهم : كيف خلّفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر : كتاب ربّي وعترتي ؟
فيقولون : أمّا الأكبر فخالفناه ، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم(2) كلّ ممزّق .
فأقول : إليكم عنّي ! فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودّة وجوههم .
ثم ترد عليَ راية اُخرى تلمع وجوههم نوراً ، فأقول [لهم] : مَن أنتم ؟
فيقولون : نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى ، نحن اُمّة المصطفى ، ونحن بقية أهل الحقّ ، حملنا كتاب ربّنا فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه ، وأحببنا

(1) قال رحمه الله : «يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون» [النور : 24] ، «ويوم يُحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء» [فصلت : 19 ـ 21] .
(2) في الأصل : فخذلناه ومزقناه .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة174

ذرّيّة نبيّنا فنصرناهم وقاتلنا معهم .
فأقول لهم : أبشروا فانّي نبيّكم محمد ، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم ، ثمّ أسقيهم من حوضي فيصدرون مرويين مستبشرين ، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبداً الآبدين» .(1)
ورو الشيخ في الأمالي بأسانيده إلى الرضا ، عن آبائه عليهم السلام ، عن أسماء بنت عميس قالت : لمّا ولدت فاطمة الحسين عليهما السلام كنت أخدمها في نفاسها به ، فجاء النبي صلى الله عليه وآله فقال : هلمي ابني يا أسماء ، فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأخذه وجعله في حجره ، وأذّن في اُذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى .
قالت : وبكى رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال : إنّه سيكون لك حديث ، اللهم العن قاتله ، لا تعلمي فاطمة بذلك .
قالت أسماء : فلمّا كان يوم السابع من مولده جاء النبي صلى الله عليه وآله فعقّ عنه كبشاً أملح ، وأعطى القابلة الورك ورجلاً ، وحلق رأس الحسين وتصدّق بوزن الشعر ورقاً ، وخلق رأسه بالخلوق .
قالت : ثمّ وضعته في حجره ، فقال : يا أبا عبد الله ، عزيز عليَّ ، ثم بكى .
[قالت أسماء :] فقلت : بأبي أنت واُمّي ممّا بكاؤك في هذا اليوم وفي اليوم

(1) الملهوف : 95 ـ 96 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة175

الأوّل ؟!
قال صلى الله عليه وآله : أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني اميّة لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة .
ثم قال : اللهم انّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم عليه السلام في ذرّيّته : اللهم أحبّهما وأحبّ من يحبّهما ، والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض .(1)
اشدد يداً بحـبّ آل أحمـد فانّهـا عقـدة فـوز لا تحـلّ
وابعث لهـم مراثياً ومدحاً صفوة ما راض الضمير ونخل
وما الخبيثان ابن هند وابنه وان طغـى أمرهما بعـدُ وجل
بمبدعين للـّذي جـاءا به وانّـما تقـفـيـا تلك السبـل

(1) أمالي الشيخ الصدوق : 362 ، وانظر : ذخائر العقبى : 119 ، مقتل الحسين للخوارزمي 1 : 87 ، الفصول المهمّة لابن الصبّاغ : 154 ، الخصائص الكبرى للسيوطي 2 : 125 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة176

[المجلس الثاني]

كانت إمامة الحسين بعد أخيه الحسن عليهما السلام ثابتة ، وطاعته على جميع الخلق فريضة ، بنصّ أبيه وجدّه عليهما السلام ، وعهد أخيه الحسن ووصيّه إليه ، وكانا سيدي شباب أهل الجنة(1) بشهادة جدّهما رسول الله صلى الله عليه وآله وهما سبطاه بالاتّفاق الذي لا مرية فيه ، وريحانتاه من الدنيا(2) وحبيباه من جميع أهله ، وهما حجّتا الله لنبيّه صلى الله عليه وآله في المباهلة(3) ، وحجّتا

(1) راجع : المعجم الكبير للطبراني : ج 3 ص 25 ـ 30 ح 8 ـ 2618 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 182 ـ 184 ، حلية الأولياء للأصبهاني : ج 5 ص 71 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج 1 ص 92 ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر : ص 72 ح 129 وص 74 ح 132 وص 76 ح 133 وص 77 ح 134 وص 79 ح 138 وص 80 ـ 83 ح 139 ـ 143 ، فرائد السمطين للجويني : ج 2 ص 41 ح 374 ، وص 98 ـ 99 ح 409 و410 وص 129 ح 428 ، بحار الأنوار : ج 11 ص 164 ح 9 وج 16 ص 362 ح 62 وج 22 ص 280 ح 33 وج 25 ص 360 ح 18 .
(2) كنز العمال : ج 13 ص 667 ح 37699 ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر : ج 4 ص 207 .
(3) إشارة إلى آية المباهلة وهي قوله تعالى : «فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالَوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين» [آل عمران : 61] .
فقد أجمع الجمهور على أن هذه الآية الشريفة نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وذلك لما أراد المباهلة مع نصارى نجران . راجع : شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي 1 : 155 ـ 166 ح 168 ـ 176 ، المستدرك للحاكم 3 : 150 ، أسباب النزول للواحدي : 58 ـ 59 ، صحيح مسلم 4 : 1871 ح 32 ، سنن الترمذي 5 : 210 ح 2999 إحقاق الحقّ للتستري 3 : 46 ـ 62 ، مجمع الزوائد 7 : 110 ، فضائل الصحابة لابن حنبل 2 : 571 ح 966 وص 593 ح 1008 ، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة 12 : 85 ح 12186 ، المطالب العلية لابن حجر 4 : 56 ح 3949 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة177

الله بعد على الاّمة في الدين والملّة .
وإنّ من برهان كمالهما ، وحجّة اختصاص الله لهما بفضله : بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله لهما ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، وكان من عناية الله الخاصّة بهما الدالة على تفضيلهما نزول القرآن بإيجاب الجنّة ثواباً على عملهما أيّام طفوليتهما حيث كانوا : «يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً ويُطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنّما نُطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنّا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نظرةً وسروراً وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا»(1) ولم ينزل قرآن بذلك في طفلين سواهما .
وقد نصّ رسول الله صلى الله عليه وآله على إمامتهما بقوله : ابناي هذين إمامان قاما أو قعدا(2) .
ودلّت وصيّة الحسن إلى الحسين على إمامته ، كما دلّت وصيّة أمير المؤمنين إلى الحسن على إمامته ، ووصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أمير المؤمنين عليه السلام على إمامته من بعده . وتفصيل هذا في مظانه من كتب الأعلام من علمائنا رضي الله عنهم ورضوا عنه .(3)
فالحسين إمام بعد صنوه المجتبى ، وإن لم يدع إلى نفسه أيّام معاوية(4)

(1) الدهر : 7 ـ 12 .
(2) بحار الأنوار : ج 43 ص 291 ح 5 وج 44 ص 1 ح 2 .
(3) للاطلاع على هذه الوصايا ، انظر الارشاد للمفيد .
(4) معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، مؤسّس الدولة الاموية في الشام ، ولد بمكة وأسلم يوم فتحها ، ولي قيادة جيش تحت إمرة أخيه في خلافة أبي بكر ، وصار والياً على الاردن في خلافة عثمان ، ثمّ ولاه دمشق ، وجاء عثمان فجمع له الديار الشاميّة كلّها وجعل ولاة =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة178

للتقية التي كانوا عليها ، والحال التي آل أمرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله إليها ، فهو في ذلك كأبيه أمير المؤمنين حيث يقول : وصفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ـ إلى أن قال : ـ فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شذى ، أرى تراثي نهباً .(1)

= أمصارها تابعين له ، وبعد قتل عثمان وولاية علي عليه السلام وجّه له لفوره بعزله ، وعلم معاوية قبل وصول البريد ، فنادى بثأر عثمان واتهم علياً بدمه ونشبت الحروب الطاحنة واستعمل معاوية الخديعة والمكر ، مات معاوية في دمشق سنة 60 هـ وعهد بالخلافة إلى ابنه يزيد .
انظر : تاريخ الطبري 6 : 180 ، تاريخ ابن الأثير 4 : 2 ، البدء والتاريخ 6 : 5 .
(1) فلقد صبر أمير المؤمنين عليه السلام على اغتصاب الخلافة وظلم الزهراء عليها السلام وتحريف دين الله وسنّة نبيّه ، ولذا جاءت خطبته الشقشقية تعبيراً عن حالة الظلم التي تعرض لها البيت النبوي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ، ونظراً لأهمية الخطبة نحن نوردها كاملة .
يقول الإمام علي عليه السلام : « اما والله لقد تقمصها فلان (وفي نسخة ابن أبي قحافة) وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا . ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً . وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ! فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً ، أرى تراثي نهباً ، حتّى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان (وفي نسخة ابن الخطاب) بعده . ثم تمثل بقول الاعشى :
شتّان ما يومي على كورها ويوم حيّان أخي جابر
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ! ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم ، فمني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس . وتلوّن واعتراض ، فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم . فيالله وللشورى ! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ! لكنّى أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع ، إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته !
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة179

وعلى هذا المنوال نسج الحسن ـ بأبي واُمي ـ أيّام الهدنة ، إذ تغلب عليه ابن آكلة الأكباد ، وهم جميعاً على سنن النبي في أوّل أمره حيث لم يتمكّن صلى الله عليه وآله من دعوة أحد إلى الله حينئذ أصلاً ، وحال أوصيائه من بعده كحاله حين كان في الشعب محصوراً ، وفي الغار مستوراً ، ولئن كانت هذه الحال منافية للنبوّة فهي غير منافية للإمامة بطريق أولى كما يعلمه أولوا الألباب .
ولمّا هلك معاوية وانقضت الهدنة التي كانت تمنع الحسين عليه السلام من الدعوة إلى نفسه ووجد في ظاهر الحال من الأنصار ما يتسنّى له القيام بالدعوة إلى الله تعالى ، نهض بأعبائها ، وتوجّه بولده وأهل بيته من حرم الله تعالى وحرم رسوله إلى العراق للإستنصار على الظالمين ، بمن دعاه إلى ذلك من أهل الكوفة ، وقدّم أمامه ابن عمّه مسلماً للدعوة إلى الله عز وجل ، والبيعة له على الجهاد في اعلاء كلمته تعالى ، وانقاذ الدين والمسلمين من اولئك المنافقين ، فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه ، وضمنوا له النصرة والنصيحة وواثقوه ، ثمّ لم تطل المدّة حتى نكثوا البيعة ، وأسلموا مسلماً قتيل بينهم غريباً مظلوماً ، وحيداً شهيداً ، وخرجوا إلى حرب الحسين عليه السلام ففعلوا به ما لم يفعلوه

= فما راعني الا والناس كعرف الضبع إلي ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون : كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول : «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً ، والعاقبة للمتقين » بلى ! والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم ، وراقهم زبرجها !
أما والذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء الايقاروا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لا لقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ! انظر : شرح نهج البلاغة لمحمد عبدة 1 : 34 (الخطبة الشقشقية) .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة180

بالخوارج ، وقابلوه بما لم يقابلوا به أهل الخنا والريب .
جعجعوا(1) به ومنعوه المسير إلى بلاد الله ، وحالوا بينه وبين ماء الفرات ، حتى قضى شهيداً ظمآناً ، مظلوماً مهموماً ، مجاهداً مكابداً ، صابراً محتسباً ، قد نُكثت بيعته ، واستحلّت حرمته ، ولم يوف له بعهد ، ولا رعيت فيه ذمّة وعقد ، وانتهبوا أمواله ، وسبوا عياله ، فلهفي لآل الرسول ، وللخفرات من عقائل البتول ، وقد ضاقت بهم المذاهب ، وارتجت عليهم المسالك ، مولهين مدلهين ، خائفين مترقّبين .
كانت بحيث عليها قـومها ضرب سـرادقاً أرضـه مـن عزّهم حرم
يكاد مـن هيبة أن لا يطـوف به حتى الملائـك لـولا انّـهـم خـدم
فغـودرت بين أدي القـوم حاسرة تسبـى وليـس لها من فيه تعتصـم
نعـم لوت جيـدها للعتـب هاتفة بقومـهـا وحشاهـا ملـؤه ضـرم
عجت بهم مذ على أبرادها اختلفت أيدي العـدو ولكـن مـن لهـا بهم
قومي الأولى عقدوا قِدماً مآزرهم على الحمية ما ضيموا ولا اهتضموا
ما بالهم لا عفـت منهم رسومهم قرّوا وقد حملتنـا الأنـين الرسـم

(1) كتب ابن زياد إلى عمر : أن جعجع بالحسين ؛ أي أنزله بجعجاع وهو المكان الخشن الغليظ ، وهذا تمثيل لالجائه إلى خطب شاق وإرهاق ، وقيل المراد إزعاجه ، لأن الجعجاع مناخ سوء لا يقر فيه صاحبه ، ومنه جعجع الجل : قعد على غير طمأنينة . انظر : الفائق : 364 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة181

[المجلس الثالث]

لما اختار الله تعالى للإمام أبي محمد الحسن السبط عليه السلام دار كرامته ومأوى أصفيائه ، كتب الشيعة في العراق إلى الحسين عليه السلام يعرضون عليه البيعة(1) ويبذلون له النصرة فأبى عليهم ، وذكر أن بينهم عليه السلام وبين معاوية هدنة لا يجوز لهم نقضها ، فلما هلك معاوية وذلك للنصف من رجب سن ستين(2) قام من بعده ولي عهده يزيد المتهتّك ، وسكيره المفضوح ، وهو صبي يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ولا يعرف من الدين موطئ قدمه ، ولا يرقب الاولا ذمّة .
فكتب إلى ابن عمّه الوليد بن عتبة(3) ـ وكان والياً على المدينة ـ يأمره بأخذ البيعة له من الناس عامّة ، ومن الحسين خاصة ، ويقول له : «إن أبى عليك الحسين فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه(4) .

(1) ارشاد المفيد : 200 ، المهلوف : 96 .
(2) انظر : تاريخ الطبري 6 : 180 ، تاريخ ابن الاثير 4 : 2 ، البدء والتاريخ 6 : 5 ، الأعلام 7 : 261 ـ 262 .
(3) الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ابن حرب الاموي ، أمير من رجالات بني اميّة ، ولي المدينة سنة 57 هـ أيام معاوية ، ومات معاوية فكتب إليه يزيد أن يأخذ له البيعة ، عزله يزيد سنة 60 هـ واستقدمه إليه ، فكان من رجال مشورته بدمشق ، ثمّ أعاده سنة 61 هـ وثورة عبد الله بن الزبير في أبانها بمكّة ، وظلّ في المدينة إلى أن توفي بالطاعون سنة 64 هـ .
انظر : مرآة الجنان 1 : 140 ، نسب قريش : 133 و433 ، الأعلام 8 : 12 .
(4) الملهوف : 97 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة182

فاستشار الوليد مروان(1)في ذلك ، فقال له : إنّه لا يبايع ، ولو كنت مكانك لضربت عنقه .
ثم بعث إلى الحسين عليه السلام ، فجاءه ـ بأبي وامّي ـ في ثلاثين رجلا من أهل بيته ومواليه ، فنعى [الوليد] إليه معاوية ، وكلّفه بالبيعة(2) .
فقال له عليه السلام :
إنّ البيعة لا تكون سرّاً ، فإذا دعوتَ الناس غداً فادعنا معهم .
فقال مروان : لا تقبل أيّها الأمير عذره ، فان بايع الآن والا فاضرب عنقه .
فغضب الحسين عليه السلام ثم قال : ويل بك يا بن الزرقاء ، أنت تقتلني أم هو ؟ كذبتَ والله وأثمت .
ثم أقبل على الوليد فقال : «إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، وبنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل [فاسق] شارب الخمور ، قاتل النفس المحرّمة ، معلنٌ بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله» ، ثمّ خرج عليه السلام ، فقال مروان للوليد : عصيتني .
فقال : ويحك أنّك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي ، والله ما اُحبّ أنّ الدنيا بأسرها تكون لي وأنّني قتلتُ حسيناً أن قال : لا ابايع ، والله ما أظنّ أن

(1) مروان بن الحكم بن أبي العاص ، ولد بمكّة وسكن المدينة ، جعله عثمان من خاصّته واتّخذه كاتباً له ، وبعد قتل عثمان خرج مروان مع عائشة إلى البصرة ، وشهد صفين مع معاوية ، ولي المدينة سنة في ولاية معاوية ، وهو أوّل مَن ملك من بني الحكم بن أبي العاص (طريد رسول الله) ، ماتسنة 65 بالطاعون ؛ وقيل : قتلته زوجته اُمّ خالد .
انظر : أسد الغابة 4 : 348 ، تاريخ ابن الأثير 4 : 74 ، تاريخ الطبري 7 : 34 .
(2) أي البيعة ليزيد .

السابق السابق الفهرس التالي التالي