المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة233

بأشياخهم ، ولنحفظنّ رسول الله صلى الله عليه وآله في عترته وذرّيّته .
فقال لهم حبيب : معي معي ، فقام يخبط الأرض بهم وهم يعدون خلفه حتى وقف بين أطناب الخيم ونادى :
السلام عليكم يا ساداتنا .
السلام عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله .
هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلا في رقاب من يبتغي السوء فيكم .
وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلا في صدور من يفرّق بين ناديكم .
فخرج إليهم الحسين عليه السلام وقال : أصحابي جزاكم الله عن أهل بيت نبيّكم خيراً .
رجال تواصوا حيث طابت اُصولهم وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا
حماة حمـوا خـدراً أبـى الله هتكه فعـظـّـمـه شـأنـاً وشـرّفـه
فأصبـح نهبـاً للمغـاويـر بعدهم ومنه بنات المصطفى أبرزت حسرا(1)

(1) الدمعة الساكبة : 345 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة234

[المجلس الحادي عشر]

عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال : سمعت أبي يقول : لمّا التقى الحسين عليه السلام وعمر بن سعد وقامت الحرب أنزل الله النصر حتى رفرف على رأس الحسين ثمّ خيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله فاختار لقاء الله .(1)
ثم صاح الحسين عليه السلام :
أما من مغيث يغيثنا لوجه الله ؟ أما من ذابٍ يذبّ عن حرم رسول الله ؟
قال : فإذا الحر بن يزيد الرياحي قد أقبل إلى ابن سعد فقال :
أمقاتل أنت هذا الرجل ؟
فقال : أي والله ، قتال أيسره أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي .
قال : فمضى الحرّ ووقف موقفاً من أصحابه وأخذه مثل الأفكل(2) .
فقال له المهاجر بن أوس(3) : والله إنّ أمرك لمريب ، ولو قيل لي : مَن أشجع

(1) الملهوف : 74 .
(2) الأفكل ـ بفتح الهمزة والكاف ـ : الرعدة .
(3) لم يرد في كتب التراجم .
وفي كتاب تسمية مَن قتل مع الإمام الحسين : 155 ، ذكر من جملة شهداء الأصحاب المهاجر بن أوس من بجيلة .
فهل المهاجر بن أوس اثنان ؟ أم واحد كان في عسكر ابن سعد ثمّ التحق بمعسكر الإمام الحسين عليه السلام واستشهد معه ؟ الله أعلم .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة235

أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟
فقال : والله إنّي اُخيّر بين الجنّة والنار ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحرّقت .
ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين عليه السلام ويده على رأسه وهو يقول :
اللهم إليك أنبت فتب عليَّ ، فقد أرعبت قلوب أولياؤك أولاد بنت نبيّك .
وقال للحسين عليه السلام : جعلت فداك أنا صاحبك الذي حبسك عن الرجوع وجعجع بك ، وما ظنننت أنّ القوم يبلغون بك ما أرى ، وأنا تائب إلى الله تعالى فهل ترى لي من توبة .
فقال له الحسين عليه السلام : نعم ، يتوب الله عليك فانزل .
فقال : أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً وإلى النزول يصير آخر أمري .
ثم قال : كنت أوّل من خرج عليك فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك لعلّي أكون ممّن يصافح جدّك محمّداً صلى الله عليه وآله غداً في القيامة .
فأذن له فجعل يقاتل أحسن قتال حتى قتل جماعة من الشجعان والأبطال ثمّ استشهد فحمل إلى الحسين عليه السلام فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول :
أنت الحر كما سمّتك اُمّك حرّاً في الدنيا والآخرة .(1)
[قال] : وخرج برير بن خضير وكان زاهداً عابداً فخرج إليه يزيد بن

(1) تاريخ الطبري 5 : 469 ، تاريخ ابن الأثير 6 : 287 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة236

المغفل(1) فاتّفقا على المباهلة إلى الله تعالى : في أن يقتل المحقّ منهما المبطل ، وتلاقيا ، فقتله برير ، ولم يزل يقاتل حتى قُتل رحمه الله تعالى .
[قال] : وخرج وهب بن حباب الكلبي(2) ، فأحسن في الجلاد ، وبالغ في الجهاد ، وكانت معه امرأته ووالدته فرجع إليهما وقال : يا اُمّاه أرضيتِ أم لا ؟
فقالت الاُمّ : ما رضيت الا تقتل بين يدي الحسين عليه السلام .
وقالت امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك.
فقالت له امه: يا بني أعزب عن قول زوجتك وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة .
فرجع ولم يزل يقاتل حتى قُطعت يداه ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأقبل كي يردّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود دون أن أموت معك .
فقال الحسين عليه السلام : «جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً ، ارجعي إلى النساء رحمك الله» فانصرفت إليهنّ .
ولم يزل الكلبي يقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه .
[قال] : ثم خرج مسلم بن عوسجة(3) رحمه الله فبالغ في قتال الأعداء ،

(1) وقيل : يزيد بن معقل ، وهو خبيث ملعون . انظر : ألملهوف : 160 .
(2) في ضياء العينين : 35 : وهب بن عبد الله بن حباب الكلبي ، اُمّه قمرى ، وذكر الكثير من أخباره في واقعة الطف ، أخذها من كتاب الملهوف : 161 .
(3) مسلم بن عوسجة الأسدي ، من أبطال العرب في صدر الإسلام ، أول شهيد من أنصار الحسين بعد قتلى الحملة الأولى ، كان شيخاً كبير السن ، وشخصية أسدية كبرى ، وإحدى الشخصيات البارزة في =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة237

وصبر على أهوال البلاء حتى سقط إلى الأرض وبه رمق ، فمشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب بن مظاهر .
فقال له الحسين عليه السلام : «رحمك الله يا مسلم ،« فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً» .
ودنا منه حبيب رضي الله عنه وقال : عزّ عليَّ مصرعك يا أخي يا مسلم أبشر بالجنّة .
فقال له مسلم قولاً ضعيفاً : بشّرك الله بخيرٍ .
ثم قال له حبيب : لولا أعلم أنّني في الأثر لأحببتُ أن توصي إليّ بكلّ ما

= الكوفة ، وكان صحابياً ممّن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وروى عنه ، كان رجلاً شجاعاً وجريئاً شارك في الكثير من حروب المسلمين ، وشهد مع علي عليه السلام كلّ غزواته .
كان في الكوفة يأخذ البيعة من الناس للحسين بن علي عليه السلام ، وقد جعله مسلم بن عقيل حين ثار بالكوفة على رأس طائفة من مذحج وأسد ، وكان ينهض بجمع المال والسلاح والأنصار .
وفي ليلة عاشوراء لمّا أوعز الإمام الحسين ان يتخذوا ظلام الليل جملاً وينصرفوا وقف مسلم بن عوسجة موقفاً جريئاً وقام متكلّماً وقال : «والله لو علمت انّي اُقتل ثمّ اُحيى ثمّ اُحرق ثمّ أذرى ، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما تركتك فكيف وانّما هي قتلة واحدة ثم الكرامة إلى الأبد» .
وكان ساعة البراز يرتجز :
ان تسألوا عني فانّي ذو لبد من فرع قوم في ذُرى بني أسد
فمن بغانا حايـد عن الرشد وكافرٌ بديـن جبّـار صـمـد

وعند القتال لم يتجرّأ أحد من الأعداء على مبارزته ، فرضخوه بالحجارة ولمّا سقط على الأرض وكان به رمق مشى إليه الحسين عليه السلام وحبيب بن مظاهر ، فدعا له الحسين وبشّره بالجنّة ، ولما اقترب منه حبيب بن مظاهر قال له مسلم : اوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين ـ فقاتل دونه حتّى تموت . انظر : رجال الشيخ : 80 ، تاريخ الطبري 5 : 435 ، بحار الأنوار 45 : 69 ، الأخبار الطوال : 249 ، أنصار الحسين : 108 ، تسمية مَن قتل مع الحسين : 52 وفيه : مسلم بن عوسجة السعدي من بني سعد بن ثعلبة ، قتله مسلم بن عبد الله وعبيد الله بن أبي خشكارة .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة238

أهمّك .
فقال له مسلم : فإنّي اوصيك بهذا ـ وأشار بيده إلى الحسين عليه السلام ـ قاتل دونه حتى تموت .
فقال له حبيب : لأنعُمنّك عيناً .
ثم مات رضوان الله عليه .
إلى أن [قال :] وحضرت صلاة الظهر فأمر الحسين عليه السلام زهير بن القين وسعيد بن عبد الله الحنفي أن يتقدّما أمامه بنصف من تخلّف معه ثمّ صلى بهم صلاة الخوف فوصل إلى الحسين عليه السلام سهم فتقدّم سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه ما زال ولا تخطّى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول :
اللهم العنهم لعن عاد وثمود . اللهم ابلغ نبيّك عنّي السلام وابلغه ما لقيت من ألم الجراح فانّي أردت ثوابك في نصر ذرّيّة نبيّك ، ثمّ قضى نحبه فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح ...
[قال :] وتقدّم سويد بن عمرو بن أبي المطاع(1) وكان شريفاً كثير الصلاة فقاتل قتال الأسد الباسل ، وبالغ في الصبر على الخطب النازل حتى سقط بين القتلى وقد اُثن بالجراح ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون :
قتل الحسين عليه السلام ، فتحامل واخرج من خفّه سكيناً وجعل يقاتلهم

(1) ويعرف أيضاً بـ «سويد بن عمر الخثعمي» . والخثعمي : خثعم بن أنمار بن أرش من القحطانية ، وهو آخر من قتل في ساحة كربلاء ، قتل بعد الحسين عليه السلام ، كان أحد رجلين كانا برفقة الحسين عليه السلام . سقط إلى الأرض جريحاً وكان به رمق ، ولما سمع جيش الكوفة ينادي مستبشراً بقتل الحسين إستفاق وبدأ يقاتل بمديته وسيفه حتى استشهد ، قتله هاني بن ثبيت الحضرمي . انظر : رجال الشيخ : 74 ، المناقب 4 : 102 وفيه : عمرو بن أبي المطاع الجعفي ، تنقيح المقال 2 : 76 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة239

به حتى قتل ...
وجعل أصحاب الحسين يسارعون إلى القتل بين يديه فكانوا كما قيل :
قـوم إذا نـودوا لـدفـع ملمّة والخيل بين مدعّس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع كأنّهم يتهافتون على ذهاب الأنفـس(1)

(1) الملهوف : 166 ، زينة المجالس : 444 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة240

[المجلس الثاني عشر]

لمّا زحف القوم نحو الحسين عليه السلام وطلب العبّاس منهم تأجيل القتال إلى غدٍ ، أمر الحسين عليه السلام أصحابه أن يقرّبوا بيوتهم ، ويدخلوا الأطناب بعضها ببعض ، ويكونوا أمام البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد ، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم .
وقام الحسين عليه السلام وأصحابه الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون ، وباتوا ولهم دوي كدوي النحل ، ما بين قائم وقاعد ، وراكع وساجد ، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر ابن زياد اثنان وثلاثون رجلاً .
ولمّا ضيّقوا على الحسين عليه السلام ونال منه ومن أصحابه العطش قام واتّكأ على قائم سيفه ، ونادى بأعلى صوته فقال :
أنشدكم الله هل تعرفوني ؟
قالوا : نعم أنت ابن رسول الله وسبطه .
قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جدّي رسول الله ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن اُمّي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب ؟
قالوا : اللهم نعم .


المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة241

قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جدّتي بنت خويلد أوّل نساء هذه الامّة إسلاماً ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيّار في الجنّة عمّي ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله هل تعلمون انّ هذا سيف رسول الله أنا متقلّدة ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم [الله] هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لابسها ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم الله هل تعلمون أنّ عليّاً عليه السلام كان أول القوم إسلاماً ، وأعلمهم علماً ، وأعظمهم حلماً ، وانّه ولي كلّ مؤمن ومؤمنة ؟
قالوا : اللهم نعم .
قال : فبم تستحلون دمي وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء ، ولواء الحمد بيد أبي يوم القيامة .
قالوا : قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً .
فلمّا خطب هذه الخطبة وسمع بناته واُخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن الخدود وارتفعت أصواتهن ، فوجّه إليهن أخاه العباس عليه السلام وعليّاً ابنه وقال لهما : سكتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهن .
فلمّا لم يبق معه سوى أهل بيته خرج علي بن الحسين(1) عليه السلام وكان

(1) علي بن الحسين الأكبر ، يكنّى أبا الحسن ، من سادات الطالبيين وشجعانهم ، امّه ليلى بنت أبي مرّة =
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة242

من أصبح الناس وجهاً ، وأحسنهم خلقاً ، فاستأذن أباه في القتال فأذن له ، ثم نظر إليه نظرة آيس منه ، وأرخى عينيه بالدموع وبكى ، ثم قال :
اللهم اشهد فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إليه فصاح وقال : يا بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ، فتقدّم نحو القوم وقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً ، ثم رجع إلى أبيه وقال : يا أبه العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلى شربة ماء من سبيل اتقوّى بها على الأعداء .
فبكى الحسين عليه السلام وقال : واغوثاه ، يا بني من أين آتي لك بالماء ؟ قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقى جدّك محمدا صلى الله عليه وآله فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً .
فرجع إلى موقف النزال وقاتل أعظم قتال ، فرماه منقذ بن مرّة العبدي(1) بسهم فصرعه فنادى :
يا أبتاه عليك منّي السلام ، هذا جدّي يقرؤك السلام ويقول لك : عجّل

= (قرّة) بن عروة (عمرو) بن مسعود بن مغيث (معبد) الثقفي ، واُمّها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب ، كان له من العمر سبع وعشرون سنة ، وردت رواية أنّه كان متزوجاً من اُمّ ولد ، هو أوّل من قتل من بني هاشم ، طعنه مرّة بن منقذ النعمان العبدي وهو يحوم حول أبيه ويدافع عنه ويقيه ، وانهال أصحاب الحسين على مرّة فقطّعوه بأسيافهم ؛ قيل : مولده في خلافة عثمان ، وسمّاه المؤرخون الأكبر تمييزاً له عن أخيه زين العابدين علي الأصغر .
انظر : مقاتل الطالبيين : 80 ـ 81 ، الطبقات الكبرى 15 :156 ، ورجال الشيخ: 76 ، البداية والنهاية 8: 185 ، الأعلام 4 : 227 .
(1) كذا في الأصل وبعض المصادر ، ولكن في تاريخ الطبري 6 : 625 ، والكامل 4 : 30 ، والأخبار الطوال 254 ورد اسمه هكذا : مرّة بن منقذ بن النعمان العبدي ثمّ الليثي .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة243

القدوم إلينا ، ثمّ شهق شهقة فمات .
فجاء الحسين عليه السلام حتى وقف عليه ووضع خدّه على خدّه وقال :
قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا .
قال : وخرجت زينب بنت علي عليه السلام تنادي : يا حبيباه يا بن أخاه ، وجاءت فانكبت عليه ، فجاء الحسين عليه السلام فأخذها وردّها إلى النساء .
ثمّ جعل أهل بيته يخرج منهم الرجل بعد الرجل حتى قتل القوم منهم جماعة .
فصاح الحسين عليه السلام في تلك الحال : صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، فوالله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً .
قال : وخرج غلام كأنّ وجهه شقة قمر ، فجعل يقاتل فضربه ابن فضيل الأزدي(1) على رأسه ، ففلقه ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : يا عمّاه !
فجلس الحسين عليه السلام كما يجلس الصقر(2) ، ثم شدّ شدّة ليثٍ أغضب ، فضرب ابن فضيل بالسيف ، فاتّقاها بالساعد ، فأطنّه من لدن المرفق ، فصاح صيحة سمعه أهل العسكر ، وحمل أهل الكوفة ليستنقذوه ، فوطأته الخيل حتى هلك .
[قال :] ثم قام الحسين على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين يقول : «بُعداً لقومٍ قتلوك ، ومَن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك وأبوك» .

(1) في مقاتل الطالبيين : 88 ذكر اسمه : عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي .
(2) كذا في الأصل ، وفي المصادر : فجلى الحسين عليه السلام كما يجلي الصقر .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة244

ثم قال: «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله كثر واتره وقلّ ناصره» .
ثمّ حمل عليه السلام الغلام على صدره حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته .
[قال :] ولمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبّته ، عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى :
هل من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
هل من موحّدٍ يخاف الله فينا ؟
هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا ؟
هل من معينٍ يرجو الله في إعانتنا ؟
فارتفعت أصوات النساء بالعويل ، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب عليها السلام : «ناوليني ولدي الصغير(1) حتى اودّعه ، فأخذه وأومأ إليه ليقبّله فرماه حرملة ابن كاهل(2) بسهم فوقع في نحره فذبحه .

(1) هو عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، واُمّه الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس ، وفي اسم قاتله اختلاف ؛ فقيل : حرملة ؛ وقيل : عقبة بن بشر .
(2) وهو خبيث ملعون ، لمّا قُبض على حرملة ورآه المختار ، بكى المختار وقال : يا ويلك أما كفاك ما فعلت حتى قتلت طفلاً صغيراً وذبحته ، يا عدوّ الله ، أما علمت أنّه ولد النبي ، فأمر به فجعلوه مرمى ، فرمي بالنشاب حتى مات .
وقيل : إنّه لمّا نظر المختار إلى حرملة قال : الحمد لله الذي مكّنني منك يا عدوّ الله ، ثم أحضر الجزّار فقال له : اقطع يديه ورجليه ، فقطعهما ، ثم قال : عليّ بالنار ، فاحضرت بين يديه ، فأخذ قضيباً من حديد وجعله في النار حتى احمرّ ثم ابيضّ ، فوضعه على رقبته ، فصارت رقبته تجوش من النار وهو يستغيث حتى قطعت رقبته . انظر : حكاية المختار : 55 و59 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة245

فقال لزينب : خذيه ، ثم تلقّى الدم بكفّيه ، فلمّا امتلأت رمى بالدم نحو السماء ثم قال :
هون عليّ ما نزل بي ، انّه بعين الله تعالى .
قال الباقر عليه السلام : فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض .(1)
قال الراوي : واشتدّ العطش بالحسين عليه السلام فركب المسنّاة يريد الفرات والعبّاس أخوه بين يديه فاعترضته خيل ابن سعد ، فرمى رجل من بني دارم الحسين عليه السلام بسهم فأثبته في حنكه الشريف ، فانتزع السهم وبسط يديه تحت حنكه حتى امتلأت راحتاه من الدم ثم رمى به وقال :
اللهم انّي أشكوا إليك ما يفعل بابن بنت نبيّك ، ثم انهم اقتطعوا العباس عنه وأحاطوا به من كل جانب حتى قتلوه قدس الله روحه ، فبكى الحسين لقتله بكاءً شديداً ، وفي ذلك يقول الشاعر(2) :
أحقّ الناس أن يُبكى عليه فتـىً أبكى الحسين بكربلاء
أخـوه وابـن والده عليّ أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومن واساه لا يثنيه شيء وجـاد له على عطش بماء(3)

ولما دخل بشير بن حذلم المدينة المنورة لينعى الحسين عليه السلام التقى باُم البنين(4) «وهي ام العباس» فقال لها :

(1) الملهوف : 169 ، كفاية الطالب : 284 ، إحقاق الحقّ : 454 .
(2) وهو : الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين عليه السلام من أعلام القرن الثاني .
(3) الملهوف : 170 ، مقاتل الطالبيين : 84 ، الغدير 3 : 3 .
(4) هي فاطمة بنت حَزام بن خالد بن ربيعة بن عامر ، واُمّها ثمامة بنت سهيل بن عامر ، وتكنّى : «امّ البنين» قبل تزويجها الإمام علي عليه السلام لأنها من بيت (ام البنين العامريّة) التي قيل فيها :
=

السابق السابق الفهرس التالي التالي