المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة208

فقال عليه السلام : أنظر فيما قلت .
فلما كان في السحر ارتحل عليه السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها .
فقال له : يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك ؟
قال : بلى .
قال : فما حداك على الخروج عاجلاً ؟
قال : أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ما فارقتك ، فقال ، يا حسين اخرج ، فان الله قد شاء أن يراك قتيلاً .
فقال له ابن الحنفية : إنّا لله وإنا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك على مثل هذه الحالة .
فقال له : قد قال لي : إن الله شاء أن يراهن سبايا .
ولقيه أبو محمد الراقدي وزرارة بن خلج قبل أن يخرج عليه السلام إلى العراق فأخبراه ضعف الناس بالكوفة ، وأنّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبوابها ، ونزلت الملائكة عدد لا يحصيهم الاالله عز وجل فقال : لولا تقارب الأشياء ، وهبوط الأجل لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ، ومصرع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي .(1)
وخرج ـ بأبي واُمّي ـ يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة سنة ستّين(2) .

(1) تاريخ الطبري 5 : 191 ، الكامل في التاريخ 4 : 7 ، دلائل الإمامة : 74 ، اللهوف : 61 .
(2) وقيل لثلاث مضين من ذي الحجّة ، وقيل يوم الأربعاء لثمان مضين من ذي الحجّة . انظر : الملهوف : =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة209

قال معمر بن المثنى ـ في كتاب مقتل الحسين ـ : فلمّا كان يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف ، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه ، أو يقتله إن قدر عليه .
فخرج الحسين عليه السلام يوم التروية ، حين يُخرج إلى عرفة إذ لم يتمكّن من تمام حجّة ، مخالفة أن تستباح حرمات بيت الله الحرام ، ومشاعره العظام ، فأحلّ ـ بأبي واُمّي ـ من إحرامه ، وجعلها عمرة مفردة .
وقد انجلى عن مكّة وهو ابنها وبه تشرّفت الحطيم وزمزم
ولم يدر أين يريح بدن ركابه فكأنّما المأوى عليـه محرّم

وعن الصادق عليه السلام ـ فيما رواه المفيد(1) باسناده إليه ـ قال : لمّا سار الحسين صلوات الله عليه من مكّة لقيه أفواج من الملائكة المسوّمين والمردّفين في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنّة ، فسلّموا عليه وقالوا :
يا حجّة الله على خلقه بعد جدّه وأبيه وأخيه ، إن الله عز وجل أمدّ جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله بنا في مواطن كثيرة ، وانّ الله أمدّك بنا .
فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي استشهد فيه وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني .
فقالوا : يا حجّة الله إن الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك .
فقال : لا سبيل لهم عليّ ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي .
وأتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له :

= 124 .
(1) الارشاد : 172 ، الملهوف : 116 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة210

يا مولانا نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك . فجزاهم خيراً .
وقال لهم : أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله في قوله : «قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتـب عليهـم القتل إلى مضاجعهم»(1) .
فإذا أقمت في مكاني فبماذا يمتحن هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون ، ومن ذا يكون ساكن حفرتي ، وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحى الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبّينا ، تقبل فيها أعمالهم وصلواتهم ، ويجاب دعاؤهم ، وتسكن إليها شيعتنا ، فنكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة ، ولكن تحضرون يوم عاشوراء الذي في آخره اُقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي واخوتي وأهل بيتي ، ويسار برأسي إلى يزيد بن معاوية .
ساروا(2) برأسك يا بن بنت محمد متزمـّلاً بدمـائـه تزميلا(3)
[وكـأنّمـا بك يـا بن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا]
قتلـوك عطشـاناً ولمّـا يـرقبوا في قتلـك التأويل والتنزيلا
ويكبّـرون بأن قُتـلـت وإنّمـا قتلوا بك التكبيـر والتهليلا(4)
* * *

(1) سورة آل عمران : 154 .
(2) في بعض المصادر : جاؤا .
(3) في بعض المصادر : مترمّلاً بدمائه ترميلا .
(4) القصيدة من مراثي أبو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الكلبي المعروف بـ «ديك الجن» ، المولود بسلّمية سنة 161 هـ والمتوفّى سنة 235 . انظر : زينة المجالس : 487 ، سير أعلام النبلاء 11 : 163 ، أعيان الشيعة 38 : 40 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة211

رأس ابن بنت محمد ووصيّه للناظريـن علـى قنـاة يرفعُ
والمسلمـون بمنظرٍ وبمسمعٍ لا منكر منهـم ولا متفـجـّع
كحلت بمنظرك العيون عماية وأصـمّ رزؤك كلّ اُذن تسمعُ(1)

(1) هذه الأبيات لشاعر أهل البيت دعبل الخزاعي صاحب القصيدة التائية المشهورة . انظر : معجم الأدباء 10 : 110 .
قال ابن طاووس في الملهوف : 203 : ويحقّ لي أن أتمثّل هنا أبياتاً لبعض ذوي العقول ، يرثي بها قتيلاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله فقال :
رأس ابن بنت ....
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى وأنمت عيناً لم تكن بك تهجعُ
ما روضـة الاتمـنـّت أنّها لك حفرة ولخط قبرك مضجع
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة212

[المجلس الثامن]

كان توجّه الحسين عليه السلام من مكّة إلى العراق يوم خروج مسلم للقتال بالكوفة(1) ، وهو يوم التروية ، واستشهد مسلم في الثامن من خروجه وهو يوم عرفة ، وكان قد اجتمع إلى الحسين نفر من أصحابه من أهل الحجاز والبصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه .
ولما أراد التوجّه إلى العراق طاف وسعى وحلّ من احرام جعلها عمرة مفردة وخرج مبادراً بأهله وولده ، ومن انضمّ إليه من شيعته .
وروي عن الفرزدق الشاعر انّه قال :
حججت باُمّي سنة ستّين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، إذ لقيت الحسين عليه السلام خارجاً من مكّة في أسيافه وأتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار ؟
فقيل : للحسين بن علي عليهما السلام .
فأتيته فسلّمت عليه وقلت : أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أعجلك عن الحج ؟
فقال : لو لم أعجل لأخذت ، من أنت ؟
فقلت : امرؤ من العرب ، فوالله ما فتّشني عن أكثر من ذلك .

(1) الارشاد : 218 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة213

ثم قال : أخبرني عن الناس خلفك ؟
فقلت : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وأسيافهم عليك ، والقضاء ينزل من السماء .
فقال : صدقت لله الأمر وكلّ يوم هو في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على اداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيّته والتقوى سريرته .
فقلت : أجل بلّغك الله ما تحب ، وكفاك ما تحذر ، وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها ، وحرّك راحلته وقال : السلام عليك ، ثم افترقنا .
وكان سلام الله عليه لما خرج اعترضه يحيى بن سعيد وجماعة أرسلهم عمرو بن سعيد بن العاص ـ والي يزيد يومئذ على مكّة ـ فأبى عليهم الحسين عليه السلام وامتنع منهم هو وأصحابه امتناعاً قوياً ، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط .
وسار ـ بأبي واُمّي ـ حتى أتى التنعيم(1) فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن

(1) بالفتح ثم السكون وكسر العين وياء ساكنة وميم ، موضع بمكة في الحل ، وهو بين مكّة وسرٍف على فرسخين من مكّة ؛ وقيل : على أربعة ، وهو احد المواقيت التي يحرم فيها الحجّاج للعمرة . كان فيه عين ماء ومسجد . وعرف بهذا الاسم لوجود جبل الى يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكّيون بالعمرة . انظر : معجم البلدان 2 : 49 .
قال الطبري (4 : 289) : ولمّا نزل فيه الإمام الحسين عليه السلام في مسيره الكوفة لقي قافلة قادمة من اليمن تحمل بضائع ليزيد ، فاستولى عليها ، ويبدو انّ هدفه كان الاضرار الاقتصادي بالعدو . أمّا رجال القافلة فقد خيّرهم الإمام بين المسير معه إلى كربلاء أو ان يدفع لهم اُجرة الطريق ليسيروا حيث ما شاءوا ، وقد سار معه جماعة منهم .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة214

فاستأجر من أهلها جمالاً لرحله وأصحابه .
وألحقه عبد الله بن جعفر(1) بابنيه عون ومحمد وكتب معهما إليه كتاباً يقول فيه :
أمّا بعد : فانّي أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي فانّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفئ نور الأرض ، فانّك علم المهتدين ، ورجاء المؤمنين ، فلا تعجل في المسير فانّي في أثر كتابي والسلام .
وذهب عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين أماناً ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو في ذلك ، وأنفذ كتابه مع أخيه يحيى وعبد الله بن جعفر ، ودفعا إليه الكتاب ، وجهدا به في الرجوع .
فقال : إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام ، وأمرني بما أنا ماضٍ فيه .
ولمّا يأس عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمداً بلزومه والمسير معه ، والجهاد دونه ، ورجع مع يحيى بن سعيد إلى مكّة .(2)
وتوجّه الحسين عليه السلام نحو العراق مغذاً لا يلوي على شيء ، حتى

(1) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بحر الجود ، وأخباره في الجود والكرم والحلم لا تحصى ، وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات :
وما كنت كالأغر بن جعفر رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا
انظر : الاصابة 2 : 289 ـ 290 ، أسد الغابة 3 : 199 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 218 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة215

نزل ذات عرق(1) فلقي بشر بن غالب(2) وارداً من العراق ، فسأله عن أهلها .
فقال : خلفت القلوب معك ، والسيوف مع بني اميّة .
فقال : صدق أخو بني أسد إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .(3)
ولما بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الحسين عليه السلام من مكّة ، بعث صاحب شرطته الحصين بن نمير(4) حتى نزل القادسية ، ونظم الخيل ما بين

(1) ذات عرق مُهَلّ أهل العراق ، وهو الحدّ بن نجد وتهامة . اسم لمنزل بين مكّة والعراق ، يبعد عن مكّة مسافة منزلين ، وهو ميقات إحرام القادمين من شرقي مكّة ؛ وقيل : عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق .
وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمّة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق ، وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق . انظر : معجم البلدان 4 : 107 ـ 108 .
وهو من المنازل التي مرّ بها سيّد الشهداء بعد وادي العقيق ، وتوقف فيه يوماً أو يومين ، ثم شدّ رحاله وواصل المسير ، وفي هذا المنزل لقي الإمام بشر بن غالب وكان قادماً من العراق ، وسأله عن وضع العراق ، فقال له : القلوب معك والسيوف عليك . وسار الإمام إلى المنزل التالي هو «غمرة» . ومن هذا المنزل بعث كتاباً إلى أهل الكوفة يخبرهم فيه بنبأ قدومه إليهم ، وأنفذوه بواسطة قيس بن مسهر الصيداوي . انظر : مقتل الحسين للمقرّم : 204 .
(2) في مستدركات علم الرجال (2 : 33) : بشر بن غالب الأسدي الكوفي ، من أصحاب الحسين والسجاد ، قاله الشيخ في رجاله ، والبرقي عدّه من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين والسجاد عليهم السلام ، وأخوه بشير ، رويا عن الحسين دعاءه المعروف يوم عرفة بعرفات ... وله روايات عن الحسين ذكرت في عدّة الداعي ، ويروي عنه عبد الله بن شريك .
(3) مثير الأحزان : 21 .
(4) الحصين بن نمير بن نائل أبو عبد الرحمن الكندي ثم السكوني ، وهو من قادة الأمويين القساة ، من أهل حمص ، كان مبغضاً لآل علي ؛ ففي معركة صفّين كان إلى جانب معاوية ، وفي عهد يزيد كان قائداً على قسم من الجيش ، وفي واقعة مسلم بن عقيل سلّطه ابن زياد على دور أهل الكوفة ، ليأخذ مسلم ويأتيه به ، وهو الذي أخذ قيس بن مسهّر رسول الحسين عليه السلام فبعث به إلى ابن زياد فأمر به فقتل ، وهو الذي نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ورمى به الكعبة لمّا تحصّن ابن الزبير في =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة216

القادسية(1) إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانية(2) .
ولمّا بلغ الحسين عليه السلام الحاجز(3) من بطن الرمّة بعث قيس بن مسهر الصيداوي ـ وقيل بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ـ إلى الكوفة ، ولم

= المسجد الحرام ، وهو قاتل سليمان بن صرد أثناء ثورة التوّابين ، وهو الذي سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن شعر رأسه بعد قوله عليه السلام : «سلوني قبل أن تفقدوني» ، وفي عهد يزيد شارك في الهجوم الذي امر يزيد بشنّه على المدينة المنوّرة ، مات في عام 68 هـ متأثّراً بجراح أصابه بها إبراهيم بن الأشتر في الوقعة التي جرت على ضفاف نهر الخازر ، وجاء في بعض الأخيار انّه أخذ رأس حبيب بن مظاهر بعد مقتله وعلّقه في رقبة فرسه ودار به في الكوفة مفتخراً ، فكمن له فيما بعد القاسم بن حبيب وقتله ثاراً لدم أبيه ، وجاء في مصادر أخرى انّه قتل على يد أصحاب المختار الثقفي عام 66 هـ قرب الموصل في وقت حركة المختار . انظر : مروج الذهب 3 : 71 ، التهذيب لابن عساكر 4 : 371 ، الأعلام 2 : 262 .
(1) اسم موضع قبل الكوفة ويبعد عنها خمسة عشر فرسخاً (وعن بغداد 61 فرسخاً) . وفي هذا المكان وقعت المعركة المعروفة باسم القادسية بين الجيش الاسلامي والفرس في زمن الخليفة الثاني ، وانتصر فيها المسلمون ، وفي هذا المكان قبض الحصين بن نمير (رئيس شرطة ابن زياد في تلك المنطقة) على مبعوث الحسين ، قيس بن مسهر الصيداوي ، وأرسله إلى ابن زياد وكان قيس يحمل كتاباً من الحسين إلى أهل الكوفة ، ولما قبض عليه مزق الكتاب باسنانه لكي لا تقع أسماء المخاطبين بيد العدو . انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : 49 .
(2) موضع قرب الكوفة في جهة البرية بالطف ، وهو أحد المنازل من القادسية إلى الشام ، كان به سجن النعمان ، وقد كانت المنطقة بين القادسية والقطقطانية قد نظم فيها ابن زياد قوات الاستطلاع لمنع الناس من الالتحاق بالحسين عليه السلام . انظر : الحسين في طريقه إلى الشهادة : 50 .
(3) وقيل : الحاجر ، اسم ارض ومنزل على الطريق من مكة إلى العراق ، وملتقى طريقي الكوفة والبصرة عند المسير إلى المدينة ، ومعناه : الموضع الذي يحجز فيه الماء .
وفي معجم البلدان : بطن الرمة واد معروف بعالية نجد ، وقال ابن دريد : الرمة قاع عظيم بنجد تنصبّ إليه أودية .
وفي هذا المنزل تسلّم الإمام الحسين كتاب مسلم بن عقيل من الكوفة ، وكتب الجواب إلى أهل الكوفة وأرسله مع مبعوثه قيس بن مسهّر . انظر : معجم البلدان 1 : 666 ، مراصد الاطلاع 2 : 634 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة217

يكن عليه السلام علم بخبر ابن عقيل وكتب معه إليهم :
بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي .
إلى اخوانه من المؤمنين والمسلمين :
سلام عليكم فانّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو .
أمّا بعد : فانّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا ، والطلب بحقّنا ، فسألت الله أن يحسن لكم الصنع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فانّي قادم عليكم في أيامي هذه والسلام .
وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة : أن لك هنا مائة الف سيف فلا تتأخّر .
وأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين عليه السلام حتى انتهى إلى القادسية ، أخذه الحصين بن نمير فبعث به الى ابن زياد فأمره اللعين أن يسبّ الحسين وأباه وأخاه على المنبر ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
أيها الناس إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق الله ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا رسوله إليكم فأجيبوه ، ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه ، واستغفر لعلي بن أبي طالب وصلّى عليه .
فأمر ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر ، فرموا به فتقطّع .
وروي : أنّه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ،

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة218

فجاءه عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه .
وأقبل الحسين عليه السلام من الحاجز يسير نحو الكوفة فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي ، فلمّا رأى الحسين عليه السلام قام إليه فقال :
بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله ما أقدمك ؟ واحتمله فأنزله .
فقال له الحسين عليه السلام : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم .
فقال ابن مطيع : اذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الاسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني اُميّة ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً ، والله انّها لحرمة الاسلام تنهتك ، وحرمة قريش ، وحرمة العرب ، فلا تفعل ، ولا تأت الكوفة ، ولا تعرض نفسك لبني اُميّة .
فأبى الحسين عليه السلام إلا أن يمضي انجازاً لمقاصده السامية .
وكان ابن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة(1) إلى طريق الشام إلى طريق البصرة فلا يدعون أحداً يلج ، ولا أحداً يخرج .
وأقبل الحسين عليه السلام فلقي الأعراب فسألهم فقالوا : ما ندري ، غير أنّا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار ـ بأبي واُمّي ـ تلقاء وجهه .

(1) اسم أحد المنازل بين مكّة والكوفة ويبعد عن الكوفة مسير ثلاثة أيّام ، وقد مرّ به الحسين بن علي عليه السلام في مسيره إلى كربلاء ، وهنالك مواضع اُخرى بهذا الاسم في طريق مكّة وفي اليمامة ، وفي واقصة منارة مبنية من قرون وأضلاف صيد الصحراء بناها ملك شاه السلجوقي . انظر : آثار البلاد : 336 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة219

وحدّث جماعة من فزارة وبجيلة ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي(1) حين أقبلنا من مكّة فكنّا نساير الحسين عليه السلام ، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل فإذا نزل منزلاً لم نجد بدّاً من أن ننازله فيه ، كنّا ننزل في جانب غير الجانب الذي ينزل فيه الحسين عليه السلام .
فبينا نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام حتى سلّم ، ثمّ قال :

(1) زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانيّة ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، وكان له يوم عاشوراء شرف القتال إلى جانب الحسين بن علي عليه السلام ، وقد أبدى شجاعة منقطعة النظير في سوح الوغى ، كان في بداية أمره مؤيّداً لأنصار عثمان . إلا انّ حسن حظّه جعل له حسن العاقبة ليكون من شهداء كربلاء الأجلاء .
ولمّا اغلق جيش الحر الطريق على الإمام ، استأذن زهير الإمام الحسين وتكلّم معهم ، ثم عرض على الامام مقاتلتهم إلا انّه لم يوافق على رأيه .
وتحدث في يوم عاشوراء معلناً عن موقفه القاطع في مناصرة الحسين ، واستعداد للبذل في سبيله وقال : لو اقتل ألف مرّة ما تركت نصرة ابن رسول الله .
وفي يوم العاشر من محرّم جعله الحسين عند تعبئة عسكره على الميمنة ، وزهير أول من خطب بالقوم بعد الحسين ، وهو يحمل سلاحه ، وابلغ لهم في النصح ، فرماه الشمر بسهم ، وجرى حوار بينه وبين الشمر .
وفي ظهيرة يوم العاشر وقف هو وسعيد بن عبد الله يقيان الإمام من السهام حتى ينهي صلاته . وبرز بعدها إلى القتال ، وقاتل قتال الأبطال وكان حينها يرتجز قائلاً :
انا زهير وانـا ابـن القين اذودكم بالسيف عن حسينِ
انّ حسيناً أحد السبطـيـن من عترة البرّ التقي الزينِ
ذاك رسول الله غير المين اضربكم ولا ارى من شينِ
يا ليت نفسي قسمت قسمين
انظر : تاريخ الطبري 5 : 396 ـ 397 و6 : 42 و422 ، رجال الشيخ : 73 ، أنصار الحسين : 88 ، أعيان الشيعة 7 : 72 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي