مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 63

وفي الأمالي أيضا عن سعيد بن [الـ]مسيّب ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان جالسا ذات يوم وعنده عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ، فقال : « اللهم إنك تعلم إنهم أهل بيتي وأعزّ الخلق عليّ ، فأحبب من أحبهم وأبغض من أبغضهم ، ووال من والاهم وعاد من عاداهم ، وأعن من أعانهم ، واجعلهم مطهرين من كلّ رجس معصومين من كلّ ذنب ، وأيدهم بروح القدس » .
ثم التفت إلى عليّ (عليه السلام) وذكر حديثا طويلا إلى أن قال : « فأما الحسن والحسين فإنهما إبناي وريحانتاي ، وهما سيّدا شباب أهل الجنة ، فليكونا أشدّ عليك من سمعك وبصرك » .
ثم رفع يده إلى السماء وقال : « اللهم أشهد أني محب لمن أحبهما ، ومبغض لمن أبغضهما » .
وروي في إرشاد المفيد أن فاطمة (عليها السلام) دخلت على أبيها في شكواه فقالت : « يا أبت ، هذان ابناك الحسن والحسين ، فورّثهما شيئا » . فقال لها : « أما الحسن فله هديي وسؤددي ، و [ أما الحسين فإنّ له ] جودي وشجاعتي »(1) .

=
جماعة ، منهم : معمّر ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك قال : لم يكن أحد اشبه برسول الله صلى الله عليه وآله من الحسن بن علي عليهما السلام » . ورواه عنه المجلسي في البحار : 43 : 338 ح 10 .
ورواه الإربلي في كشف الغمة : 2 : 142 في ولادته عليه السلام ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 211 ، وعلي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص 29 برقم 16 .
ورواه البخاري في صحيحه : 5 : 33 ، والترمذي في السنن : 5 : 659 ح 3776 ، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق : ص 28 ح 48 وقبله وبعده ، والحاكم النيسابوري في المستدرك : 3 : 168 .
(1) رواه المفيد في الإرشاد : 2 : 6 بإسناده عن أبي رافع قال : أتت فاطمة بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في شكواه التي توفي فيها ، فقالت : يا رسول الله ، هذان ابناك ورّثهما شيئا . فقال : فأما الحسن فإنّ له هديي وسؤددي ، وأما الحسين فإنّ له جودي

=

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 64

وروي في الكتاب المذكور بإسناده عن حذيفة بن اليمان قال : بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جبل ـ أظنّه حراء أو غيره ـ ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من المهاجرين والأنصار ، وأنس حاضر لهذا الحديث ، وحذيفة يحدّث به ، إذ أقبل الحسن بن علي (عليهما السلام) يمشي على هدوء ووقار ، فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : « إن جبرائيل يهديه ، وميكائيل يسدّده ، وهو ولدي ، والظاهر من نفسي ، وضلع من أضلاعي ، هذا سبطي وقرّة عيني ، بأبي هو » .
وقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقمنا معه وهو يقول : « أنت تفّاحتي ، وأنت حبيبي ومهجة قلبي » . فأخذ بيده فمشى معه حتى جلس ، وجلسنا حوله ننظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يرفع بصره عنه ، ثم قال : « إنه يكون بعدي هاديا مهديا ، هذا هدية من ربّ العالمين لينبئ عنّي ، ويعرف الناس آثاري ، ويحيي سنّتي ، ويتولّي أموري في فعله ، ينظر الله إليه فيرحمه ، رحم الله من عرف له ذلك ، وبرّني فيه ، وأكرمني فيه » .
فما قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلامه حتى أقبل إلينا أعرابي يجرّ هراوة له ، فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه قال : « قد جاءكم رجل يكلّمكم بكلام غليظ تقشعرّ منه جلودكم ، وإنه يسألكم عن أموره ، وإنّ لكلامه جفوة » .
فجاء الأعرابي فلم يسلّم وقال : أيّكم محمد . قلنا : وما تريد ؟
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « مهلا » .
فقال : يا محمد ، لقد كنت أبغضك ولم أرك ، والآن فقد ازددت لك بغضا !

=
وشجاعتي
ورواه الصدوق في الخصال : ص 77 ح 122 و123 ، والخوارزمي في مقتل الحسين عليه السلام : 1 : 105 ، وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق : ص 123 ح 197 ، والكنجي في كفاية الطالب : ص 424 باب 8 ، وابن حجر لفي الإصابة : 4 : 316 ، والطبرسي في إعلام الورى : ص 210 ، والإربلي في كشف الغمّة : 2 : 142 عند ذكر ولادة الحسن عليه السلام ، والفتال النيسابوري في روضة الواعظين : ص 135 ، والعلامة المجلسي في البحار : 43 : 263 ح 10 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 65

قال : فتبسم رسول الله وغضبنا لذلك وأردنا بالأعرابي إرادة ، فأومأ إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن اسكتوا ، فقال الأعرابي : يا محمد ، إنك تزعم إنك نبيّ ، وأنك قد كذبت على الأنبياء ! فهات من برهانك شيئا .
فقال له : « يا أعرابي ، وما يدريك » ؟
قال : فخبّرني ببرهانك .
قال : « إن أحببت خبّرك عضو من أعضائي فيكون ذلك آكد لبرهاني » .
قال : أو يتكلم العضو .
قال : « نعم ، يا حسن قم » .
فازدرى(1) الأعربي نفسه فقال : هو ما يأتي به ويقيم لنا صبيا ليكلّمني .
قال : « إنك ستجده عالما بما تريد » .
فابتدره الحسن (عليه السلام) وقال : « مهلا يا أعرابي .
ما سألت غبيّا سألت وابن غبيّ بل فقيها إذاً وأنت الجهول
إن تكن قد جهلت يأويك قدري فلديّ الجواب يا ذا السؤال
ولديّ العلوم من عالم الغيب وارثا أسدى إلى الرسول (2)

لقد بسطت لسانك ، وعدوت طورك ، وخادعتك نفسك ، غير أنك لا تبرح حتى تؤمن إن شاء الله تعالى
» .
فتبسّم الأعرابي وقال : هيه .
فقال الحسن (عليه السلام) : « نعم ، اجتمعتم في نادي قومك وتذاكرتم ما جرى بينكم

(1) أي احتقره الأعرابي لصغر سنه .
(2) في العدد القوية بدل البيتين الأخيرتين :
فإن تك قد جهلت فإنّ عندي شفاء الجهل ما سئل السؤول
وبحرا لا تفسّحـه الدواني تراثــا كان أورثه الرسول
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 66

على جهل وخرق منكم ، فزعمتم أن محمداً لصبور (1) والعرب قاطبة تبغضه ولا طالب له بثاره ، وزعمت أنك قاتله ، وكان في قومك مؤونته ، فحملت نفسك على ذلك ، وقد أخذت قناتك بيدك تؤمّه تريد قتله ، فعسر عليك مسلكك وعمي عليك بصرك ، وأبيت إلا ذلك ، فأتينا خوفا من أن يشتهر أمرك ، وإنك إنما جئتنا بخير يراد بك .
وأنبّئك عن سفرك ، خرجت في ليلة طخياء إذ عصفت ريح شديدة اشتدّ منها ظلماؤها وأظلمت سماؤها وأعصر سحابها ، فبقيت مُحر نجما كالأشقر إن تقدّم نحر وإن تأخّر عقر ، لا تسمع لواطي حسّا ولا لنافخ نار جرسا ، تراكمت عليك غيومها ، وتوارت عنك نجومها ، فلا تهتدي بنجم طالع ، ولا بعلم لامع ، تقطع محجة ، وتهبط لجة ، في ديمومة قفر ، بعيدة العقر ، مجحّفة بالسفر ، إذا علوت مصعدا ازددت بعدا ، الريح تخطفك ، والشوك تخبطك ، في ريح عاصف ، وبرق خاطف ، قد أوحشك آكامها ، وقطعتك سلامها ، فأبصرت فإذا أنت عندنا ، فقرّت عينك وظهر دينك (2) ، وذهب أنينك
» .
قال : من أين قلت يا غلام هذا ، كأنك قد كشفت عن سوائد قلبي ، ولقد كنت كأنك شاهدتني ، وما خفي عليك شيء من أمري ، وكأنه علم الغيب !
ثم قال له : وما الإسلام ؟
فقال الحسن (عليه السلام) : « الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله » .
فأسلم وحسن إسلامه ، وعلّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا من القرآن ، فقال : يا رسول الله ، أرجع إلى قومي فأعرّفهم ذلك ، فأذن له ، فانصرف ورجع ومعه من

(1) لعل الصحيح : « لصنبور » ، والصنبور بمعنى الأبتر ومن لا عقب له ، وأصل الصنبور سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض ، وقيل : هي النخلة المنفردة التي يدقّ أسفلها . أراد أنه إذا قطع انقطع ذكره كما يذهب أثر الصنبور ، لأنه لا عقبل له . ( هامش العدد القوية ) .
(2) في العدد القوية : « رينك » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 67

قومه جماعة ، فدخلوا في الإسلام .
فكان الناس إذا نظروا إلى الحسن (عليه السلام) قالوا : لقد أعطي ما لم يعط أحد من الناس (1) .
فلا بدع ولا عجب ، ولا غرو ولا مستغرب ، فهو غصن أيكة النبوة ، ومصباح عرصة الفتوة ، وثمرة شجرة الرسالة ورذاذ (2) سحاب الدلالة ، وأصل الفخر والجلال ، ومظهر الشرف والكمال ، وينبوع عين اللاهوت ، وجذوة مقام الناسوت ، ومسند صدر الملكوت ، وصدر مسند الدسوت ، ولله درّ من قال من الرجال :
صبرا على مضض الزمان فإنما شيــم الزمـان قطيعة الأمجاد
نصبــت حبائلـه لآل محمـد فاغتالهــم صرعـى بكل بلاد
بانوا فعادوني الغرام وعادنــي طـول السقام وملّنــي عوّادي
رحلوا فلا طيف الخيال مواصل جفنـي ولا جفت الهموم وسادي
ويلاه ما للدهـر فــوّق سهمه نحـوي وهزّ عليّ كــلّ حداد
أترى درى أن كنت من أضداده حتـى استشار فكان من أضدادي

فهنيئا لمن فاز بمعلى ولاهم ، ومرئيا لمن نهل من حياض هواهم ، فهم والله الجنن الواقية ، من النار الحامية ، وحبّهم والله الوسائل الوثيقة ، لدخول الجنان الأنيقة ، بهم تمّت النعم وكمل الدين المحترم ، وبهم عرف الواجب ، وميّز السنون والراتب ، وفي أبياتهم نزل القرآن ، وتحت أسجفتهم تلي وحي الرحمان ، وبهم تاب الله على آدم إذ عصاه ، وأعاده لجنة المأوى واجتباه .

(1) رواه رضي الدين علي بن يوسف بن المطهر الحلي في العدد القوية : ص 42 ح 60 من اليوم الخامس عشر ، وعنه المجلسي في البحار : 43 : 333 ح 5 من الباب 16 من تاريخ الإمام الحسن عليه السلام : « باب مكارم أخلاقه وعلمه وفضله عليه السلام » .
(2) الرّذاذ : المطر الضعيف أو الساكن الدائم الصغير القطر كأنّه الغبار . ( المعجم الوسيط )
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 68

روي في كتاب الاحتجاج أنه وفد الحسن بن علي (عليه السلام) على معاوية ، فحضر مجلسه وإذا عنده جماعة من بني أمية ، وهم مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان لعنهم الله أجمعين ، ففخر كل واحد على بني هاشم وذكروا أشياء إساءة للحسن (عليه السلام) ، وبلغت منه مبلغا عظيماً فقال الحسن (عليه السلام) : « أنا شعبة من خير الشعب ، آبائي أكرم العرب ، لنا الفخر والنسب ، والسماحة عند الحسب ، من خير شجرة ، أنبتت فروعا نامية ، وأثمارا زاكية ، وأبدانا قائمة ، فيها أصل الإسلام ، وعلم النبوة ، فعلَونا حين شمخ بنا الفخر ، واستطلنا حين امتنع بنا العز ، بحور زاخرة لا تُنزف ، وجبال شامخة لا تقهر » .
فقال مروان : مدحت نفسك وشمخت بأنفك ، هيهات يا حسن ، نحن والله الملوك السادة ، والأعزة القادة ، لا تبجحنّ ، فليس لك عزّ مثل عزّنا ولا فخر كفخرنا . ثم أنشأ يقول :
شفينا أنفسنا طابت وقورا فنالت عزّها في من يلينا
وأبنا(1)بالعدالة حيث اُبنا وأبنـا بـالملوك مقرّنينا

ثم تكلم المغيرة بن شعبة فقال : نصحت لأبيك فلم يقبل النصح ، لولا كراهيّة قطع القرابة لكنت في جملة أهل الشام ، فكان يعلم أبوك أنّي أصدر الورّاد عن مناهلها بزعارة (2) قيس وحلم ثقيف وتجاربها للأمور على القبائل .
فتكلم الحسن (عليه السلام) فقال : « يا مروان ، أجبنا وخورا ، وضعفا وعجزا ؟ أتزعم أنّي مدحت نفسي وأنا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وشمخت بأنفي وأنا سيّد شباب أهل الجنة ، إنما يبذخ ويتكبر ويلك من يريد رفع نفسه ، ويتبجّح (3) من يريد الاستطالة ، فأما نحن فأهل بيت الرحمة ، ومعدن الكرامة ، وموضع الخيرة ، وكنز

(1) من آب يؤب : أي رجع .
(2) الزعارة ـ بتشديد الراء ـ : شراس الخلق ، والزعرور : سيّئ الخلق . ( الصحاح : 2 : 67 ) .
(3) البجح : الفرح ، وبجحته فتبجح : أي فرحته ففرح . ( مجمع البحرين ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 69

الإيمان ، ورُمح الإسلام ، وسيف الدين ، ألا تصمت ـ ثكلتك أمّك ـ قبل أن أرميك بالهوائل ، وأسمك بميسم تستغني به عن اسمك ؟
فأما إيابك بالنهاب والملوك ، أفي اليوم الذي ولّيت فيه مهزوما وانجحرت مذعورا فكانت غنيمتك هزيمتك ، وغدرك بطلحة حين غدوت به فقتلته ، قبحا لك ما أغلظ جلدة وجهك
» ‍‍!
فنكّس مروان رأسه ، وبقي المغيرة مبهوتا ، فالتفت إليه الحسن (عليه السلام) فقال : « [ يا ] أعور ثقيف ، ما أنت من قريش فأفاخرك ، أجهلتني ويحك وأنا ابن خير الإماء وسيدة النساء ، غذانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعلم الله تبارك وتعالى ، فعلمنا تأويل القرآن ومشكلات الأحكام ، لنا العزة الغلبا ، والكلمة العليا ، والفخر والسنا ، وأنت من قوم لم يثبت لهم في الجاهلية نسب ، ولا لهم في الإسلام نصيب ، عبد آبق ، ماله والافتخار عند مصادمة الليوث ومجاحشة الأقران ، نحن السادة ، ونحن المذاويد القادة ، نحمي الذمار ، وننفي عن ساحاتنا العار ، وأنا ابن نجيبات الأبكار .
ثم أشرت وزعمت [ إلى ] وصيّ خير الأنبياء ، وكان هو بعجزك أبصر ، وبخورك (1) أعلم ، وكنت للردّ عليك منه أهلا ، لو غرك (2) في صدرك ، وبدوّ (3)الغدر في عينك ، هيهات لم يكن ليتّخذ المضلين عضدا .
وزعمت [ لو ] أنك كنت بصفين بزعارة قيس وحلم ثقيف ، فبما ذا ثكلتك أمك بالعجز (4) عند المقامات ؟ وفرارك عند المجاحشات ؟ أما والله لو التفّت عليك من أميرالمؤمنين (عليه السلام) الأشاجع (5) ، لعلمت أنه لم تمنعه منك الموانع ، ولقامت عليك

(1) الخور : الضعف .
(2) الوَغَر ـ محركة ـ : الحقد والضغن ، والعداوة والتوقّد من الغيظ . ( مجمع البحرين ) .
(3) بدا بُدُوّا وبداءاً وبُدوءاً وبَداءة : ظهر .
(4) في المصدر : « أبعجزك » .
(5) الأشاجع : هي مفاصل الأصابع ، واحدها أشجع . ( النهاية : 2 : 447 ) .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 70

المرنّات (1) الهوالع (2) .
وأما زعارة قيس ، فما أنت وقيسا ؟ إنما أنت عبد آبق [ فثقف ] فتسمى (3) ثقيفا ، فاحتل لنفسك من غيرها ، فلست من رجالها ، أنت بمعالجة الشرك (4) وموالج الزرائب (5) أعرف منك بالحروب .
فأما الحلم ، فأيّ الحلم عند العبيد القيون ، ثم تمنّيت لقاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، فذاك والله من قد عرفت أسد باسل ، وسمّ قاتل ، لا تقاومه الأبالسة عند الطعن والمخالسة (6) ، فكيف ترومه الضبعان ، وتتناوله الجعلان ، بمشيتها القهقرى .
وأما وصلتك فمنكولة ، وقرابتك فمجهولة ، وما رحمك منه إلاّ كبنات الماء من خشفان الضبا ، بل أنت أبعد منه نسبا
» .
فوثب المغيرة ، والحسن (عليه السلام) يقول : « عذرنا من بني أمية أن تجاوزنا بعد مناطقة القيون ومفاخرة العبيد » .
فقال معاوية : ارجع يا مغيرة ، هؤلاء بنو عبد مناف ، لا تقاومهم الصناديد ، ولا تفاخرهم المذاويد . ثم أقسم على الحسن (عليه السلام) بالسكوت ، فسكت (7) .
إن فارقت بيضهم في يوم ملحمـة أجفانهـا غمدت في الهـام والقمم
متى سموا صهوات الجرد حقّ بهم مديح نظــم قديـم في نظيرهم
كأنّهم في ظهور الخيل نبت ربـى من شدّة الحزم لا من شـدّة الحزم
من آل هاشم من سادوا الأنام ومن شادوا عماد المعالــي في بيوتهم

(1) الرنين : الصوت ، والمرنّات : البواكي الصائحات عند المصيبة . ( النهاية : 3 : 271 ) .
(2) الهلع : العجزع . ( المصباح : 2 : 353 ) .
(3) في المصدر : « فسمّي » .
(4) الشرك ـ بالتحريك ـ : حبالة الصائد . ( مجمع البحرين ) .
(5) الزرب والزريبة : حصيرة للغنم من خشب . ( الصحاح : 1 : 142 ) .
(6) الخلسة : ما يؤخذ سلبا ومكابرة .
(7) رواه الطبرسي في الاحتجاج : ج 2 ص 45 رقم 151 ، وعنه المجلسي في البحار : 44 : 93 باب 20 ح 8 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 71

أن يتركوا حقهم طوعــا لسيدهم فصاحب الأمر قاض في حقوقهم
فسوف يولى العدا ضربا بمخدمة ويخضب الأرب من جاري نجيعهم
فتشتفي أنفس قد مسّها نصــب من النواصب من عرب ومن عجم

وفي كتاب الإرشاد للمفيد مرسلا قال : روي أنه لما استقرّ الصلح بين الحسن (عليه السلام) وبين معاوية ـ لعنه الله ـ ، خرج الحسن (عليه السلام) إلى المدينة ، كاظما غيظه ، لازما منزله ، منتظرا لأمر ربه عزوجل ، إلى أن تم لمعاوية عشر سنين من إمارته ، وعزم للبيعة على ابنه يزيد ، فسعى ذلك العجل الرجيم في إطفاء نائرة الحسن (عليه السلام) من الوجود ، فبذل في ذلك المجهود ، وتبدّل بالنحوس عن السعود ، وأظهر تلك الأغلال والحقود ، فبلغ به الرأي الفاسد المبعد من رحمة الله والمطرود ، حيث لم يتمكّن من قتله (عليه السلام) جهرا لما جرى من الإيمان والعهود ، بأن يقتله سرا ، وأن يزهق نفسه المقدسة غدرا ، فدسّ إلى جعيدة بنت الأشعث بن قيس ـ كما في أشهر الروايات ـ العطاء والوعود ، وفي بعض رواياته أنها جون بنت الأشعث الكندي ، وهي ابنة أمّ فروة أخت أبي بكر بن أبي قحافة ، وكانت زوجة الحسن عليه السلام ، وأرسل لها من يحملها على سمّه ، وضمن لها أن يزوّجها بابنه يزيد ، وبذل لها عشرة آلاف دينارا ويزيد وأقطاع عشرة ضياع من سقي سورا وسواد الكوفة ومنّاها ، ما تطلب وتريد (1) .
وكان هذا الأمر من معاوية العنيد بعد أشياء عديدة قد دسّها في إهلاك الحسن (عليه السلام) ، مثل ما روي أنه وجّه لرجل من الموصل يدّعي المحبة لأهل البيت (عليهم السلام) بعد انصراف الحسن من عنده كيسا فيه ثلاثة آلاف دينارا وقارورة من السم ، وقال : إذا اغتنمت الفرصة فاجعل هذا السمّ في مطبوخ أو مشروب وأطعمه الحسن ليهلك ونستريح منه . ففعل ، فمرض

(1) انظر الإرشاد للمفيد : 2 : 15 .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 72

الحسن (عليه السلام) من ذلك أياما وشافاه الله تعالى ، فأرسل الملعون كتابا إلى معاوية وذكر فيه أنّ قد سقيت الحسن السمّ ثلاث مرات فلم يؤثر فيه ، وإني انتظر أمرك ، فأرسل له في المرة الثالثة قارورة مملوءة من السمّ القتال ، وكتب له في ظهر المكتوب : أيها الصاحب الوفيّ ، قد أرسلنا لك سما لو وضع منه قطرة في البحر المحيط لهلك جميع الحيتان ، فاجتهد أن تعطيه شيئا منه .
وكم له معه من الغوائل التي قد تناقلتها الأواخر والأوائل ، وكم لاقى منه من العناء القاتل ، والمبالغة في إطفاء هذا النور المضيء والسحاب الهاطل ، ولا لوم عليه في ذلك ، فإنّ قبح عنصره الماحل المنطوي على أعظم القبائح والرذائل قد انهله هذه المناهل .
روى السيد المرتضى في كتاب عيون المعجزات (1) بعض الروايات المرسلة عن الأئمة الهداة أن سبب مفارقة أبي محمد الحسن (عليه السلام) دار الدنيا وانتقاله إلى دار الكرامات (2) أن معاوية بذل لجعيدة بنت الأشعث ما بذل من عشرة آلاف دينار وقطعات (3) كثيرة من شعاب سورا وحمل لها (4) ذلك السمّ القاتل ، فجعلته في طعام ، فجاء وهو صائم مقبلا للإفطار ، فلما وضعته بين يديه قال : « إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله على لقاء سيد المرسلين ، وأبي سيد الوصيين ، وأمي سيدة نساء العالمين ، وعمّي جعفر الطيار في الجنة ، وحمزة سيد الشهداء » (5) .

(1) بل الكتاب للشيخ حسين عبد الوهاب من علماء القرن الخامس .
(2) في المصدر « الكرامة » .
(3) في المصدر : « قطاعات » .
(4) في المصدر : « من شعب سور وسوار الكوفة وحمل إليها » .
(5) رواه الشيخ حسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات : ص 68 ، وعنه المجلسي في البحار : 44 : 140 ح 7 .
وروى القسم الأول منه ابن شهر آشوب في المناقب : 4 : 34 في عنوان : « فصل في تواريخه وأحواله عليه السلام » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 73

وقد سمعت من الأخبار أنه كان (عليه السلام) عالما بما يؤل أمره إليه كما وقع لأخيه وأبيه من قبل ذلك ، وذلك بوصية وأمر من الله قدم عليها ، وبادر بالوصول إليها ، ولله درّ من قال :
إرث البتـول ونحلة الهادي لها غصبـا وعبرتهـا تسحّ وتسجم
وغدا مهاجرهـا وأنصاريهــا كـلّ له فـي ذاك سهــم يُسهم
والمرتضى أرداه في محرابـه بيميــن أشقاهـا الحسام اللهذم
فتكلم الحسن الزكي في حقــه فغــدا بمطلقــة الأذيّـة يكلم
فلذاك سالم مكرها حتى قضـى بالسمّ وهـو المستظــام المسلم
وإذا جرى ذكر الحسين تحدّرت عيني بما فيهــا أســرّ وأكتم
ما كان أدهى يومـه وأمــرّه فلطعمــه حتـى القيامـة علقم
يوم به سـلّ الضلال سيوفــه فغـدت تطبّق في الهدى وتصمم
يوم به كبت الجيـاد من الوجى فانصـاع ذوبلهـا يعضّ ويكدم
يوم به هبــل يقهقه ضاحكـا والبيت يبكــي والمقام وزمزم
يوم نسيم الكفــر فيه زعازع وزعازع الإسلام فيـه تسنّــم

فشوها لها من وجوه تعفّرت جباهها على ربوات النفاق ، وتعسا لها من قلوب تقلّبت على تلعات الشقاق ، وواها لها من نفوس اغمدت البيض الرقاق في نحور خلفاء الملك الخلاق ، وهيأت وألجمت الجرد العتاق لقتال أرباب الاشفاق ، ورمت بدور الإتفاق في منازل الخسف والمحاق ، فكم من نفس أغالوها بالزهاق وأودعوها تحت الطباق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
روى الكليني في روضته ، والنعماني في غيبته بأسانيدهما إلى المفضل بن عمر ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « لما حضرت الحسن الوفاة قال : يا قنبر ، انظر هل ترى وراء بابك مؤمنا من غير آل محمد » .
فقال : الله ورسوله وابن رسوله أعلم [ به مني ] .

مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 74

فقال : « امض فادع لي(1)محمد بن علي » ، يعني ابن الحنفية .
قال : فأتيته ، فلما دخلت عليه قال : هل حدث إلا خير ؟ فقلت : أجب أبا محمد . فعجّل حتى عن شسع نعله فلم يسوّه ، فخرج معي يَعدو ، فلما قام بين يديه سلم عليه فقال له الحسن (عليه السلام) : « اجلس ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات وتموت به الأحياء ، كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى (2) ، فإن ضوء النهار بعضه أضوء من بعض ، أما علمت أن الله عزوجل جعل ولد إبراهيم أئمة وفضل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبورا ، وقد علمت بما استأثر محمد (صلى الله عليه وآله) .
يا محمد بن علي ، إني أخاف عليك الحسد ، وإنما وصف الله تعالى به الكافرين فقال : « كُفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق » (3) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطانا .
يا محمد بن علي ، ألا أخبرك بما سمعت من أبيك (عليه السلام) فيك » ؟

قال : بلى .
قال : سمعت أباك يقول يوم البصرة : « من أحب أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمدا .
يا محمد بن علي ، لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك .
يا محمد بن علي ، إن الحسين (عليه السلام) بعد وفاة نفسي ، ومفارقة روحي جسمي ، إمام من بعدي ، وعند الله تعالى في كتابه الماضي (4) وراثة [ من ] النبي أصافها [ الله عزوجل له ] في وراثة أبيه وأمه ، علم الله أنكم خير خلقه فاصطفى منكم محمدا واختار محمد عليا واختارني علي (عليه السلام) للإمامة (5) ، واخترت أنا الحسين (عليه السلام)
» .

(1) في الكافي : « فقال : ادع لي » .
(2) في الكافي : « الهدى » .
(3) سورة البقرة : 2 : 109 .
(4) في الكافي : « وعند الله جل اسمه في الكتاب الماضي » .
(5) في الكافي : « بالامامة » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 75

فقال له محمد : أنت إمامي ، وأنت وسيلتي إلى محمد (صلى الله عليه وآله) ، والله لوددت أن نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام ، على وإنّ في رأسي كلاما لا تنزفه الدلاء ، ولا تغيّره بعد الرياح (1) كالكتاب المعجم في الرقّ المنمنم ، أهمّ بإبدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل وما جائت به الرسل ، وإنه لكلام يكلّ به لسان الناطق ويد الكاتب [ حتى لايجد قلما ويؤتوا بالقرطاس حمما ] ، ولا يبلغ فضلك وكذلك الله يجزي المحسنين ، ولا قوة إلا بالله .
الحسين أعلمنا علما ، وأثقلنا حلما ، وأقربنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) رحما ، كان إماما قبل أن يخلق ، وقرأ الوحي قبل أن ينطق ، ولو علم الله أحدا خيرا منا ما اصطفى محمدا ، فلما اختار [ الله ] محمد واختار محمد عليا إماما واختارك عليّ بعده واخترت الحسين (عليه السلام) بعدك ، سلمنا ورضينا بما هو الرضا وبما نسلم به المشكلات (2) . (3)
وفي كتاب النصوص والمعجزات بإسناده عن جنادة بن أمية قال : دخلت على الحسن بن علي بن [ أبي ] طالب (عليه السلام) في مرضه الذي توفّي فيه ، وبين يديه طشت يقذف فيه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي سقاه معاوية ، فقلت : يا مولاي ، ما لك لا تعالج نفسك ؟ فقال : « يا عبدالله ، بماذا أعالج الموت » ؟ قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم التفت إليّ وقال : « والله لقد عهد إلينا (4) رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ هذا الأمر يملكه

(1) في الكافي : « نغمة الرياح » .
(2) في الكافي : « ورضينا من هو بغيره يرضى وكنّا نسلم به من مشكلات أمرنا » .
(3) أصول الكافي : 301 ح 2 باب الإشارة والنصّ على الحسين بن علي عليه السلام من كتاب الحجة ، مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وجميع ما بين المعقوفات منه .
ورواه الطبرسي في إعلام الورى : ص 214 في الفصل الثاني من ذكر السبط الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام ، وعنه المجلسي في البحار : 44 : 174 ح 2 من الباب 24 .
(4) في المصدر : « والله أنه لعهد عهده إلينا » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 76

اثنا عشر إماما من ولد عليّ وفاطمة ، ما منا مسموم أو مقتول
» . ثم رفعت الطشت وبكى (صلوات الله عليه) .
قال : فقلت : عِظني يا ابن رسول الله .
قال : « نعم ، استعدّ لسفرك ، وحصِّل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولاتحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنك لاتكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك ، واعلم أن في حلالها حسابا وفي حرامها عقابا وفي الشبهات عتابا ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك ، فإن كان ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر فكنت قد أخذت (1) كما أخذت من الميتة فإن كان العتاب فإن العتاب يسير .
واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .
وإذا أردت عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان . فأخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزوجل ، وإن (2)نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب مَن إذا صحبته زانك ، وإذا خذمته صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك ، وإن قلت صدّق قولك ، وإن صُلت شدّ صولتك (3) ، وإن مددت يدك بفضل مدّها ، وإن بدت عنك ثلمة سدها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن سألته أعطاك ، وإن سكتّ عنه ابتداك ، وإن نزلت إحدى الملمّات بك ساواك (4) ، من لا يأتيك منه البوائق ولاتختلف منه عليك الطرائق ، ولايخذلك عند الحقائق ، وإن تنازعتما منقسما آثرك على نفسه
» .
قال : ثم انقطع نفسه ، فاصفرّ لونه حتى خشيت عليه ، ودخل الحسين (عليه السلام)

(1) في بعض نسخ المصدر : « لم يكن فيه وزر فأخذت كما أخذت من الميتة » .
(2) في المصدر : « وإذا » .
(3) في المصدر : « صولك » .
(4) في بعض نسخ المصدر : « واسا لك » .
مصارع الشهداء ومقاتل السعداء 77

والأسود بن أبي الأسود ، فانكبّ عليه حتى قبّل رأسه وبين عينيه ثم قعد عنده ، فتسارّا جميعا ، فقال الأسود : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إن الحسن (عليه السلام) قد نعيت إليه نفسه .
وتوفي (صلى الله عليه وآله) يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة ، وله سبع وأربعون سنة ، ودفن بالبقيع (1) .
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فيا لها مصائب أقرحت عيون الدين ، وأحرقت قلوب المؤمنين ، وألبست محمد المصطفى ثياب الكئابة ، واركبت علي المرتضى شوامس المناح والصبابة ، وأمطرت فاطمة أمطار الرزايا القاصمة ، فعلى مصاب السبط المسموم ، والشهيد المظلوم ، فلتقد فلذ القلوب بنصال البلايا والكروب ، وتتجافا النفوس عن لذة المطعوم والمضروب ، أو لا تكونون يا ذوي البصائر ، كمن فطرت سيوف الرزء الفاقر ، منه الحشا والمرائر ، وتضرّم قبس الحزن الساعر ، في خبايا الضمائر ، فرثاه بما سنح له من الأشعار ، ولله درّه من شاعر .

(1) ورواه الخزاز القمي في كفاية الأثر : ص 226 باب من جاء عن الحسن عليه السلام ، وعنه المجلسي في البحار : 44 : 138 ح 6 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي