المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة288

فأخبرتها الخبر فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه وقالت : إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت : أرني مصرعه فدللتها عليه ، فبقرت بطنه ، وأخرجت كبده فمضغتها ثمّ لفظتها ، وقطّعت مذاكيره ، وجدعت أنفه ، وقصّت اُذنيه ، ثمّ جعلت ذلك خلخالين ودملجين حتى قدمت بذلك مكّة وقدمت بكبده معها .
قال محمد بن إسحاق : ومن الشعر الذي ارتجزت به هند يوم اُحد :
شفيت من حمـزة نفسي باُحد حين بقرت بطنـه عن الكبـد
أذهب عنّي ذاك ما كنـت أجد من لوعة الحزن الشديد المعتمد
والحرب تعلوكم بشأ بوب برد تقدم اقـداماً عليكـم كالأسـد

وجاءت صفيّة فجلست عند رسول الله صلى الله عليه وآله فجعلت إذا بكت يبكي رسول الله ، وإذا نشجت ينشج ، وجعلت فاطمة تبكي على عمّها ، فلمّا بكت بكى رسول الله صلى الله عليه وآله .
جعلت فداك يا رسول الله ، يا نبي الرحمة ، كيف بك لو رأيت عقائلك يوم عاشوراء وقد ذبح نصب أعينهن ثمانية عشر من حماتهن ، وسبعون من أنصارهن ، وليتك ترى كريمتكم زينب إذ وقفت على أخيها الحسين عليه السلام حافية حاسرة ، ووجدته وهو ريحانتك مزمّلاً بالدماء ، موزّع الأعضاء ، عاري اللباس ، مقطوع الرأس ، مذبوحاً من القفا ، مفطور القلب من الظما ، فنادتك بصوت وقلب كئيب :
يا جدّاه يا رسول الله ، صلّى عليك مليك السما ، هذا حسينك بالعرا ، مزمّلاً بالدما ، مسلوب العمامة والردا ، ثم قالت :
بأبي من لا غائب فيرتجى ، ولا جريح فيداوى ، بأبي من نفسي له الفدا ،

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة289

بأبي المهموم حتى قضى ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من شيبه يقطر بالدما ، بأبي من جدّه رسول إله السما ، فأبكت والله كلّ عدوّ وصديق .
وشتّان ما بين صفيّة إذ قتل أخوها حمزة ، وزينب إذ قتل أهلوها ، أمّا صفية فبقي لها رسول الله وأمير المؤمنين ، وأبطال بني عبد المطّلب ، وليوث بني هاشم ، وبقي عزّها ، وسرداق مجدها ، والمهاجرون والأنصار يتفانون دون خباها .. ويا لهف نفسي لزينب ، وبقية العقائل من آل الرسول صلى الله عليه وآله ، إذ أصبحنّ بعد حماتهن غنيمة للقوم الظالمين ، يضربونهن تارة ويسلبونهن اخرى ولقد كانت المرأة منهن تنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه ، ولم يبق لهنّ من يرتجينه لدفع الأعداء ، الاعمر بن سعد لعنه الله ، ولذا صحن في وجهه لما رأينه ، وبكين شاكيات إليه ، فقال لأصحابه : لا يدخل أحد منكم بيوت هذه النسوة ، ولا تتعرّضوا لهذا الغلام المريض ، فسألته النسوة أن يسترجع ما اُخذ منهنّ من الملاحف ليستترن به ، فقال : من أخذ منهن شيئاً فليردّه ، فو الله ما ردّ أحد شيئاً .
عجباً لمـال الله أصبـح مقسّماً في رائـح للظـالمين وغاد
عجباً لآل الله صاروا مغـنـماً لبني الطليق هـديـة وزياد
عجباً لذي الأفلاك لِم لا عطلت والشهب لم تبرز بثوب حداد

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة290

[المجلس الثاني والعشرون]

سار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى خيبر في المحرم الحرام سنة سبع للهجرة في ألف واربعمائة مقاتل ، ومعهم مائتا فرس ، وكانت الوقعة في صفر ، والفتح فيها لأمير المؤمنين عليه السلام بلا ارتياب ، وظهر من فضله في هذه الغزوة ما أجمع على نقله المسلمون ، واختصّ فيها من المناقب بما لم يشاركه فيه أحد من العالمين ، وذلك أنّه قد اتفقت كلمة أهل الأخبار : على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى الراية فيها أبا بكر أولاً فرجع ، ثم أعطاها عمر ثانياً فرجع ولم يكن فتح .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله ـ كما في غزوة خيبر من صحيح البخاري ـ :
لأعطينّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله .
قال : فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها ، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله كلّهم يرجو أن يعطاها .
فقال : أين علي بن أبي طالب ؟
فقالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه .
قال : فارسلوا إليه ، فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية ... إلى آخر الحديث .(1)

(1) المناقب للخوارزمي : 170 فصل «16» ح 203 ، كنز العمّال 13 : 123 ح 36393 أخرجه عن
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة291

وفي تاريخ ابن الأثير : أنّ عليّاً نهض بالراية وعليه حلّة حمراء فأتى خيبر فأشرف عليه رجل من اليهود فقال : من أنت ؟
قال : أنا علي بن أبي طالب .
فقال اليهودي : غُلبتم يا معشر اليهود .
قال : وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني قد ثقبها مثل البيضة وهو يقول :
قد علمت خيبر انّي مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب

فقال علي عليه السلام :
أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندرة

فاختلفا بضربتين ، فبدره علي عليه السلام فقدّ الجحفة والمغفر ورأسه

= الدار قطنيّ والخطيب البغدادي وابن عساكر وفي ص 116 ح 36377 خرّجه مختصراً عن تاريخ أصبهان لابن مندة ، بريقة المحمودية لأبي سعيد الخادميّ 1 : 311 .
أقول : وقد ورد حديث الراية في خيبر ودور الامام علي عليه السلام في قتل مرحب زعيم اليهود وفتح قلاع خيبر في كثير من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة المعتبرة عند الفريقين السنّة والشيعة بأسانيد مختلفة ومتون متواترة .
وقد خصّ العلامة مير حامد حسين أحد أجزاء كتابه عبقات الأنوار ـ الجزء التاسع ـ للبحث والتحقيق في هذا الحديث واثبت أسانيده ودلالته على خلافة الإمام علي عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وجمع في كتابه ما بلغه من الحديث المستخرج في مجاميع أهل السنّة فيما يمتّ بهذه الواقعة التاريخيّة .
وكذلك جمع العلاّمة المحقّق القاضي التستري في موسوعته إحقاق الحق وملحقاته طرق هذا الحديث فعدّدها فكانت العشرات من الصحابة وأكثر من مائة مصدر حديثيّ وتارخي . فليراجعها من أراد الإيقان .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة292

حتى وقع في الأرض ، وأخذ المدينة .
ونقل ابن الأثير(1) ، عن أبي رافع(2) مولى رسول الله صلى الله عليه وآله قال :
خرجت مع علي عليه السلام حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى خيبر فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه يهودي فوقع ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترّس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله على يديه ، ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجتهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه .
قال ابن الأثير : فلمّا فتحت خيبر جاء بلال بصفيّة واُخرى معها على قتلى اليهود ، فلمّا رأتهم التي مع صفية صرخت وصكّت وجهها ، وحثّت التراب على رأسها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لبلال : أنزعت منك الرحمة جئت بهما على قتلاهما ؟!
بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، لم ترض من بلال حين مرّ بيهوديتين على قتلاهما الكفرة والفجرة المحاربين لله ولرسوله ، فكيف بك لو ترى العقائل من خفراتك ، والكريمات من بناتك ، وهنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء ، مكشّفات الوجوه بين الأعداء ، يسوقوهنّ كما تساق الزنوج والديلم ، فمرّوا بهنّ على مصارع قتلاهن ، وفيهم حجّة الله ، ونجوم الأرض من آلك الطاهرين ،

(1) الكامل في التاريخ 3 : 160 .
(2) أبو رافع القبطي مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ، واسمه أسلم ، كان للعبّاس بن عبد المطلب ، فوهبه للنبي صلى الله عليه وآله ، فلمّا بشر النبي باسلام العباس أعتقه ، وشهد أبو رافع مشاهد النبي كلّها ، ولزم أمير المؤمنين عليه السلام من بعده وكان صاحب بيت ماله بالكوفة .
انظر الاستيعاب بهامش الاصابة 1 : 86 ، اسد الغابة 1 : 93 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة293

فوجدتهم على الرمضاء ، وقد اُسري برؤوسهم إلى الكوفة ، فنادت حينئذ عزيزتك بضعة الزهراء عقيلتكم زينب : وامحمّداه ، بناتك سبايا ، وذرّيّتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا ، وهذا حسينك بالعرا ، محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا .
وفي بعض المجموعات : أرادت أن ترمي بنفسها عليه ، فناداها الإمام زين العابدين عليه السلام بصوت أضعفته العلّة :
عمّتاه ، ارحمي ضعف بدني ، ارحمي الجامعة في عنقي ، ودّعي أخاك وأنت على ظهر الناقة .
فجعلت تقول : ودّعتك السميع العليم يا بن اُمّي ، والله لو خيّرت المقام عندك والرحيل لاخترت المقام عندك ، ولو انّ السباع أكلت لحمي .
واعتنقت سكينة جسد أبيها فاجتمعت عليها عدّة من الأعراب حتى جرّوهاعنه ، فوا حرّ قلباه ، كيف عانقته ونحره منحور ، وصدره مكسور ، ورأسه على القنا مشهور ، ويا لهف نفسي كيف رأته عاري الثياب ، معفّراً بالتراب ، أم كيف فارقته مطروحاً بالعراء ، لوحوش الأرض وطير السماء ، لا مغسّلاً ولا مكفّناً ولا مدفوناً .
بلى يا رسول الله ، كان دمه غسله ، والتراب كافوره ، والقنا الخطي نعشه ، وفي قلب من والاه قبره .
لهفـي له وحـريـمـه من حول مصرعه نوادب
يـنـدبنـه بـمـدامـع من حر أجفان سـواكـب
أحسيـن بعـدك لا هنا عيش ولا لـذّت مشـارب
والجسم منـك مجـدّل في الترب منعـفر الترائب
ها نحن بعدك يا غريـ ـب الدار أمسينـا غرائب

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة294

[المجلس الثالث والعشرون]

لمّا جهّز رسول الله صلى الله عليه وآله جيش مؤتة جعل الأمير يومئذ ابن عمّه جعفر بن أبي طالب ، وقال صلى الله عليه وآله : إن اُصيب جعفر فزيد بن حارثة ، فإن اُصيب زيد ، فعبد الله بن رواحة .
وقيل : أنّه قدّم زيداً ، فقال جعفر : ما كنت أرهب أن تستعمل عليَّ زيداً . فقال صلى الله عليه وآله : امض فانّك لا تدري أي ذلك خير .
قال ابن الأثير : ثمّ ساروا فالتقتهم جموع الروم والعرب بقرية من البلقاء يقال لها (مشارف) ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها (مؤتة) فاقتتلوا قتالاً شديداً ، فقاتل زيد براية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر فقاتل وهو يقول :
يا حبذا الجنّـة واقتـرابها طيّبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنى عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها

فلمّا اشتدّ القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ، ثم قاتل القوم حتى قتل ـ وكان أول من عقر فرسه في الاسلام ـ فوجد به بضع وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة ورمية وطعنة .
بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله .
بأبي أنت واُمّي يا بن رسول الله .
لئن وجدوا في جسد عمّك بضعاً وثمانين جرحاً ، فلقد اصبت يوم الطف

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة295

بألف وتسعمائة ، ما بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورضخة بحجر .
رماك الدارمي يا ريحانة المصطفى بسهم فأثبته في حنكك الشريف .
وضربك ابن النسر الكندي على رأسك بالسيف يا حشاشة الزهراء حتى امتلأ برنسك دماً ، فاستدعيت بخرقة شددت بها رأسك تحت العمامة .
ووقفت يا سيّدي لتستريح ساعة ، وقد ضعفت عن القتال ، فأتاك الحجر في جبهتك المباركة ، فأخذت الثوب لتمسح الدم عن وجهك فأتاك سهم مسدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبك الطاهر ، فأخرجته من ظهرك ، فانبعث الدم كأنّه ميزاب .
سهم رمى أحشاك يا بن المصطفى سهم به كبـد الهـداية قد رمي
يا أرض ميدي ، يا سماء تفطّري يا شمس غيبي ، يا جبال تقسي

قال ابن الأثير : فلمّا قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، فتردّد بعض التردّد ، ثم قال يخاطب نفسه :
أقسمت يا نفـس لتنـزلنـّه طائعـة أو لا لتـكـرهنّه
إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة ما لي أراك تكرهين الجنّة
قد طال ما قد كنت مطمئنّة هل كنت الانطفة في شنّة

وقال أيضاً :
يا نفس إن لم تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليتي
وما تمنّيت فقـد اعطـيت إن تفعلي فعلهمـا هـديتِ

وتقدّم فقاتل حتى قتل .
ثمّ ان الخبر جاء من السماء في ساعته إلى النبي صلى الله عليه وآله فصعد المنبر وأمر فنودي الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال :


المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة296

ثار خبر ـ ثلاثاً ـ عن جيشكم هذا الغازي ، إنّهم لقوا العدو ، ثمّ نعى لهم زيداً وجعفراً وعبد الله ، وقال صلى الله عليه وآله ـ بعدها بليلة ـ مرّ بي جعفر البارحة في نفر من الملائكة ، له جناحان مخضّب القوادم بالدم .(1)
وفي ترجمة جعفر من كتاب الاستيعاب(2) : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بعثه إلى مؤتة في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة ، فقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعاً ، ثمّ قتل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله :
انّ الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنّة حيث يشاء .
وقد لحقه في هذه الفضيلة شبل أخيه قمر بني هاشم فانّه قطعت يداه في سبيل الله تعالى وضرب على هامته بعمود من حديد .
ولئن أصيب ذو الجناحين ببضع وثمانين جراحة ، فلقد روي في حديث بني أسد : أنّه لمّا دفنوا العبّاس عليه السلام كانوا كلّما رفعوا منه جانباً سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وامتاز العبّاس بعظيم المواساة ، فانّه لمّا اقتحم المشرعة قال : لا أشرب وأبو عبد الله عطشان .
وهل سمعت بأحد من الأوّلين والآخرين فدى قربة من الماء رجاء أن يشربها أخوه وعياله وأطفاله بنفسه ؟ ووقاها حرصاً على إيصالها إليهم بمهجته ؟
وليتك يا ساقي عطاشى كربلاء أرويت كبدك الحرّى بجرعة منها قبل مقتلك ؟ وليتهم إذ قتلوك أبقوا دماءها لغسلك ، وبالعزيز على سكينة عزيزة أخيك أن تراك ذبيحاً دون يسير من الماء توصله إليها ، ويعزّ على عقيلتكم زينب أن

(1) الإصابة 1 : 237 ، البداية والنهاية 4 : 255 ، تهذيب التهذيب 2 : 98 ، أسد الغابة 1 : 286 ، الطبقات الكبرى 4 : 22 ، حلية الأولياء 1 : 114 .
(2) الاستيعاب 1 : 312 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة297

تراك مقطّعاً نصب عينيها ، وليتك ترى أخاك الوحيد واقفاً عليك وهو ينادي : الآن انكسر ظهري ، الآن تبدّد عسكري وقلّت حيلتي ، ثمّ بكى بكاء شديداً .
أحقّ الناس أن يبكى عليه فتى أبكى الحسيـن بكربلاء
أخوه وابـن والـده عليّ أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومن واساه لا يثنيه شيء وجاد لـه عطـش بـمـاء

ونقل ابن الأثير عن أسماء زوجة جعفر ذي الجناحين رضي الله عنها قالت :
أتاني النبي صلى الله عليه وآله وقد غسلت أولاد جعفر ودهنتهم ، فأخذهم وشمّهم ودمعت عيناه ، فقلت : يا رسول الله أبلغك عن جعفر شيء ؟
قال : نعم ، اُصيب هذا اليوم ، ثمّ أمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعاماً فهو أول طعام عمل في الإسلام .
بأبي أنت واُمّي يا نبي الرحمة ، دمعت عيناك إذ رأيت يتامى ابن عمّك جعفر ، مع أنّهم كانوا في هيئة حسنة ، وزي بهيج ، وأمرت لهم بطعام ، مع انّهم لم يكونوا جياعاً ، رأفة منك ورحمة .
فكيف بك لو رأيت يتاماكم يوم عاشوراء جياعاً عطاشى ، حفاة عراة ، مدهوشين والهين ، مربقين بالحبال ، يخافون أن يتخطّفهم الناس من حولهم ، هذا يضربهم ، وهذا يسلبهم ، وذاك يضرم النار في خيامهم ، وآخر ينتزع الملاحف عن ظهورهم ، وظهور اُمّهاتهم وعمّاتهم .
وليتك يا نبي الرحمة تراهم ليلة الحادي عشر من المحرم وقد أحاطت بهم الأعداء ، وهم يرون ثمانية عشر من حماتهم ، واثنين وسبعين من شيعتهم جثثاً

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة298

على الرمضاء ، ورؤوسهم على أطراف الرماح .
يا رسـول الله لو عاينتـهم وهـم ما بيـن قتـل وسبـا
من رميض يمنع الظل ومن عاطش يسقى أنابيـب القـنا
ومسوق عاثـر يسعـى به خلف محمول على غير وطا
لرأت عيناك منهم منظـراً للحشـا شجـواً وللعين قذى

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة299

[المجلس الرابع والعشرون]

ذكر الزبير بن بكّار ، عن محمد بن الحسن المخزومي ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، عن أبيه ، عن أبي وجرة قال :
لمّا حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ، ومعها بنوها أربعة رجال ، فقالت لهم من الليل :
يا بني إنّكم اسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو انّكم لبنو رجل واحد ، كما انّكم بنوا امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ، ولا غيّرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل ، في حرب الكافرين ، واعلموا أنّ الدار الباقية ، خير من الدار الفانية
، يقول الله تعالى : «يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون»(1) ، فإذا أصبحتم غداً سالمين ان شاء الله تعالى ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها ، وأضرمت لظى عن سياقها ، وجلّلت على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها ، تظفروا بالغنم والكرامة ، في دار الخلد والمقامة .
فخرج بنوها قابلين لنصحها ، عازمين على قولها ، فلمّا أضاء لهم الصبح ، باكروا مراكزهم وأنشأ أوّلهم يقول :

(1) سورة آل عمران : 200 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة300

يا اُخوتي انّ العجوز الناصحة قد نصحتنا إذ دعتـنـا البـارحة
مقالة ذات بيـان واضـحـة فباكروا الحرب الضروس الكالحة
وانّما تلقون عند الصـائحـة من آل سـاسـان الكلاب النائحة
قد أيقفوا منكم بوقع الجائحة وأنتـم بيـن حيـاة صـالـحـة
أو ميتة تورث غنماً رايحة

وتقدّم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ثمّ برز الثاني وهو يقول :
إنّ العجـوز ذات حـزم وجلد والنظـر الأوفق والـرأي السدد
قد أمرتـنا بالسـداد والرشـد نصيحـة منـهـا وبرّاً بـالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد إما لفـوز بـارد عـلـى الكبد
أو ميتة تـورثكـم عـزّ الأبد في جنّة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ثم حمل الثالث وهو يقول :
والله لا نعصي العجوز حرفاً قـد أمـرتنـا حـزنـاً وعطفاً
نصحاً وبـرّاً صـادقاً ولطفا فبادروا الحرب الضروس زحفاً
حتى تلاقوا آل كسـرى لفـّا أو يكشفـوكـم عن حماكم كشفا
إنّا نرى التقصير منكم ضعفا والقتـل فيكـم نجـدة وزلفـى

فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ثم برز الرابع وهو يقول :
لسـت للخـنـسـاء ولا للأخـرم ولا لعمـرو ذي الثـنـاء الأقدم
ان لم أرد في الجيش جيش الأعجم ماضٍ على الحول خضم خضرم
إمّا لفـوز عـاجـل أو مغـنـم أو لوفـاد في السبيـل الأكـرم

ثمّ قاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، فبلغها الخبر فقالت : الحمد لله الذي


المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة301

شرّفني بقتلهم ، وأرجو من ربّي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته .(1)
ذكرت من حال هذه المرأة ، الصالحة ، حال اُمّ وهب بن حباب(2) الكلبي يوم عاشوراء حين برز إلى ثلاثين ألفاً فأحسن في الجلاد ، وبالغ في الجهاد ، وكانت معه امرأته ووالدته فرجع إليهما وقال :
يا اُمّاه أرضيت أم لا ؟
فقالت : يا بني ما رضيت حتى تقتل بين يدي الحسين عليه السلام .
وقالت امرأته : بالله عليك لا تفجعني بنفسك .
فقالت له اُمّه : يا بني أعزب عن قولها ، وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيّك تنل شفاعة جدّه يوم القيامة .
فرجع ولم يزل يقاتل حتى قطعت يداه في سبيل الله تعالى ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : قاتل فداك أبي واُمّي يا وهب دون الطيّبين من حرم رسول الله صلى الله عليه وآله .
فقال لها : كيف كنت تنهيني عن القتال ، والآن تأمرينني به ؟

(1) الاصابة 4 : 286 .
(2) هي بنت عبد ، وزوجة عبد الله بن عمير الكلبي من قبيلة بني عليم ، لمّا عزم زوجها على الخروج من الكوفة لنصرة الحسين ، تعلقت به ليصطحبها معه ، والتحقوا ليلاً بأنصار الحسين في كربلاء ، وفي يوم الطف حينما برز زوجها للقتال ، تناولت هي عموداً وبرزت إلى القتال ، إلا أن الإمام الحسين ردّها وقال : ليس على النساء جهاد ، وبعد مقتل زوجها سارت إليه حتى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول : هنيئاً لك الجنّة ، أسأل الله الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك ، فقال شمر لغلامه رُستم : إضرب رأسها بالعمود ، فضرب رأسها فشدخه ، فماتت مكانها . انظر : تاريخ الطبري 3 : 323 ـ 326 ، الارشاد 2 : 101 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي