المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة 317

ثمّ مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول متقلّد سيفاً ، متنكّب قوساً في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية فقلت : من هذا ؟
فقيل لي : أبو قتادة بن ربعي(1) .
ثم مر بنا فارس آخر على فرس أشهب عليه ثياب بيض وعمامة سوداء وقد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافع صوته بقراءة القرآن متقلّد سيفاً ، متنكّب قوساً معه راية بيضاء في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان ، وحوله مشيخة وكهول وشباب ، كأنّ قد اوقفوا للحساب أثر السجود قد أثّر في جباههم ، فقلت : من هذا ؟
فقيل : عمّار بن ياسر(2) في عدّة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم .
ثم مر فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوساً متقلّد سيفاً ، تخطّ رجلاه في الأرض في ألف فارس من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض معه رايات صفراء قلت : من هذا ؟

=
إذا نحـن بايعنا علياً فحسبنا أبو حسـن ممّا نخـاف من الفتن
وفيه الذي فيه من الخير كلّه وما فيهم بعض الذي فيه من حسن

انظر ترجمته في أسد الغابة 2 : 133 ، الاصابة 1 : 425 ـ 426 .
(1) أبو قتادة الحارث بن ربعي بن بلدة (بلدمة) الخزرجي الأنصاري ، من الموالين لأمير المؤمنين عليه السلام ، وشهد معه مشاهده كلّها توفي سنة أربعين وكان بدرياً .
انظر : أسد الغابة 6 : 250 ، الاصابة 4 : 158 .
(2) أبو اليقظان عمار بن ياسر ، أحد الأركان ، وهو جلدة ما بين عين وأنف رسول الله كما ورد في الحديث
انظر ترجمته في : الاصابة 2 : 512 ، أسد الغابة 4 : 130 ـ 135 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة318

قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة(1) في الأنصار وأبناؤهم وغيرهم من قحطان .
ثم مر بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء ، قلت : من هذا ؟
قيل : هو عبد الله بن العباس في عدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله .
ثم تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأوّلين ، قلت : من هذا ؟
قيل : قثم بن العباس(2) ، أو سعيد بن العاص(3) .
ثم أقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضاً واشتبكت الرماح .
ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد مختلفوا الرايات ، في أوّله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنّما كسر وجبر .

(1) قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي : عظيم من العظماء من كرام أصحاب رسول الله ، ومن كرماء العرب وأحد الدهاة ، من الموالين لعلي عليه السلام ، واستمر بعد استشهاد أمير المؤمنين في ولائه للامام الحسن ولم يبايع معاوية إلى أن قال له الحسن عليه السلام : أنت في حلّ من بيعتي .
انظر : أسد الغابة 4 : 425 ، الاصابة 3 : 249 ، الاستيعاب 3 : 224 ـ 231 .
(2) قثم بن العباس بن عبد المطلب : استعمله أمير المؤمنين عليه السلام على مكة .
أخرج الحاكم في المستدرك (2 : 136 ح 4633) بسنده الصحيح عن أبي إسحاق قال : سألت قثم ابن العباس : كيف ورث عليَّ رسول الله صلى الله عليه وآله دونكم ؟ قال : لأنّه كان أولنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً . انظر : أسد الغابة 4 : 392 .
(3) هو سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي .
انظر : الاصابة 3 : 93 ترجمة رقم «3279» .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة319

ـ قال ابن عائشة : وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق كذلك تخبر العرب في وصفها إذا اخبرت عن الرجل : أنّه كسر وجبر ـ كأنّما على رؤوسهم الطير ، وعن ميسرتهم شاب حسن الوجه قلت : من هؤلاء ؟
قيل : هذا علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهذان الحسن والحسين عن يمينه وشماله ، وهذا محمد بن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى ، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وهؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلّى أربع ركعات ، وعفّر خدّيه على التربة وقد خالط ذلك دموعه ثم رفع يديه يدعو : اللهم رب السماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم .
هذه البصرة اسألك خيرها ، وأعوذ بك من شرّها . اللهم انزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين .
اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليَّ ، ونكثوا بيعتي . اللهم احقن دماء المسلمين .
وبعث إليهم من يناشدهم الله في الدماء ، وقال : على مَ تقاتلونني ؟
فأبوا إلا الحرب .
فبعث رجلاً من أصحابه يقال له : مسلم ، معه مصحف يدعو إلى الله فرموه بسهم فقتلوه فحمل إلى علي ، وقالت اُمّه :
يا ربّ إنّ مسلمـاً أتاهم يتلو كتاب الله لا يخشاهم
فخضبوا من دمه لحاهم واُمّه قـائمـة تـراهـم

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة320

وأمر علي عليه السلام أن يصافّوهم ولا يبدءوهم بقتال ، ولا يرموهم بسهم ، ولا يضربوهم ، ولا يطعنوهم برمح ، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء من الميمنة بأخ له مقتول ، وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل .
فقال علي عليه السلام : اللهم اشهد .
تواتر عليه الرمي فقام عمّار بن ياسر فقال : ماذا تنظر يا أمير المؤمنين ؟
فقام علي عليه السلام فقال :
أيها الناس ، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، ولا تتّبعوا مولّياً ، ولا تهتكوا ستراً ، ولا تمثّلوا بقتيل ، ولا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع .(1)
ولقد يعزّ عليك يا أمير المؤمنين بما فعل القوم الظالمون يوم عاشوراء من تسابقهم على نهب بيوت آل الرسول ، وقرّة عين الزهراء البتول ، يسلبونهنّ وينتزعون الملاحف عن ظهورهنّ ثم يضرمون النار في خيامهنّ ، فخرجن حواسر معوّلات ، حافيات باكيات ، ينادين : وا محمداه وا علياه ، بناتك سبايا ، وذرّيتك مقتّلة ، تسفى عليهم ريح الصبا ، هذا حسينك محزوز الرأس من القفا ، مسلوب العمامة والردا ، بأبي العطشان حتى مضى ، بأبي من جدّه المصطفى ، بأبي من أبوه علي المرتضى .
اعزيك فيهم انّهم وردوا الردى بأفئـدة مـا بـلّ غلّتهـا قطـر
وثاوين في حرّ الهجيرة بالعرى عليهم سوافي الريح بالترب تنجر

(1) مروج الذهب 2 : 242 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة321

[المجلس الثامن والعشرون]

ومن خطبة له عليه السلام :
وكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون ، كان في الدنيا غذيّ ترف ، وربيب سرف ، يتعلّل في السرور في ساعة حزنه ، ويفزع إلى السلوة انّ مصيبة نزلت به ، ضنّاً بغضارة عيشه ، وشحّاً بلهوه ولعبه ، فبينا هو يضحك إلى الدنيا ، وتضحك الدنيا إليه ، في ظلّ عيش غفول ، إذ وطأ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيّام قواه ، ونظرت إليه في الحتوف من كثب ، فخالطه بثّ لا يعرفه ، ونجيّ هم ما كان يجده ، وتولّدت فيه فقرات علل ، آنس ما كان بصحّته ، ففزع إلى ما كان عوّده الأطباء ، من تسكين الحرّ بالقارّ ، وتحريك البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلا ثورة حرارة ، ولا حرّك بحار إلا هيّج برودة ، حتى فنر معلله ، وذهل ممرضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجي خبر يكتمونه ، فقائل : هو لما به ، وممّن لهم ايّاب عافيته ، ومصبّر لهم على فقده ، يذكرهم أسى الماضين من قبله ، فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيّرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه .
إلى أن قال عليه السلام : وإنّ للموت لغمرات ، هي أفضع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا .(1)

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 152 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة322

وتالله لا يهوّن سكرات الموت إلا ولاء آل رسول الله صلى الله عليه وآله ، فانّ مواليهم ليبشّره ملك الموت ثمّ منكر ونكير بالجنّة ، وإنّ الملائكة لتزفّ أرواح مواليهم إكراماً لهم حتى تدخلها عليهم كما تزفّ العروس الى زوجها ، وأيم الله إنّ من تمام موالاتهم الحزن لحزنهم ، والبكاء على ما أصابهم ، فحدّثوا أنفسكم بمصارع هاتيك العترة ، وتأسّفوا على ما فاتكم من الفوز بتلك النصرة ، واذكروا واعية الحسين ، وحاله وهو بين ثلاثين ألفاً وحيداً فريداً ، قد حال العطش بينه وبين السماء كالدخان ، وقد نزف دمه ، والحجارة والسهام تأتيه من كلّ جانب ، وأهل بيته وأصحابه كالأضاحي حوله ، ونساؤه نوائح ونوادب من خلفه ، وهو تارة يصبّرهم ويعزّيهم ، وتارة يعظ القوم وينذرهم ، ومرّة ينعى أصحابه ويرثيهم ، واُخرى يقف على جثثهم ويمسح الدماء عن وجوههم ...
ولمّا وقف على ولده علي الأكبر وهو ابن تسع عشرة سنة ، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، فوجده مقطّعاً إرباً إرباً ، نادى بأعلى صوته : قتل الله قوماً قتلوك يا بني ، ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول ، على الدنيا بعدك العفا ...
ولمّا وقف على ابن أخيه القاسم(1) وهو ابن ثلاث عشرة سنة ووجده يفحص برجليه الأرض ، قال : عزّ على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا يغني عنك .
ثمّ وضع خدّه على خدّ الغلام واحتمله ورجلاه يخطّان الأرض ، ففتح الغلام عينيه ، وتبسّم في وجه عمّه ثمّ فاضت نفسه الزكية ، فوضعه بين القتلى من

(1) هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، أخو أبي بكر بن الحسن لأبيه واُمّه المقتول قبله . انظر : مقاتل الطالبيين : 50 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة323

أهل بيته ...
ولمّا وقف على أخيه العباس ، وهو كبش كتيبته ، وحامل لوائه ، وموضع سرّه ، ووجده مرضوخ الهامة بعمود من حديد ، مقطوع الساعدين ، وضع يده على خاصرته ونادى :
الآن انكسر ظهري ، الآن قلّت حيلتي وشمت بي عدوي .
هوى عليه ما هنـالـك قـائـلاً الآن بـان عن اليمين حسامها
الآن آل إلـى التـفـرّق جمعنـا الآن حلّ من البـنـود نظامها
الآن نامت أعين بـك لـم تنـم وتسهّدت اُخرى فـعزّ منـامها
أشقيق روحي هل تراك علمت إذ غودرت وانثالت عليك لئـامها
من مبـلّـغٌ أشيـاخ مكـّة أنـّه قد قلّ ناصرها وغـاب همامها

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة324

[المجلس التاسع والعشرون]

ومن خطبة له عليه السلام :
أمّا بعد : فانّي احذركم الدنيا ، فانّها حلوة خضرة ، حُفت بالشهوات ، وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها(1) ، ولاتؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافذة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو إذا تناهت إلى اُمنية أهل الرغبة والرضا بها ، أن تكون كما قال الله تعالى : «كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كلّ شيء مقتدراً»(2) لم يكن امرؤ منها في حبرة ، إلا أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق من سرائها بطناً ، إلا منحته من ضرّائها ضهراً ، ولم تطله فيها ديمة رخاء ، إلا هتنت عليه مزنة بلاء ، وحريّ إذا أصبحت له منتصرة ، أن تمسي له متنكّرة ، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى(3) ، لا ينال امريء من غضارتها رغباً ، إلا أرهقته من نوائبه تعباً ، ولا يمسي منها في جناح أمن ، إلا أصبح منها على قوادم خوف ، غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها ، لا خير في شيء من أزوادها إلا التقوى ، من استقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر ممّا يوبقه ، وزال عمّا قليل عنه ، كم واثق منها فجعته ، وذوي طمأنينة لها قد صرعته ، وذي ابهة قد جعلته حقيراً ،

(1) قال رحمه الله : حبرتها : يعني بهجتها وسرورها .
(2) سورة الكهف : 45 .
(3) قال رحمه الله : أي كثر فيه الوباء .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة325

وذي نخوة قد ردّته ذليلاً ، سلطانها دول ، وعيشها رنق(1) ، وعذبها اجاج ، وحلوها صبر ، وغذاؤها سمام ، وأسبابها رمام ، حيّها بعرض موت ، وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب .(2)
هذه أنبياء الله وأصفياؤه تغلّبت عليهم الجبابرة ، وتحكّمت فيهم أعداء الله حتى كان بنو اسرائيل ربّما يقتلون بين طلوعي الفجر والشمس سبعين نبيّاً ، ثم يجلسون في أنديتهم كأنّهم لم يفعلوا شيئاً .
ولما بعث الله إسماعيل بن حزقيل الى قومه سلخوا جلده ووجهه وفروة رأسه ، فأتاه ملك من ربّه عزّ وجل يقرؤه السلام ويقول له : قد أمرني الله بطاعتك ، فمرني بما شئت ، فقال عليه السلام : لي بالحسين اُسوة .
بأبي أنت واُمّي يا أبا عبد الله .
بأبي أنت وامي يا من تأسّت به أنبياء الله ، لئن سلخت جلدة وجه إسماعيل وفروة رأسه في سبيل الله ، فلقد أصابك في إعلاء كلمة الله من ضرب السيوف ووخز الأسنّة ، ورمي الأحجار ، ورشق النبال ، ووطيء الخيل ، وعسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ما هو أعظم من ذلك .
تأسّت بك أنبياء الله لكن لم يبلغوا شأوك ، ولا اُصيبوا بما اصبت ، وهل مُني أحد من العالمين بما منيت به ؟ فررت بدمك من حرم جدّك صلى الله عليه وآله إلى حرم الله عز وجل حيث يأمن الوحش والطير ، فلم تأمن فيه على نفسك ،

(1) قال رحمه الله : الرنق : الكدر .
أقول : يقال : عيش رنق ـ بكسر النون ـ : أي كدر ، وماء رنق ـ بالتسكين ـ : أي كدر ، والرنق ـ بفتح النون ـ : مصدر قولك : رنق الماء ـ بالكسر ـ ورنقته أنا ترنيقاً أي كدرته .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 : 226 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة326

ففرت منهم لما خفتهم بعيالك وأطفالك وأهل بيتك ، فلاقيت من أعداء الله ما رفع الله به قدرك ، وعظم به أمرك ، ولقد يعزّ على جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله أن يراك بين ثلاثين ألفاً لا ناصر لك ولا معين ، وأبناؤك واخوتك وأهل بيتك والخيرة من شيعتك مجزّرين كالاُضاحي نصب عينيك ، ورضيعك يذبح وهو على يديك ، وحرمك نوائح ونوادب من خلفك ينادين : واغربتاه ، واضيعتاه .
وبالعزيز على فاطمة الزهراء أن تراك يا عزيزها بين جموعهم وقد ضعفت عن القتال ، ونزف دمك من كثرة الجراح ، وحال العطش بينك وبين السماء كالدخان ، وأنت تنادي :
أما من ناصر فينصرنا ؟
أما من مغيث فيغيثنا ؟
وليت رسول الله رآهم وقد افترقوا عليك أربعة فرق : فرقة بالسيوف ، وفرقة بالرماح ، وفرقة بالسهام ، وفرقة بالحجارة ، حتى ذبحوك عطشاناً من القفا ، وأنت تستغيث فلا تغاث .
ثمّ هجموا على ودائع النبوّة فسلبوهنّ ونهبوا خيامهن ، وأشعلوا فيها النار ، فخرجن حافيات حاسرات ، معوّلات مسلبات ينادين :
وامحمداه واعليّاه ، وما اكتفوا بذلك حتى أجالوا الخيل على جسدك الطاهر ، ورفعوا رأسك على رمح طويل ، وساقوا نساءك وهن عقائل الوحي سبايا ، كأنهنّ من كوافر الديلم ، حتى أدخلوهن تارة على ابن مرجانة ، واُخرى على ابن آكلة الأكباد .
وأعظم ما يشجي الغيور دخولها على مجلس ما بارح اللهو والخمرا
يعارضهـا فيـه الدعـي مسبّة ويصرف عنها وجهه معرضاً كبرا

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة327

[المجلس الثلاثون]

ومن كلام له عليه السلام :
الدنيا دار مني لها الفناء ، ولأهلها منها الجلاء ، وهي حلوة خضراء ، قد عجلت للطالب ، والتبست فارتحلوا منها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد ، ولا تسألوا فيها فوق الكفاف ، ولا تطلبوا فيها أكثر من البلاغ .(1)
هذا الكلام كان من علي عليه السلام وفق فعله ، فانّه ما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً .
قال عبيد الله بن أبي رافع : دخلت عليه يوم عيد فقدّم إليه جراب مختوم ، فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً فأكل منه ، فقلت : يا أمير المؤمنين كيف تختمه ؟
قال : خفت هذين الولدين أن يليناه بسمن أو زيت .
وكان ثوبه مرقوعاً بجلدة تارة ، وبليف اُخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرابيس(2) ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه ، وكان يأتدم بخلّ أو ملح ، فان ترقّى فببعض نبات الأرض ، فان ارتفع فبقليل من ألبان الإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلاً ، وقد طلّق الدنيا ثلاثاً ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام ، فيفرّقها ثم يقول :

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 152 .
(2) الكرباس ـ بالكسر ـ : ثوب من القطن الأبيض .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة328

هذا جناي وخياره فيه إذ كلّ جانٍ يده إلى فيه(1)

ورآه عدي بن حاتم(2) وبين يديه ماء قراح ، وكسيرات من خبز الشعير فقال : لا أرى لك يا أمير المؤمنين أن تظل نهارك صائماً مجاهداً ، وبالليل ساهراً مكابداً ثم يكون هذا فطورك ؟ فقال عليه السلام :
علّل النفس بالقليل وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها(3)

ولم يزل هذا دأبه ، وهذه سجيّته ، حتى ضربه أشقى الآخرين على رأسه في مسجد الكوفة صبيحة ليلة الأربعاء لتسعة عشر مضين من شهر رمضان
المبارك وهو ساجد لله في محرابه ، فبلغ السيف موضع السجود من رأسه ، فقال : بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، فزت وربّ الكعبة لا يفوتنكم ابن ملجم ، واصطفقت أبواب الجامع ، وهبت ريح سوداء مظلمة ، ونادى جبرائيل بين السماء والأرض :
تهدمت والله أركان الهدى ، وانطمست والله أعلام التقى ، وانفصمت والله العروة الوثقى ، قتل ابن عم المصطفى ، قتل الإمام المجتبى ، قتل علي المرتضى ، وجعل الدم يجري على وجهه ، فيخضب به لحيته الشريفة .
واقتدى به ولده أبو عبد الله عليه السلام حيث رماه سنان لعنه الله بسهم

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 26 .
(2) عدي بن حاتم الطائي : أبو طريف ، كان من المنقطعين إلى أمير المؤمنين عليه السلام والعارفين بحقّه ، صاحب المواقف المشهودة في الجمل وصفين وغيرهما ، فقئت عينه يوم الجمل ، واستشهد ابنه محمد فيها ، والآخر يوم النهروان ، قال له معاوية يوماً : ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدم بنيك وأخر بنيه ! فقال عدي : بل أنا ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت .
انظر : الاستيعاب 3 : 141 ، الاصابة 2 : 468 .
(3) مناقب ابن شهر اشوب 2 : 98 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 246 .
المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة329

فوقع في نحره فسقط عن جواده ، وقرن كفّيه جميعاً فكلّما امتلأتا خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول : هكذا ألقى الله وأنا مخضّب بدمي ، مغصوب حقّي .
وخرجت زينب عليها السلام حينئذ من فسطاطها تنادي : وا أخاه وا سيّداه وا أهل بيتاه ، ليت السماء اُطبقت على الأرض ، وليت الجبال تدكدكت على السهل .
وقال هلال بن نافع : وقفت على الحسين عليه السلام وانّه ليجود بنفسه ، فو الله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمائه أحسن منه وجهاً ، ولا أنور منه ، ولقد شغلني نور وجهه ، وجمال هيئته عن الفكرة في قتله .
ومجرّح مـا غيـّرت منـه القـنا حسناً ولا غيّرن منه جديدا
قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى مذ ألبستـه يد الدماء لبودا

المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة330

[المجلس الحادي والثلاثون]

ومن كـلام له عليـه السلام بعد تلاوته «ألهيكم التكـاثر * حتّى زرتم المقابر»(1) .
يا له مراماً ما أبعده ! وزوراً ما أغفله ! وخطراً ما أفظعه ! لقد استخلّوا منهم أي مدّكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد .
أفبمصارع آبائهم يفخرون ! أم بعديد الهلكى يتكاثرون ! يرتجعون منهم أجساداً خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونوا عِبراً ، أحقّ من أن يكونوا مفتخراً ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلّةٍ ، أحجى من أن يقوموا بهم مكان عزّة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية ، لقالت : ذهبوا في الأرض ضلالاً ، وذهبتم في أعقابهم جهّالاً ، تطؤون في هامهم ، وتستنبتون في أجسامهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا ، وانّما الأيّام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم .
أولاؤكم سلف غايتكم وفرّاط مناهلكم ، الذين كانت لهم مقاوم العزّ ، وحلبات الفخر ، ملوكاً وسوقاً ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً ، سلّطت الأرض عليهم ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم ، جماداً لا ينمون ، وضماراً لا يوجدون ..... لئن بليت آثارهم ، وانقطعت أخبارهم ، لقد رجعت فيهم أبصار العبر ، وسمعت عنهم آذان العقول ، وتكلّموا من

(1) التكاثر : 1 ـ 2 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي