المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة195

فأتوه ووقفوا عشيةً على باب داره ، فقالوا له : ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنّه ذكرك وقال : لو أعلم أنّه شاكٍ لعُدته ؟
فقال : الشكوى تمنعني .
فقالوا : [إنّه] قد بلغه جلوسك كلّ عشيّة على باب دارك ، وقد استبطأك ، والإبطاء والجفاء لا يتحمّله السلطان من مثلك ، لانّك سيّد قومك ، ونحن نقسم عليك الاركبت معنا .
وما زالوا به حتى غلبوه على رأيه ، فدعا بثيابه فلبسها ، ثم دعا ببغلته فركبها ، فلمّا دنا من القصر أحسّ ببغض الذي كان ، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة :
يا بن أخي إنّي والله لخائف من هذا الرجل فما ترى ؟
فقال : والله يا عم ما أتخوّف عليك شيئاً ، فلا تجعل على نفسك سبيلاً ، ولم يكن حسّان يعلم الذي أضمر ابن مرجانة لهاني .
فجاءه رحمه الله تعالى والقوم معه حتى دخلوا جميعاً على ابن زياد ، فلمّا رأى هانياً قال : أتتك بخائن(1) رجلاه . ثمّ تمثّل فقال :
اُريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد(2)

(1) كذا في الأصل والمصادر ، والظاهر أنّ الصحيح : حائن ، وهو الذي حان حينه وهلاكه ، راجع مجمع الأمثال للميداني .
(2) هذا البيت لـ «عمرو بن معدي كرب الزبيدي» وهو فارس اليمن وصاحب الغارات المذكورة ، وفد على المدينة سنة 9 هـ في عشرة من بني زبيد فأسلم وأسلموا ، يكنى أبا ثور ، توفي على مقربة من الري سنة 21 هـ ؛ وقيل : قتل عطشاً يوم القادسية . انظر : الاصابة رقم (5972) ، خزانة الأدب 1 : 425 ـ 246 ، الأعلام 5 : 86 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة196

فقال له هاني : وما ذاك يا أمير ؟
فقال : إيهاً يا هاني ما هذه الامور التي تُربصُ في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين ؟ جئتَ بابن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعتَ له السلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليّ .
فقال : ما فعلتُ .
قال : بلى قد فعلتَ .
فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني الا الانكار ، دعا ابن زياد بمعقل(1) مولاه حتى وقف بين يديه ـ وكان عيناً له على أخبارهم من حيث لا يدرون ، وقد عرف كثيراً من أسرارهم ، إذ كان يظهر لهم الاخلاص لأهل البيت والتفاني في حبّهم ـ فلما رآه هاني علم أنّه كان عيناً عليهم ، وأنّه قد أتاه بأخبارهم ، فأسقط في يده ، ثمّ راجعته نفسه فقال :
أصلح الله الأمير والله ما بعثت إلى مسلم بن عقيل ، ولا دعوته ، ولكن جاءني مستجيراً فأجرته ، واستحييت من ردّه ، ودخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته ، والآن فخلّ سبيلي حتى أرجع إليه وآمره بالخروج من داري إلى حيث شاء من الأرض لأخرج بذلك من ذمامه وجواره ، ثم ارجع إليك حتى أضع يدي في يدك .
فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني حتى تأتيني به .
فقال : والله لا آتيك به أبداً ، آتيك بضيفي تقتله !
فقال : والله لتأتيني به .

(1) لم يذكروه ، وهو ملعون خبيث .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة197

فقال : والله لا آتيك به ، فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي(1) فقال : أصلح الله الأمير خلني وإيّاه حتى اُكلّمه .
فقام فخلى به ناحية وهما بحيث يراهما ابن زياد ويسمع كلامهما فبينما هما يتناجيان إذ رفعا أصواتهما . فقال الباهلي :
يا هاني أنشدك بالله لا تقتل نفسك ، ولا تدخل البلاء على عشيرتك فوالله انّي لأنفس بك عن القتل ، ان هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليهم فانّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة وانّما تدفعه إلى السلطان .
فقال هاني : والله ان عليّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي ورسول ابن رسول الله وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان ، والله لو لم أكن الا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول :
والله لا أدفعه أبداً .
فسمع ابن زياد ذلك فقال : ادنوه منّي فاُدني منه ، فقال : والله لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك .
فقال هاني : إذاً تكثر البارقة حول دارك .
فقال ابن زياد : والهفاه عليك أبا البارقة تخوّفني ؟ وهاني يظن أنّ عشيرته يمنعونه ، ثم قال : ادنوه مني فاُدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبهته وخدّه حتى كسر أنفه وسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده وجبينه على لحيته الشريفة فانكسر القضيب .
وضرب هاني يده على قائم سيف شرطي فجاذبه ذلك الرجل ، فصاح

(1) في بعض المصادر مسلم بن عمرو ، وفي اُخرى مسلم بن عمير الباهلي . لم يذكروه .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة198

اللعين ابن مرجانة : خذوه ، فجروه حتى ألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه وجعلوا عليه حرساً .
فقام حسّان بن أسماء بن خارجة إلى ابن زياد فقال : أرسل غدر ـ نحن ـ سائر اليوم أيّها الأمير ، أرسلتنا الى الرجل ، وأمرتنا أن نجيئك به ، حتى إذا جئناك به هشّمت وجهه ، وأسلت دماءه وزعمت انّك تقتله ؟
فغضب ابن مرجانة وقال : وانك لها هنا ، ثم أمر به فضرب وقيّد وحبس .
فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون إلى نفسي انعاك يا هاني .
وبلـغ عمرو بن الحجاج أن هانياً قد قتل ، وكان هاني صهره على بنته رويحـة(1) ، فأقبل عمرو في مذحج كافة حتى أحاط بالقصر ، ونادى :
أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ، ولم تفارق جماعة ، وقد بلغنا أنّ صاحبنا قد قتل .
فأتاهم القاضي شريح(2) ـ وكان مع ابن زياد في القصر حين دخل عليه هاني وفعل معه ما فعل ـ فأخبرهم بسلامته فرضوا بقوله وانصرفوا .
تبّاً لهم وترحاً ، لقد خطمهم(3) ابن مرجانة بالذل ، وقادهم ببرة(4) الهوان ، وعفّر وجوههم إذ هشّم وجه سيّدهم ، وأرغم آنافهم إذ كسر أنفهم ، وألقاهم في

(1) رويحة ابنة عمرو ، كانت اُمّ ولد للأشعث بن قيس الكندي ، وقد كان لها ابن من غيره يقال له بلال بن أسيد ، أعتقها الأسيد الحضرمي . انظر : الكامل في التاريخ 4 : 31 ، اعلام النساء المؤمنات : 363 ـ 364 .
(2) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي ، أبو اُميّة ، توفي سنة 78 هـ ، أصله من اليمن ، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية ، واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة 77 هـ . انظر : الطبقات 6 : 90 ـ 100 ، وفيات الأعيان 1 : 224 .
(3) من خطم البعير : وهو أن يشدّ على أنفه حبل يقاد به .
(4) البرّة : حلقة تجعل في لحم أنف البعير ويشدّ إليها الزمام .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة199

مراغة(1) الذل إذ ألقاه في الحبس ، ومرّغهم في حمأة(2) الهوان إذ جرّوه قتيلاً برجله في الأسواق .
أمّا هاني فقد فاز بالشهادة ، وختمت أيّامه بالسعادة .
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وخالف مجرما

وقد ثارت به الحمية لله عز وجل ، وعصفت في رأسه لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وأخذته حفائظ الولاية لآله الطيّبين الطاهرين ، فبذل نفسه ، ووقاهم بمهجته .
فوا لهفاه ما أعزّ جانبه .
وأسفاً عليه ما أمنع حوزته .
وحزناً لوجهه الميمون المشرق وقد شوّهه اللعين ضرباً بعصاه .
ونفسي الفداء لذلك الأنف الحمي وقد كسر في سبيل الله .
ولله تناثر اللحم من جبينه الوضّاح ، وخدّه الزاهر ، وجبهته المباركة على كريمته الشريفة .
وفي عين الله خضّبت تلك الشيبة العزيزة بدماء ذلك الأغر ، دون أن يهتضم جاره أو يستباح ذماره .
كريـم أبـى شـمّ الدنيـة أنفه فأشممه شوك الوشيج المسدّد
وقال : قفي يا نفس وقفة واردٍ حياض الردى لا وقفة المتردّ

(1) المراغة : الموضع تتمرّغ فيه الدواب .
(2) الحمأة : الطير الأسود المنتن .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة200

[المجلس السادس]

لمّا بلغ مسلم بن عقيل ما فعل ابن زياد بهاني بن عروة ، خرج بمن بايعه لانقاذ هاني ، وحرب ابن زياد(1) فتحصّن اللعين عنه بقصر الامارة ، واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم ، وجعل أصحابه الذين معه في القصر يشرفون منه ويحذّرون أصحاب مسلم ويتوعّدونهم بأجناد الشام .
فلم يزالوا كذلك حتى جاء الليل ، فجعل أصحاب مسلم يتفرّقون عنه ، ويقول بعضهم لبعض : ماذا نصنع بتعجيل الفتنة ، وينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم .
وما زالوا يتفرّقون حتى أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب وما معه الا ثلاثون نفساً في المسجد .
فلمّا رأى ذلك خرج متوجهاً نحو أبواب كندة ، فما بلغها الا ومعه منهم عشرة .
ثم خرج من الباب فإذا ليس معه انسان يدلّه ، فالتفت فإذا لا يحس بأحد ، فمضى على وجهه متلدّداً في أزقّة الكوفة لا يدري كيف يصنع ولا أين يذهب .
ومشى حتى انتهى إلى باب امراة يقال لها : (طوعة) أم ولد ـ كانت للأشعث ابن قيس فأعتقها ، فتزوّجت أسيد الحضرمي فولدت له بلالاً ، وكان بلال قد خرج مع الناس واُمّه قائمة تنتظره ـ فسلّم عليها مسلم فردّت عليه ، ثمّ طلب منها

(1) الارشاد : 210 ، الملهوف : 82 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة201

ماء فسقته ، وأدخلت الاناء ، ثم خرجت فوجدته جالساً ، فقالت له : ألم تشرب الماء ؟
قال : بلى .
قالت : فاذهب إلى أهلك فسكت .
ثم أعادت عليه القول . فسكت .
فقالت له في الثالثة : سبحان الله يا عبد الله ، قم عافاك الله إلى أهلك فانّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك .
فقام وقال : يا أمة الله ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك من أجر ومعروف ولعلي مكافيك بعد اليوم .
قالت : يا عبد الله وما ذاك ؟
قال : أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني .
قالت : أنت مسلم ؟
قال : نعم ؟
قالت : ادخل ، فدخل بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له ، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ .
وجاء ابنها وعرف بمكان مسلم فوشى به إلى ابن زياد .
فأحضر محمد بن الأشعث ، وضمّ إليه قومه ، وبعث معه عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين رجلاً من قيس ، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم ، فلمّا سمع وقع حوافر الخيل ، وأصوات الرجال علم أنّه قد اتي فخرج إليهم بسيفه ، واقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم فضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة202

عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمدي(1) فضرب بكر لعنة الله فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى ، وفصلت ثنيتاه ، وضربه مسلم على رأسه ضربة منكرة ، وثنى باُخرى على حبل عاتقه كادت تطلع من جوفه ، وجعل يحارب أصحاب ابن زياد حتى قتل منهم جماعة ، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت فأخذوا يرمونه بالحجارة ، ويلهبون النار في أطناب القصب ، ثمّ يلقونه عليه من فوق السطح ، فخرج عليهم مصلّتاً بسيفه فناداه محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقسمـت لا أُقتـل الاحـرّاً وإن رأيت الموت شيئاً نُكرا
أكره أن اُخـدع أو اُغـرّاً أو أخلط البارد سخنـاً مُرّا
كلّ امرئٍ يوماً يلاقي شرّاً أضربكم ولا أخاف ضـرّا

فناداه ابن الأشعث : انك لا تكذب ولاة .
وكان قد اُثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى الحائط .
فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان .
فقال : أنا آمن ؟
قال : نعم .
ثم قال للقوم : ألي الأمان ؟
قالوا : نعم .
فقال : أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، واوتي ببغلة فحمل عليها ، فاجتمعوا حوله ، وانتزعوا سيفه ، فكأنّه عند ذلك يأس من نفسه فدمعت

(1) بكر بن حمران الأحمدي ، خبيث ملعون ، قاتل مسلم بن عقيل . انظر : مستدركات علم الرجال 2 : 50 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة203

عيناه ، ثم قال :
هذا أوّل الغدر أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنا إليه راجعون ، وبكى .
فقال له عبيد الله السلمي : إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك .
قال : انّي والله ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنت لا أحب لها طرفة عين تلفاً ، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي ، أبكي للحسين وآل الحسين عليه السلام .
ثمّ أقبل على ابن الأشعث فقال : انك ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلاً على لساني يبلّغ الحسين ـ فانّي لا أراه الا قد خرج اليوم ، أو هو خارج غداً بأهل بيته ـ فيقول له : إنّ ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في أيدي القوم لا يرى أنّه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول : إرجع فداك أبي واُمّي بأهل بيتك ، ولا يغرك أهل الكوفة فانّهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة كذّبوك ، وليس لمكذوب رأي .
وأقبل ابن الأشعث بمسلم إلى باب القصر ، فدخل على ابن زياد فأخبره الخبر ، وقد اشتدّ العطش بمسلم وعلى باب القصر جماعة ينتظرون الإذن ، وإذا قلّة باردة على الباب . فقال :
اسقوني من هذا الماء .
فقال مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ، والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم .
فقال له ابن عقيل : لاُمّك الثكل ما أجفاك وأفضّك وأقسى قلبك ، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم .

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة204

ثمّ تساند إلى حائط وجاء عمرو بن حريث(1) بقلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء وقال له : اشرب .
فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فيه ، ففعل ذلك مرّتين ، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثنيتاه في القدح .
فقال : الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم شربته .
ثم اُدخل على ابن مرجانة فلم يسلّم عليه .
فقال له الحرس : سلّم على الأمير .
فقال له : اسكت ويحك والله ما هو لي بأمير .
فقال له ابن زياد : إيهاً يا بن عقيل ! أتيت الناس وهم جميع ، فشتّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض .
قال : كلاّ لست لذلك أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعوا إلى حكم الكتاب .
فقال ابن زياد : وما أنت وذاك ، ثم قال عليه اللعنة : يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ولم يرك له أهلاً .
فقال مسلم : من أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟
فقال ابن زياد : أهله أمير المؤمنين يزيد .

(1) عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله المخزومي ، روى عن أبي بكر وابن مسعود ، وروى عنه ابنه جعفر والحسن العرني والمغيرة بن سبيع وغيرهم ، كانت داره مأوى لأعداء أهل البيت ، ولي الكوفة لزياد بن أبيه ولابنه عبيد الله ، مات سنة 85 هـ .
انظر : سير اعلام النبلاء 3 : 417 ـ 419 ، الأعلام 5 : 76 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة205

فقال مسلم : الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم .
فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم اقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام .
فقال مسلم : أما أنّك أحقّ من أحدث في الاسلام ما لم يكن ، وانك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة لأحد أولى بها منك .
فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاً عليهم السلام .
فأخذ مسلم لا يكلّمه ، ونظر إلى جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد فقال : يا عمر انّ بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب عليك نجح حاجتي ، وهي سرّ بيننا ، فامتنع اللعين أن يسمع منه ، فأمره ابن مرجانة بذلك ، فقاما إلى ناحية في المجلس وابن مرجانة يراهما ، فقال :
انّ عليّ سبعمائة درهم لبعض أهل الكوفة فبع سيفي ودرعي واقضها عنّي ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي فوارها ، وابعث إلى الحسين عليه السلام من يردّه ، فانّي كتبت إليه أنّ الناس معه ، ولا أراه الا مقبلاً .
فقال ابن سعد : أتدري أيها الأمير ما قال ؟ إنّه ذكر كذا وكذا وكذا .
فقال ابن زياد : إنّه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن .
وأمر لعنة الله أن يصعدوا به فوق القصر ويضربوا عنقه ، ثمّ يتبعوه جسده ودعا بكر بن حمران فقال له :
إصعد وكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به وهو يكبّر الله ويستغفره ، ويصلّي على رسوله ويقول :
اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، فأشرف على موضع الحذاتين فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه .
ثم أمر ابن زياد بهاني في الحال فقال :

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة206

اخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأُخرج وهو مكتوف فجعل يقول : وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه يا مذحجاه ، وأين مذحج ؟
فلما رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف وهو يقول : أما من عصا أو سكين أو حجر يحاجز بها رجل عن نفسه ؟
فوثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ثم قيل له : مد عنقك .
فقال : ما أنا بها سخي ، وما أنا بمعينكم على نفسي .
فضربه مولى لابن مرجانة ـ تركي ـ بالسيف فلم يصنع شيئاً ، فقال هاني : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ثمّ ضربه اُخرى فقتله شهيداً محتسباً .
وفي مسلم وهاني يقول عبد الله بن زبير الأسدي(1) :
فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانيء في السوق وابن عقيل
إلى بطـل قـد هشّـم السيف وجهه وآخر يهوى من طمـار(2) قتيل
أصابهما أمر اللعيـن فـأصبـحـا أحاديث من يسري بكـلّ سبـيل
ترى جسداً قد غيّـر المـوت لونه ونضـح دم قـد سال كلّ مسيل
فتىً كان أحيـى مـن فتـاة حَيِيّة وأقطع من ذي شفرتـين صقيل(3)

(1) زبير ـ بفتح الزاي المعجمة كحبيب ـ ، وعبد الله بن زبير الأسدي بن الأعشى ، واسمه قيس بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين الأسدي ، من بني أسد بن خزيمة ، وكان يتشيع . انظر أدب الطف 1 : 143 .
(2) في بعض المصادر : جدار .
(3) ويقال انّ هذه القصيدة للفرزدق ، وقال بعضهم إنّها لسليمان الحنفي . انظر : تاريخ الطبري 3 : 32 ، مقتل الخوارزمي 1 : 214 ، أدب الطف 1 : 143 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة207

[المجلس السابع]

لمّا عزم الحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق قام خطيباً ، فكان ممّا قال :
وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بني النواويس وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفاً ، وأجربة سغباً ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجر الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقرّبهم عينه ، وينجز بهم وعده ، ألا ومن كان باذلاً فينا مهجته ، وموطئاً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى .(1)
وجاء تلك الليلة أخوه محمد بن الحنفية فقال له :
يا أخي إنّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فان رأيت أن تقيم فانّك أعزّ من في الحرم وأمنعه .
فقال عليه السلام : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت .
فقال له ابن الحنفية : فان خفت ذلك فسر إلى اليمن ، أو بعض نواحي البر ، فانّك أمنع الناس به ، ولا يُقدر عليك .

(1) مقتل الخوارزمي 1 : 186 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي