المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة302

قالت : لا تلمني يا وهب ، فانّي سمعت من سيّدي ومولاي الحسين كلمة كسرت قلبي ، سمعته يقول : أما من ناصر فينصرنا ؟ أما من موحّد يخاف الله فينا ؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله ؟
فأقبل كي يردّها إلى النساء ، فأخذت بجانب ثوبه ، وقالت : لن أعود حتى أموت معك .
فقال الحسين عليه السلام : جزيتم عن أهل بيتي خيراً ، ارجعي إلى النساء رحمك الله ، فانصرفت إليهنّ ، ولم يزل يقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى .
رجال تواصوا حيث طابت اُصولهم وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا
حمـاة حمـوا خدراً أبـى الله هتكه فعظّمه شـأنـاً وشـرّفـه قـدرا

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة303

الفصل الثالث

في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ومواعظه وارشاداته


المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة304




المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة305

[المجلس الخامس والعشرون]

ومن كلام لأمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله وسلامه عليه :
ألا وانّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضيء بنور علمه ، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دُنياه بطمريه(1) ، ومن طُعمه(2) بقُرصيه(3) ، ألا وإنكم لا تقَدِرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، [وعِفّة وسَداد ؛] والله مـا كنـزت من دنياكـم تبراً(4) ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً(5) ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً ، ولا حُزت من أرضها شبراً ، ولا أخذت منه إلا كقوت أتانٍ دبرةٍ(6) ، ولَهي في عيني أوهى [وأهونُ] من عفصة مَقرةٍ(7) ، بلى ! كانت في أيدينا فدك(8) مِن كلّ ما أظلّته

(1) الطِمر ـ بالكسر ـ : الثوب الخلق البالي .
(2) طُعمه ـ بضم الطاء ـ : ما يطعمه ويفطر عليه .
(3) قُرصيه : تثنية قرص ، وهو الرغيف .
(4) التبر ـ بكسر فسكون ـ : فُتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ .
(5) الوفر : المال .
(6) أتان دبرة : هي التي عُقر ظهرها فقلّ أكلها .
(7) مقرة : مرّة .
(8) فدك : هي قرية بالحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة ، أفاءها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله صلحاً ، فيها عين فوّارة ونخل ، وقد كانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وآله خالصة ، لأنها لم يوجب عليها بخيل ولا ركاب ، وقد أعطاها ابنته الزهراء عليها السلام فكانت بيدها في عهده صلى الله عليه وآله ، وروي إنّه صلى الله عليه وآله قال لفاطمة عليها السلام : قد كان لأمّك خديجة على أبيك محمد صلى الله عليه وآله مهراً ، وأنّ أباك قد جعلها لك بذلك ، وانحلتكها تكون لك ولولدك بعدك ، وكتب كتاب النحلة علي عليه السلام في أديم ، وشهد عليه السلام على ذلك وأمّ أيمن ومولى لرسول
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة306


= الله صلى الله عليه وآله .
وجاء في الأخبار كما في رواية الشيخ عبد الله بن حمّاد الأنصاري ـ أن واردها ـ أربعة وعشرون ألف دينار في كلّ سنة ، وفي رواية غيره سبعون ألف دينار .
راجع : معجم البلدان للحموي : ج 4 ص 238 ، بحار الأنوار : ج 17 ص 378 وج 21 ص 23 وج33 ص 474 ، سفينة البحار للقمّي : ج 2 ص 351 .
وروي عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله منها .
فجاءت فاطمة الزهراء عليها السلام إلى أبي بكر ثم قالت : لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأخرجت وكيلي من فدك ، وقد جعلها لي رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله تعالى ؟
فقال : هاني على ذلك بشهود ، فجاءت بأمّ أيمن ، فقالت له اُمّ أيمن : لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ، أنشدك بالله ألست تعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : «اُمّ أيمن امرأة من أهل الجنة» .
فقال : بلى .
قالت : «فاشهد : أنّ الله عز وجل أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : «فآت ذا القربى حقّه» «الروم : 38» فجعل فدكاً لها طعمة بأمر الله .
فجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟ فقال : إنّ فاطمة عليها السلام ادعت في فدك ، وشهدت لها أم أيمن وعلي عليه السلام ، فكتبته لها ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزّقه ، فخرجت فاطمة عليها السلام تبكي .
فلما كان بعد ذلك جاء علي عليه السلام إلى أبو بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال : يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله .
فقال أبو بكر : هذا فيء للمسلمين ، فإن أقامت شهوداً أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله جعله لها وإلا فلا حقّ لها فيه .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين .
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة307


= قال : لا .
قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟
قال : إياك أسأل البينة .
قال : فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها ؟ وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده ، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهوداً ، كما سألتني على ما ادعيت عليهم ؟
فسكت أبو بكر فقال عمر : يا علي دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فيء للمسلمين ، لا حق لك ولا لفاطمة عليها السلام فيه .
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله ؟
قال : نعم .
قال : أخبرني عن قول الله عز وجل : «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً» «الأحزاب : 33» فيمن نزلت ؟ فينا أم في غيرنا ؟
قال : بل فيكم .
قال : فلو أنّ شهوداً شهدوا على فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بفاحشة ما كنت صانعاً ؟
قال : كنت أُقيم عليها الحد ، كما أُقيمه على نساء العالمين .
قال : إذن كنت عند الله من الكافرين .
قال : ولِمَ ؟
قال : لأنّك كنت رددت شهادة الله به الطهارة . وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، أن جعل لها فدكاً قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبيه ، عليها ، وأخذت منها فدكاً ، وزعمت أنّه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعي عليه» فرددت قول رسول الله صلى الله عليه وآله : البينة على من ادعى ، واليمين على من ادعى عليه !
قال : فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا : صدق والله عليّ بن أبي طالب عليه السلام ! ورجع إلى منزله .
قال : ثمّ دخلت فاطمة المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
=
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة308

السماء ، فشحّت عليها نفوس قومٍ ، [وسَخت عنها نفوس قوم آخرين] ، ونِعم الحَكمُ الله ، وما أصنع بفدكٍ وغير فدك ، والنفس مظانّها(1) في غدٍ جَدث(2) ، تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ، [وحفرة لو زيدَ في فُسحتها ، وأوسعت يدا حافرها ، لاضغطها الحجر والمدر(3) ، وسدّ فُرَجَها(4) التراب المتراكم ، وإنّما هي نفسي اُروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلقِ(5) ،] ولو شئت لاهتديت الطريق ، إلى مُصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، و[لكن] هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ـ ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ـ أو أبيت مِبطاناً وحولي بُطون غرثى(6) ، وأكباد حرّى(7) ، أو أكون كما قال القائل :

=
إنّا قد فقدناك فقـد الأرض وابلها واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب
قد كان جبـريل بالآيـات يؤنسنا فغاب عنا فكـلّ الخير محتجب
وكنت بـدراً ونـوراً يُستضاء به عليك ينزل من ذي العزّة الكتب
تجهّمتنا رجـال واستخـف بنـا إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت منا العيون بتهمال لهـا سكـب

انظر : الاحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 90 ـ 93 ، علل الشرائع للصدوق : ج 1 ص 192 ، ب 151 ح 1 ، تفسير القمّي : ج 2 ص 155 ـ 157 .
(1) المظان : جمع مظنة ، وهو المكان الذي يظنّ فيه وجود الشيء .
(2) جدث ـ بالتحريك ـ : قبر .
(3) المدر : جمع مدرة ، مثل قصب وقصبة وهو التراب المتلبد ، أو قطع الطين .
(4) فُرجَها : جمع فُرجة ، مثال غُرف وغُرفة : كل منفرج بين شيئين .
(5) المزلق : موضع الزلل ، وهو المكان الذي يخشى فيه أن تزل القدمان ، والمراد هنا الصراط .
(6) غرثى : جائعة .
(7) حرّى ـ مؤنث حرّان ـ : أي عطشان .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة309

وحسبك عاراً(1) أن تبيت ببطنةٍ(2) وحولك أكباد تحنّ إلى القِدّ(3)
أأطمع(4) أن يقال أمير المؤمنين ، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر ، وأكون أسوةً لهم في خشونة(5) العيش ! فما خُلقت ليشغلني أكل الطيّبات ، كالبهيمة المربوطة ، همُّها علفها ، أو المرسلة شُغُلُها تَقمُّمها(6) ، تكترش(7) من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ! وكأنّي بقائلكم يقول : «إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ، ومنازلة الشجعان» ، ألا وإنّ الشجرة البرّية(8) أصلب عوداً ، والرواتع الخضرة(9) أرقّ جلوداً ، والنابتات العِذية(10) أقوى وقوداً ، [وأبطأ خُموداً ،] وأنا من رسول الله صلى الله عليه وآله كالصنو من الصنو(11) ، والذراع من العَضُد ، والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها .(12)
بأبي أنت وامي كم تظاهرت العرب على قتالك ، فظهرت عليها
«وردّ الله

(1) كذا في الأصل ، وفي المصدر : داء .
(2) البطنة ـ بكسر الباء ـ : البطر والأشر .
(3) القِد ـ بالكسر ـ : سير من جلد غير مدبوغ .
(4) كذا في الأصل ، وفي المصدر : أأقنع من نفسي بأن يقال : هذا .
(5) كذا في الأصل ، وفي المصدر : جشوبة .
(6) تقمّمها : التقاطها للقمامة ، أي الكناسة .
(7) تكترش : تملأ كرشها .
(8) الشجرة البرّية : التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه .
(9) الرواتع الخضرة : الأشجار والأعشاب الغضّة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية .
(10) النابتات العذبة : التي تنبت عذباً ، والعذي ـ بسكون الذال ـ الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر .
(11) كذا في الأصل ، وفي المصدر : كالضوء من الضوء .
(12) نهج البلاغة (شرح الدكتور صبحي الصالح) : 416 ـ 420 ، كتاب رقم (45) ، كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة310

الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال»(1) بعلي أمير المؤمنين وسيد المجاهدين .
وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له ؟ وهل قامت دعائم الدين ، أو رست قواعد الشرع ، أو علت كلمة التوحيد إلا بجهاده ؟
وهل شهد التنزيل لغيره بأنّه شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ؟
وهل باهى الله عز وجل ملائكة السماء ليلة المبيت على فراش النبي صلى الله عليه وآله بغيره ؟
وهل تولى خدمة النبي وجميع بني هاشم أيّام حصرهم في الشعب غيره ؟ وهل قاسى الخطر ولاقى الأهوال في إيصال القوت إليهم يومئذ سواه ؟
وهل نصر الله نبيّه في جميع المواطن إلا به ؟ وهل قتل عمراً ومرحباً ، وجندل عتبة وشيبة والوليد وغيره ؟
وهل أفنى بني عبد الدار وقتل بني سفيان بن عوف الأربعة يوم اُحد سواه ؟
وهل أذلّ عتاة الشرك وجبابرة الكفرة إلا صارم سطوته ؟
وهل فتح حصون خيبر ودحا بابها ، وقلع الصخرة عن فم القليب ، وسلب العزّة من جبابرة اليمن ومهّد أمرها إلا ماضي عزمه ؟
وهل قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين غيره ؟
وهل باهل باسم غيره جبرائيل :
لا سيف إلا ذو الفقار ولافتى إلا علي

ولقد ورث منه هذه الشجاعة شبله أبو الأئمّة ، وشفيع الامّة أبو عبد الله

(1) الأحزاب : 25 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة311

الحسين عليه السلام حتى قال بعض الرواة :
والله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده ، وأهل بيته وأنصاره أربط جأشاً من الحسين عليه السلام ، وان كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب ، ولقد كان يحمل فيهم وقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر ، ثم يرجع إلى مركزه وهو
يقول : لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ، حتى قتل منها الفاً وتسعمائة عدا المجروحين ، فناداهم ابن سعد لعنه الله :
الويل لكم يا أهل الكوفة أتدرون لمن تقاتلون ؟ هذا ابن الأنزع البطين ، هذا ابن قتّال العرب ، فاحملوا عليه من كلّ جانب ، وكانت الرماة أربعة آلاف فرموه بالسهام ، حتى حالوا بينه وبين رحله ، فصاح بهم :
ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان ، إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون .
فناداه شمر لعنه الله : ما تقول يا بن فاطمة ؟
قال عليه السلام : أنا اُقاتلكم وتقاتلوني والنساء ليس عليهنّ جناح ، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حياً .
فقال الشمر لعنه الله : لك ذلك يا بن فاطمة ، ثم صاح : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه فلعمري انّه كفؤ كريم .
فقصد القوم بالقتال وهو مع ذلك يطلب شربة من الماء ، وكلّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه حتى أجلوه عنه فنادى :
هل من مغيث فيغيثنا ؟

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة312

هل من ناصر فينصرنا ؟
ووقف على جثث أهل بيته وأصحابه فناداهم بأسمائهم ، فاضطربت أجسامهم اضطراب السمكة في الماء :
فناداهم : قـوموا عجالاً فما العرى بدار ولا هذا المقام مقام
فماجت على وجه الصعيد جسومهم ولو أذن الله القيام لقاموا


المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة313

[المجلس السادس والعشرون]

ومن كلام له عليه السلام :
والله لَأَن أبيتَ على حَسَك السعدان(1) مُسهّداً(2) ، أو اُجَرّ في الأغلال مُصفّداً ، أحبّ إليَّ مِن أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد ، وغاصِباً لشيء من الحُطام ، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرع إلى البِلى قفولها(3) ، ويطول في الثرى حلولها .
والله لقد رأيت عقيلاً(4) وقد أملق حتى أستماحني(5) مِن بُرّكم هذا صاعاً . ورأيت صبيانه شُعث الشعور(6) ، غُبر الألوان من فقرهم(7) كأنّما سُوّدَت وجوههم بالعِظلِم(8) ، وعاودني مؤكداً ، وكرّر عليَّ القول مردّداً ، فأصغيت إليه سمعي ، فظنّ أنّي أبيعه ديني ، وأتّبع قياده مُفارقاً طريقتي ، فأحميتُ له حديدة ثم أدنيتها من

(1) كأنّه يريد من «الحسك» الشوك . والسعدان : نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدي .
(2) المسهّد ـ من سهّد ـ : إذا أسهره ، والمصفّد : المقيد .
(3) قفولها : رجوعها .
(4) عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، أبو يزيد ، أعلم قريش بأيامها ومآثرها ومثالبها وأنسابها ، صحابي فصيح اللسان شديد الجواب ، وهو أخو علي وجعفر لأبيهما ، وكان أسنّ منهما ، هاجر إلى المدينة سنة 8 هـ ، عمي في أواخر أيّامه ، توفي أوّل أيام يزيد ؛ وقيل : في خلافة معاوية .
انظر : الاصابة ترجمة رقم 5630 ، البيان والتبيين 1 : 174 ، الطبقات الكبرى 4 : 28 .
(5) قال رحمه الله : أملق : افتقر اشدّ الفقر ، واستماحني : استعطاني .
(6) قال رحمه الله : الشعث : جمع أشعث ، وهو من الشعر المتلبّد بالوسخ .
(7) قال رحمه الله : الغبر : جمع أغبر ، وهو متغيّر اللون شاحبة .
(8) قال رحمه الله : العظلم ـ كزبرج ـ سواد يصيغ به ؛ قيل : وهو النيلج .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة314

جسمه ليعبتر بها ، فضجّ ضجيج ذي دنف(1) مِن ألمها ، وكاد أن يحترق من ميسمها(2) ، فقلت له : ثكلتك الثواكل يا عقيل ! أتئنّ من حديدة أحماها انسانها للعبه ، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه ؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لُظى ؟! وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة(3) في وعائها ، ومعجونة شَنِئتها(4) كأنّما عجنت بريق حيّةٍ أو قيئها ، فقلت : أصلةٌ ، أم زكاةٌ ، أم صدقة ؟ فكلّ ذلك(5) محرّم علينا أهل البيت !(6)
بأبي أنت وامي يا أمير المؤمنين كيف بك لو رأيت أطفالك وأيتام ولدك أبي عبد الله وهم في أشر الذلّة ووثاق السبي ، يساقون عطاشى جياعاً مربطين بالحبال ، وأهل الكوفة يتصدّقون عليهم وهم في المحامل مقرّنين بالأصفاد ، فجعلت صبيتكم لشدّة جوعهم يتناولون بعض الخبز والتمر والجوز ، فصاحت خفرتك وعقيلتك امّ كلثوم :
ويلكم يا أهل الكوفة ، إنّ الصدقة علينا حرام ، وجعلت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وترمي به إلى الأرض ، والناس يبكون على ما أصابهم ، فأطلعت رأسها من المحمل وقالت لهم :
مه يا أهل الكوفة ، تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم ؟ فالحكم بيننا وبينكم الله يوم فصل القضاء .

(1) الدنف ـ بالتحريك ـ المرض .
(2) الميسم ـ بكسر الميم وفتح السين ـ : المكواة .
(3) الملفوفة : نوع من الحلواء أهداها الأشعث بن قيس إلى علي عليه السلام .
(4) شنئتها : كرهتها .
(5) كذا في الأصل ، وفي المصدر : فذلك .
(6) نهج البلاغة (شرح الدكتور صبحي الصالح) : 346 رقم (224) .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة315

فبينا هي تخاطبهم إذا بضجّة قد ارتفعت ، وإذا هم بالرؤوس قد جاؤوا بها على الرماح ، يقدمهم رأس الحسين عليه السلام ، وهو رأس زهري قمري ، أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله ، ولحيته كسواد السبج ، قد نصل منها الخضاب ، ووجهه دائرة قمر طالع ، والريح تلعب بكريمته الشريفة يميناً وشمالاً ، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل حتى سال الدم من تحت قناعها ، وأومأت إليه بحرقة .
يا هلالاً لمّا استتـمّ كمـالاً غاله خسفه فأبدى غروبا
ما توهّمت يا شقيق فؤادي كان هذا مقـدّراً مكتـوبا

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة316

[المجلس السابع والعشرون]

روي المنذر بن الجارودي(1) فيما حدّث به أبو حنيفة الفضل بن الحباب الجمحي ، عن ابن عائشة ، عن معن بن عيسى ، عن المنذر بن الجارود قال :
لمّا قدم علي رضي الله عن البصرة دخل ممّا يلي الطف فأتى الزاوية فخرجت انظر إليه ، فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلّداً سيفاً ، معه راية وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة ، مدجّجين في الحديد والسلاح ، فقلت : من هذا ؟
فقيل : أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وهؤلاء الأنصار وغيرهم ، ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض متقلّداً سيفاً ، متنكّب قوساً معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فقلت : من هذا ؟
فقيل : هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري(2) ذو الشهادتين .

(1) المنذر بن الجارود بن عمرو بن خنيس العبدي ، ولد في عهد النبي وشهد الجمل مع علي عليه السلام ، وولاه علي إمرة اصطخَر ، ثمّ بلغه عنه ما ساءه فكتب إليه كتاباً وعزله ، ولاه عبيد الله بن زياد ثغر الهند سنة 61 هـ ، فمات فيها آخر سنة 61 هـ .
انظر : الإصابة ترجمة رقم 8336 ، جمهرة الأنساب : 279 ، الأغاني 11 : 117 .
(2) خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين : من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وشهد بدراً وما بعدها ، جعل رسول الله صلى الله عليه وآله شهادته شهادة رجلين ، شهد الجمل وصفين واستشهد فيها وهو القائل يومئذ :
=

السابق السابق الفهرس التالي التالي