ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 26
دينارا إلا وباركت له في دار الدنيا , الدرهم بسبعين , وكان منعما في الجنة , و غفرت له ذنوبه , يا موسى و عزتي و جلالتي ما من رجل من امتي أو أمة من إمائي جرت من دموع عينيه قطرة واحدة إلا وكتبت له أجر مائة شهيد (1) .
وروي ان نوحا عليه السلام لما ركب السفينة طافت به جميع الدنيا , فلما مر بكربلاء أخذه الموج , وخاف نوح الغرق و فدعى ربه , فنزل جبرائيل و قال : يا نوح في هذا الموقع يقتل الحسين عليه السلام سبط محمد خاتم الأنبياء , فبكى نوح : وقال : يا جبرائيل ومن قاتله ؟ قال : لعين أهل السماوات و الأرض ؛ فلعنه نوح و سارت السفينة (2) .
وروي ان إبراهيم عليه السلم مر بكربلاء وهو راكب على فرسه , فعثرت به الفرس فسقط الى الارض و شج رأسه وسال دمه , فأخذ يكثر من الأستغفار وقال : الهي أي شئ حدث مني ؟ فنزل عليه جبرائيل وقال : يا إبراهيم ما حدث منك ذنب , و لكن هنا يقتل سبط خاتم النبيين , فسال دمك موافقة لدمه , فبكى إبراهيم ثم قال : يا جبرائيل ومن القاتل له ؟ قال : لعين أهل السماوات والأرض , فرفع إبراهيم يديه الى السماء و قـال : اللهم العـن قاتـل الحسين عليه السلام (3) .
وروي ان إسماعيل كانت أغنامه ترعى بشط الفرات , فأخبره الراعي إنها لا تشرب الماء من هذه المشرعة , فسأل إسماعيل ربه عن سبب ذلك , فأوحي الله اليه : سل غنمك فإنها تجيبك عن سبب ذلك , فقال لها إسماعيل لم لا تشربين من هذا الماء ؟ فأجابته بلسان فصيح : قد بلغنا إن ولدك الحسين عليه السلام سبط
(1) ذكره الفاضل الدربندي في أسرار الشهادات : 1/210 , قائلا : ذكر جمع من العلماء حديثا ... (وساق الحديث) .
(2) بحار الأنوار :44 : 243/38 ـ باب (30) عنه باختصار .
(3) بحار الأنوار :44 : 243/39 ـ باب (30) عنه باختصار .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 27
محمد صلى الله عليه واله وسلم يقتل هنا عطشانا , فنحن لا نشرب من هذه المشرعة ؛ فبكى إسماعيل و سألها عن قاتله , قالت : هو لعين أهل السماوات والأرض , فقال إسماعيل : اللهم العن قاتل الحسين عليه السلام (1) .
وروي ان سليمان كان يجلس على بساطه ويسير به في الهواء , فمر ذات يوم بأرض كربلاء , فأدار الريح بساطه ثلاث دورات حتى خاف سليمان السقوط ثم سكنت الريح , فنزل البساط في أرض كربلاء , فقال سليمان للريح : لم سكنتي ؟ فقالت : ان هنا يقتل الحسين عليه السلام , قال : ومن يكون الحسين ؟ قالت : هو سبط محمد خاتم الأنبياء فبكى سليمان , ولعن قاتله , فهبت الريح وسار البساط (2) .
وروي إن عيسى عليه السلام كان سائحا في البراري ومعه الحواريون , فمروا بكربلاء , فرأوا أسدا كاسرا قد أخذ الطريق , فتقدم عيسى الى الأسد وقال له : لم جلست في هذا الطريق ولا تدعنا نمر فيه ؟ فنطق الأسد بكلام فصيح وقال : إني لا أدعكم تمرون حتى تلعنوا يزيد بن معاوية قاتل الحسين ؟ [فقال عيسى عليه السلام ومن يكون الحسين ؟] قال : هو سبط محمد النبي الأمي , فبكى عيسى ومن معه , ثم قال : ومن يقتله قال : لعين أهل السماوات والأرض , فلعنه عيسى ولعنه الحواريون , فتنحى الأسد عن طريقهم فساروا لقصدهم (3) . فالحسين عليه السلام بكاه آدم و جميع الأنبياء عليهم السلام , وهو إذ ذاك بساق العرش , وأما بعد ولادته بكاه جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأبوه علي وأمه فاطمة عليهما السلام , وأما بعد قتله
(1) بحار الأنوار :44 : 243 / 40 ـ باب (30) .
(2) بحار الأنوار :44 : 244 / 42 ـ باب (30) .
(3) بحار الأنوار :44 : 244 / 43 ـ باب (30) .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 28
فقد بكته الملائكة و الشمس والقمر , بل وكل العلوية والسفلية وكل ما خلق الله . ما يرى وما لا يرى , فكيف إذا لا تبكيه عيون المؤمنين الى يوم القيامة :
على مثل هذا الرزء يستحسن البكا وتقلع منا أنفس من سرورها
وهو القائل : أنا عبرة كل مؤمن ومؤمنة , ويحق للموالي أن يقول :
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنما عيني لأجلك باكيه (1)
(1)

(ابوذيه)

نياب الدهر عضني ولاجن على الظل باشمس لا ظل ولا جن
ما لجل الثواب ابچيت لچن لجل شخصك يــبن حامي الحميه

(بحراني)

يلي تناشدني عـليمن تـهمل الـعين كل البكا والنوح والحسرى على احسين
حبه ابگلبي وتظهره ابصبها ادمـوعي مجبور في حـبه ولاشـوفة ابـطوعي
ياليت گبل اضلوعه انرضت ضلوعي ومن گـبل خده اتـعفرت منـي الخدين
ابكي علي مصابه بـكل صبح مـسيه وانحب واساعد على البكا الزهرة الزكيه
ولا زال تندب يا ضحايا الـغاضريـة يا حسين يبـني يا عزيزي يا گرة العين
* * *
أفدي الذي رزؤه أبكى السماء دما وزعزع الدين و الأركان و الحرما
يا من بخيل الأعادي صدره حطما
أي المحاجر لا تبكي عليك دما أبكيت والله حتى محجر الحجر
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 29


المطلب الخامس
في بكاء فاطمة عليها السلام على ولدها الحسين عليه السلام

روى فرات بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق عليه السلام , انه قال : كان الحسين ابن علي عليه السلام مع امه تحمله فأخذه النبي صلى الله عليه واله وسلم و قال : لعن الله قاتلك , ولعن الله سالبك , واهلك الله امتوازرين عليك , وحكم بيني و بين من أعان عليك , فقالت فاطمة يا أبة أي شئ تقول ؟ قال : يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي و بعدك من الأذى و الظلم والغدر [البغي] (1) وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون الى القتل و كأني أنظر الى معسكرهم و إلى موضع قتلهم (2) وتربتهم .قالت : يا أبة وأين هذا الموضع الذي تصف ؟ قال : هو موضع يقال له كربلاء و هي [دار] كرب وبلاء علينا وعلى الامة , يخرج عليهم شرار امتي و إن احدهما لو يشفع فيه السماوات و الأرض ما شفعوا له , وليأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم , اولئك مصابيح الدجى وهم الشفعاء يوم القيامة , واردون حوضي غدا , أعرفهم إذا وردوا عليه بسيماهم فبكت فاطمة عليها السلام , فقال لها رسول الله صلى الله عليه و اله وسلم : يا بنتاه إن أفضل أهل الجنة هم الشهداء الذين بذوا أنفسهم
(1) أثبتناه من المصدر .
(2) في المصدر : رحالهم .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 30
في مرضاة الله , فما عند الله خير من الدنيا ومافيها , ومن كتب عليه القتل خرج إلى مضجعه , ومن لم يقتل فسوف يموت , يا فاطمة بنت محمد أما تحبين إذا تأمرين غذا بأمر فتطاعي في هذا الخلق ؟ أما ترضين أن يكون ولدك من حملة العرش ؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه فيسألونه الشفاعة ؟ أما ترضين أن يكون بعلك من يذود الخلق يوم العطش الأكبر عن الحوض كما يذاد البعير الصادر عن ثناء فيسقي منه أوليائه ويذود عنه اعدائه ؟ يا فاطمة بنت محمد أما ترضين أن يكون بعلك قسيم الجنة والنار ؟ يأمر النار فتطيعه , يخرج منها من يشاء ويترك من يشاء , يا فاطمة بنت محمد أما ترضين أن تنظري إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك و إلى ما تأمرين به ؟ وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله ؟ فما ترين الله صانعا بقاتل الحسين عليه السلام وقاتليك وقاتلي بعلك ؟ يا فاطمة بنت محمد أما ترضين أن الملائمه تيكي على ولدك ؟ أما ترضين أن يكون من ابن ولدك زائرا في ضمان الله ؟ ويكون من أتاه بمنزلة من حج البيت و اعتمر ؟ ولم يخل من الرحمه طرفة عين , وإدذا مات مات شهيدا , وإن بقى لم تنزل الحفظة تدعوا له ما بقي , ولم ينزل في حفظ الله امانه حتى يخرج من الدنيا ؟ قالت فاطمة عليه السلام : يا أبة سلمت ورضيت بذلك (1) .
وفي خبر آخر قالت عليه السلام : يا أبة متى يكون ذلك ؟ قال : في زمان خال مني و منك ومن بعلك , فاشتد بكاءها , وقالت : يا أبة فمن يبكي عليه , ومن يلتزم بإقامة العزاء عليه ؟ فقال لها : بنية إن نساء امتي يبكون على نساء أهل بيتي , ورجالهم يبكون على رجال اهل بيتي , ويجددون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة , فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء , وأنا أشفع للرجال , وكل من يبكي
(1) تفسير فرات الكوفي :1 : 1717/219 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 31
منهم على مصاب الحسين أخدناه بيده وأدخلناه الجنة , يا فاطمة كل عين باكية يوم القيامة الا عين بكت على مصاب الحسين عليه السلام فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة (1) .
وروي : أن فاطمة عليها السلام لما دنت منها الوفاة دعت ابنتها زينب , فشمتها من نحرها , وقبلتها من صدرها , وقالت لها : هذه وديعة لي عندك , فإدا رأيت اخيك وحيدا فريدا شميه في نحره , وقبليه في صدره , فإن نحره موضع سيف ابن ذي الجوشن و إن صدره موضع حوافر خيول بني أميه , قال : فامتثلت الحوراء زينب ذلك , ولما كان يوم عاشوراء وبقي الحسين وحيدا فريدا , أراد أن يودع العيال و يمضي الى القتال , أقبلت إليه ام المصائب وقالت له اخي اكشف لي عن صدرك وعن نحرك , فكشف له الحسين عليه السلام عن صدره , قلته في صدره وشمته في نحره , ثم وجهت وجهها نحو المدينة صائحة : يا اماه قد إسترجعت الوديعة وأخذت الأمانة , فتعجب الحسين من كلامها فقال لها : أخية ومن الأمانة ؟ قالت : اعلم يابن ام لما دنت الوفاة من امنا فاطمة , قربتني اليها وشمتني في نحري وقبلتني في صدري , وقالت لي : يا بني هذه وديعة لي عندك , فإذا رأيت أخاك الحسين وحيدا فريدا شميه في نحره وقبليه في صدره . قال الراوي : فلما سمع بذكر امه بكى! وسمع مناد ينادي بين السماء والأرض : والولداه وا حسينا .
فالزهراء تبكي على ولدها , بل وتحضر جميع المآتم كما روى : أن فضيل صنع مآتما للحسين عليه السلام , ولم يخبر به إمامنا الصادق عليه السلام , فلما كان اليوم الثاني أقبل إلى الإمام روحي فداه , فقال له : يا فضيل اين كنت البارحة ؟ قال : سيدي شغل عاقني , فقال : يا فضيل لا تخفي علي , أما صنعت مأتما وأقمت بدارك عزاء في
(1) بحار الأنوار : 44/292 ـ الحديث (37) .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 32
مصاب جدي الحسين عليه السلام ؟ فقال : بلى سيدي , فقال عليه السلام : وأنا كنت حاضرا , قال : سيدي إذا ما رأيتك ؟! أين كنت جالس ؟ فقال عليه السلام : لما أردت الخروج من البيت أما عثرت بثوب أبيض ؟ قال : بلى سيدي , قال عليه السلام : انا كنت جالسا هناك , فقال له : سيدي لم جلست بباب البيت ولم تصدرت في المجلس ؟ فقال الصادق عليه السلام :كانت جدتي فاطمة بصدر المجلس جالسة , لذا ماتصدرت إجلالا لها .
ففاطمة عليه السلام تحضر في كل عزاء يعقد لولدها الحسين عليه السلام , كما حضرت مصرعه فرأته يوم عاشوراء بعد الظهر بساعة .
تريب المحيا تظن السما بأن على الأرض كيوانها (1)
(1)

(نصاري)

لون حاضرة يحسين يمك وابوك النفل والطيار عمك
چـا ما راح اضياع دمك وظـليت متـحيرة بلـمك

(بحراني)

تناديه يبني من گـطع راسـك والكـفوف من كسر اضلوعك يعقلي بضرب السيوف
ومن گطع اوصالك يعيني بضرب السيوف يا مـهجتي مـذبوح لا مـطـلب ولا دين
يحسين گـلي من گـطع بالسـيف نحرك يا نـور عـيني من وطـا بالخيل صدرك
ومن سلب ايـتامك ويـا هـو حرك خدرك ويا هو الذي شتت بـناتي اشمـال و يمين

(عاشوري)

منـي الوالدة يحسين يبني ويمن ريت ذبـاحك ذبحني
أسعدني على ابني يلتحبني مصابك بهض حيلي وكتلني
* * *
فالمعالي بالعزا قائمة ودموع الأنبيا ساجمة
وعليه حورها لاطمة
ميت تبكي له فاطمة وأبوها وعلي ذو العلى
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 33


المطلب السادس

في بكاء الأئمة وشيعتهم على الحسين عليه السلام
قال الله تعالى : «ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها اربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين» (1) , وهذه الأشهر الأربعة هي : رجب ـ الذي بين جمادي وشعبان ـ الملقب: بالأصم , وذوالقعدة , وذوالحجة , ومحرم (2) .
فهذه الأشهر الأربعة كانت محترمة في الجاهلية , لا يوقعون فيها قتالا , وإذا تنافسوا فيما بينهم جعلوا عدة الأشهر غيرها , بل وحرموا القتال فيها إحتراما لها , فهذه الأشهر الأربعة محترمة سواء كانت في الجاهلية أو في الأسلام , حتى حكي : أن ضبة بن أركان كان له ابنان , أحدهما يسمى «سعد» والثاني «سعيد» فخرجا إلى سفر فهلك سعد ورجع سعيد , فخرج والدهما مفتشا عن إبنه الهالك في الأشهر الحرم ومعه الحارث بن كعب , فبينما هما ذات يوم سائران يتحدثان , إذ مرا بمكان , فقال الحارث لقيت في هذه المكان شابا صفته كذا وكذا فقتلته , وهذا
(1) سورة التوبة 9 : 36 .
(2) انظر تفسير الطبري : 14 234 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 34
سيفه , فقال ضبة : «الحديث ذو شجون» اي ـ حديثك محزن ـ فذهب قوله مثلا, ثم إن ضبة قتل الحارث فلامه الناس على إستحلال الأشهر الحرم , فقال :«سبق السيف العذل» (1) فهكذا كانوا يحترمون الاشهر الحرم .
وذكر ابن أبي الحديد : أن العرب تسمى آخر يوم من شوال فلتة , من حيث ان كل من لم يدرك ثأره فيه فاته , لأنهم إذا كانوا إذا دخلوا الأشهر الحرم لا يطالبون الثأر , وذوالقعدة من الأشهر الحرم (2) .
في البحار عن إبراهيم ابن أبي محمود قال : قال الرضا عليه السلام : ان المحرم شهر كان أهل الجاهلية «في مامضى» يحرمون فيها القتال فاستحلت فيه دمائنا وهتكت فيه حرمتنا , وسبي فيه ذرايتنا ونسائنا , وأضرمت النيران في مضاربنا , وانتهب منها ثقلنا , ولم ترع لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم فيه حرمة في أمرنا .
ثم قال عليه السلام: إن يوم الحسين اقرح جفوننا , «وأسبل دموعنا» , واذل عزيزنا , بأرض كرب وبلاء وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الإنقضاء , فعلى مثل الحسين عليه السلام فليبك الباكون , فأن البكاء عليه يحط الذنوب العظام .
ثم قال الرضا عليه السلام : كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي عشرة ايام , فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم مصيبته وحزنه وبكائه , ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السلام (3) .
وعن الريان بن شبيب قال : دخلت على الرضا عليه السلام في أول يوم من المحرم , فقال لي : يابن شبيب , أصائم أنت؟ فقلت : لا , قال : إن هذا اليوم هو اليوم الذي
(1) جمهرة الأمثال :1: 377/566 .
(2) شرح نهج البلاغة : 2/26 .
(3) أمالي الصدوق : 190/199 ـ المجلس (27) ـ الحديث (2) .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 35
دعا فيه زكريا عليه السلام ربه عز وجل , فقال : «رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء » (1) فاستجاب الله له , وأمر الله ملائكته فنادت زكريا , وذلك قوله تبارك وتعالى : «فنادته الملائكة وهو قائم في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصاحين» (2)فمن صام في هذا اليوم ثم دعا الله فانه يستجيب له , كما استجاب لزكريا عليه السلام .
ثم قال يابن شبيب ,إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته , فما عرفت هذه الامة حرمة هذا الشهر ولا حرمة نبيها صلى الله عليه واله وسلم , لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته , وسبوا نساءه , وانتهبوا ثقله , فلا غفر الله لهم ذلك ابدا , يابن شبيب , إن كنت باكيا لشئ فابك على الحسين عليه السلام , فأنه ذبح كما يذبح الكبش , وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا , ما لهم في الأرض شبيه , لقد بكت السماوات السبع والأرضون السبع لقتله , ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة لآلاف ملك لنصرته فلم يأذن لهم (3) .
وفي العيون والخبر الآخر , أنهم نزلوا فوجدوه قد قتل , فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم صاحب الأمر فيكونون من أنصاره , وشعائرهم : يا لثارات الحسين (4) . و كان الصادق عليه السلام أذا هل المحرم لا يرى شاحطا قط , وكذلك الأئمة واحدا بعد واحد , بل وهذه سيرة سارت في مواليهم وشيعتهم إذا هل عاشوراء اجتمعت
(1) سورة ال عمران 3 : 38 .
(2) سورة ال عمران 3 : 39 .
(3) أمالي الصدوق : 192/202 ـ المجلس (27) ـ الحديث (5) .
(4) عيون أخبار الرضا عليه السلام :1: 299/58 ـ الباب (28) . وانظر المصدر السابق ايضا >
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 36
عليهم الاحزان والكروب ؛ ولعل الخبر يشير إلى ذلك :
«شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا , وعجنوا بنور ولايتنا , يصيبهم ما أصابنا , يفرحون لفرحنا , ويحزنون لحزننا» (1) وكانوا عليهم الصلاة والسلام يجلسون للعزاء كما تجلس شيعتهم اليوم . و كان الرضا عليه السلام يجلس في كل عشرة من المحرم كئيبا حزينا , ويعقد مجلسا للعزاء , ويجلس نساءه وراء الستار , وكان إذا دخل عليه أحد من الشعراء يأمره بالإنشاد على جده الحسين عليه السلام , كما في قصة دعبل الخزاعي لما دخل عليه وقال له : أنشدني , فأنشده التائية التي منها :
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا وقد مات عطشانا بشط فرات (2)
وكذلك الصادق عليه السلام لما دخل عليه هارون المكفوف , فقال عليه السلام : أنشدني في جدي الحسين عليه السلام , فأنشأ يقول :
أمرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
فبكى الصادق عليه السلام وقال : أنشدني كما تنشدون بالرقة فقال :
يا مريم نوحي على مولاك وعلى الحسين ألا أسعدي ببكاك
فصاحت ابنة الصادق عليه السلام : واجداه واحسيناه (3) . وهكذا ساير أهل البيت عليهم السلام ولا زالوا صارخين معولين عطاشا جائعين من اول شهر محرم إلى يوم العاشر .
وقيل للصادق عليه السلام : سيدي جعلت فداك , إن الميت يجلسون له بالنياحه بعد
(1) أورده الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة : 1/104 , في كلام للإمام الصادق عليه السلام .
(2) بحار الأنوار : 45/257 ـالحديث (15) .
(3) انظر ثواب الأعمال للشيخ الصدوق : 109/1/ باب (146) .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 37
موته أو قتله , وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أول الشهر بالمأتم والعزاء على الحسين عليه السلام !! فقال عليه السلام : «يا هذا إذا هل هلال محرم نشرت الملائكة ثوب الحسين عليه السلام وهو مخرق من ضرب السيوف , وملطخ بالدماء , فنراه نحن وشيعتنا بالبصيرة لا بالبصر , فتنفجر دموعنا» .
وقال عليه السلام فيما قال لمسمع كردين : «يا مسمع ما من عين بكت على الحسين عليه السلام إلا ونعمت بالنظر إلى الكوثر , أو شربت منه إلى يوم القيامة) (1) . فأي عين لا تبكي عليك يا أبا عبدالله , السلام على من دمه غسله , والتراب كافوره , ونسج الرياح أكفانه , والرماح الخطية نعشه , وفي قلب من والاه قبره :
إن يبقي ملقى بلا دفن فإن له قبرا بأحشاء من والاه محفورا (2)
(1) بحار الأنوار : 44/289 ـ الحديث (31) , من حديث طويل .
(2)

(ابوذية)

لو لاك الفرض يحسين ماتم وحگ گلبك الـمنة ثـلث ماتم
إلك ابگـلوبنا يحـسين ماتم نجيمة ابكل صباح وكل مسية

(بحراني)

وحق راسك المقطوع يا شمس المضية للحـشر ما نـنسا مـصابك والرزية
ننسى وسهم الـصاب گـلبك يا ذرانا ذللنة وفـت اگـلوبنا ونـكس لـوانا
وتگـطيع جـسمك بالثرى گطع امعانا وخيل الوطت صدرك على حر الوطية
داست بين حيدر علي صدور المحبين وبگلوبنا انخلـيك عـاري بغير تكفين
وذبح الطفل نـنساه هذا محال يحسين ولا ننسى اركوب الوديعة اعلى المطية
* * *
غدت ربة الأخدار و لهى أسيرة تقاذفها البيدا ضحى وظهيرة
وتهتف بالحامي الجوار مشيرة
أترضى وأنت الثاقب العزم غيرة يلاحظها حسرى القناع يزيد
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 38


المطلب السابع

في بكاء النبي صلى الله عليه واله وسلم على الحسين عليه السلام
وأن البكاء والرقة من شأن المعصوم
العجب كل العجب ممن يزعم أن المعصوم عليه السلام لا يبكي , أو أن البكاء لا يليق له وليس من شأنه , فاذا خطر مثل هذا في البال فهو وهم صرف , إذ أن البكاء والرقة من صفات المعصوم عليه السلام , كما أن الرحمة والرقة مودوعة في قلب كل نبي و كل معصوم , بل وكل مؤمن فضلا عن النبي و المعصوم , انظر الى النبي صلى الله عليه واله وسلم وقد دلت الأخبار المتواترة أنه صلى الله عليه واله وسلم بكى في مواطن كثيرة, كان أولها «يوم احد» , وذلك لما رأى عمه الحمزة عليه السلام قتيلا ورأى ما مثل به شهق (1) .
. ذكر ابن أبي الحديد : أن النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يومئذ إذا بكت عمته صفية يبكي , وإذا انشجت ينشج , وكذلك لما رأى ابنته فاطمة عليها السلام تبكي على عمها بكى (2) .
. وذكر أحمد ابن حنبل : أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لما رجع من «احد» فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن , فقال صلى الله عليه واله وسلم : «ولكن عمي حمزة لا
(1) المستدرك الحاكم :3/195 , وانظر أيضا : المحب الطبري في ذخائر العقبى : 180 , والهيثمي في مجمع الزوائد : 6/118 ـ باب مقتل حمزه عليه السلام .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 15/17 ـ الباب (19) .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 39
بواكي له» , ثم نام وانتبه وهن يبكين : قال : «فهن اليوم اذا بكن يندبن بحمزه» (1).
. ومنها: بكى على جعفر بن أبي طالب عليه السلام يوم «مؤتة» لما قتل (2)، ومنها: لما اصيب زيد ابن حارثة انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزله فلما رأته إبنتة زيد أجهشت بالبكاء، فسالت دمعته (3).
ومنها : عند موت ولده إبراهيم بكى , فقيل له : أتبكي وأنت رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم : «إنما أنا بشر مثلكم , تدمع العين ويحزن القلب , ولا أقول ما يغضب الرب , وأنا بفراقك يا إبراهيم لمحزون» . ذكره البخاري في «صحيحه في الجزء الأول منه» (4) .
ومنها : يوم ماتت إحدى بناته جلس على قبرها وعيناه تدمعان , هكذا ذكر البخاري ايضا (5) .
ومنها : يوم مات صبي لأحدى بناته , إذ فاضت عيناه يومئذ فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله ؟! قال : «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده , وإنما يرحم من عباده الرحماء» . هكذا في الصحيحين ايضا (6) .
وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس ـ في الجزء الأول من مسنده ـ من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , وبكاء النساء عليها ,
(1) مسند أحمد ابن حنبل : 7/98 ـ الحديث (4984) .
(2) تاريخ الإسلام للذهبي : 2/488 و884 , وانظر ايضا : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور : 6/73 و12/73 .
(3) تاريخ الإسلام للذهبي : 2/496 .
(4) صحيح البخاري (بشرح الكرماني) : 7 : 96/1228 .
(5) صحيح البخاري (بشرح الكرماني) : 7 : 81/1213 .
(6) صحيح مسلم : 2 : 635 / , وصحيح البخاري (بشرح الكرماني) :7 : 80/1212.
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 40
قال : فجعل عمر يضربهن بسوطه : فقال صلى الله عليه واله وسلم : «دعهن يبكين» . ثم قال صلى الله عليه واله وسلم : «مهما يكن من الفلب والعين فمن الله الرحمة» . وقعد على شفير القبر وفاطمة الى جنبه تبكي قال: فجعل النبي صلى الله عليه واله وسلم يسمح بعين فاطمة بثوبه رحمة لها (1) .
ومما يعاضد ذلك بكاؤه على الحسين عليه السلام في مواطن كثيرة , منها قبل ولادته وهبك عليه جبرائيل , قال : يا محمد يولد لك تقتله شرار امتك , فبكى صلى الله عليه و اله وسلم وقال : «لا حاجة لي فيه» فقال جبرائيل : يا رسول الله إن الإمامة تكون فيه وفي ولده؛ فسكت صلى الله عليه واله وسلم (2) .
وبكى عند ولادته , وذلك لما جاءت به صفية بنت عبد المطلب تحمله أخذه وشمه ثم بكى , فقالت له صفية : يا رسول الله وما هذا البكاء ؟! فقال لها صلى الله عليه واله وسلم : «إن ولدي هذا تقتله شرار امتي , لا تخبري ابنتي فاطمة فإنها جديدة عهد بولادتها».
ومنها : بكاءه صلى الله عليه واله وسلم لما دخل على فاطمة ورأى الحسين عليه السلام يبكي في المهد , فقال صلى الله عليه واله وسلم «بني سكتيه فأن بكاءه يؤذيني» ؛ ثم بكاه , وكان صلى الله عليه واله وسلم كلما نظر اليه يبكي , وإذا رآه في يوم عيد يبكي , واذا رآه يلعب يبكي.
وكان صلى الله عليه واله وسلم يقول : «حسين مني» , «حسين طمئنينتي» ، «حسين روحي التي بين جنبي»،«حسين مني وأنا من حسين» ، «أحب الله من أحب حسينا».
قال (3) : ودخل الحسن واخوه الحسين عليهما السلام على النبي صلى الله عليه واله وسلم يوما فشم الحسن عليه السلام في فمه , وشم الحسين عليه السلام في نحره , فقام الحسين وأقبل إلى امه ،
(1) مسند الإمام أحمد :5 : 41/3103 .
(2) اصول الكافي : 1 : 386/4 , والبحار :44 : 232/ , الحديث .
(3) والكلام لابن عباس .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 41
فقال لها : اماه شمي فمي , هل تجدين فيه رائحة يكرهها جدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ فشمته في فمه فإذا هو أطيب من المسك , ثم جاءت به إلى أبيها فقالت له : أبه لم كسرت قلب ولدي حسين عليه السلام ؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم: مم ؟ قالت : تشم أخاه في فمه وتشمه من نحره , فلما سمع صلى الله عليه واله وسلم بكى , وقال : «بنية أما ولدي الحسن عليه السلام فإني شممته في فمه لأنه يسقى السم فيموت مسموما , وأما الحسين عليه السلام فإني شممته من نحره لأنه يذبح من الوريد الى الوريد» ؛ فلما سمعت فاطمة بكت بكاءا شديدا وقالت :أبة متى يكون ذلك؟ فقال : «بنية في زمان خال مني ومنك ومن أخيه وأخيه» فاشتد بكاؤها ثم قالت : ابه فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء عليه؟ فقال له : «بنية فاطمة إن نساء امتي يبكون على نساء أهل بيتي ورجالهم يبكون على ولدي الحسين عليه السلام وأهل بيته , ويجددون عليه العزاء جيلا بعد جيل , فإذا كان يوم القيامة أنت تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال وكل من يبكي على ولدي الحسين عليه السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة» (1) .
و قال صلى الله عليه واله وسلم : «على الحسين فلتشق القلوب لا الجيوب».
وقال صلى الله عليه واله وسلم: «ألا وصلى الله على الباكي على ولدي الحسين عليه السلام».
فرسول الله صلى الله عليه واله وسلم تراه تارة يدعو للباكي على ولده الحسين واخرى يخبر بفضل الباكي عليه وما له يوم القيامة من الأجر , لقوله صلى الله عليه واله وسلم : «كل عين باكيه يوم القيامة الاعين بكت على ولدي الحسين , فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة» (2)
(1) الخبر ذكره الفاضل الدربندي رحمه الله في أسرار الشهادات : 2/720 , وهو خبر طويل ومفصل وأورده هنا المؤلف رحمه الله على وجه الاختصار .
(2) انظر أسرار الشهادات للدربندي : 2/496 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 42

وروى المجلسي رحمه الله قال :
حكى السيد علي الحسيني قال : كنت مجاوراً في مشهد علي بن موسى الرضا عليه السلام مع جماعة من المؤمنين فلما كان يوم العاشر من المحرم عقدنا مأتما للحسين عليه السلام فابتأ رجل منا يقرأ مقتل الحسين عليه السلام فقرأ رواية عن الباقر عليه السلام إنه قال : «من ذرفت عيناه بالدموع على مصاب الحسين عيله السلام ولو كان مثل جناح البعوضة غفر الله ذنوبه , ولو كانت مثل زبد البحر» , وكان في المجلس معنا رجل يدعي العلم ولا يعرفه , فقال : ليس هذا صحيح وأن العقل لا يقبله .
قال : وكثر البحث بيننا ثم افترقنا وهو مصر على ماهو عليه , فلما نام تلك الليلة رأى في منامه كأن القيامة قد قامت وحشر الناس في صعيد واحد , وقد نصبت الموازين وامتد الصراط , ووضع للحساب ونشرت الكتب , واسعرت النيران وزخرفت الجنان , واشتد الحر عليه وعطش عطشا شديدا , فجعل يطلب الماء فلا يجده , فالتفت هناك وإذا بحوض عظيم الطول والعرض , فقال في نفسه : هذا هو الكوثر ؛ فأقبل إليه وإذا عليه رجلان وامرأة انوارهم مشرقة لابسين السواد , قال : فسألت عنهم فقيل لي : هذا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , وهذا علي عليه السلام , وهذه فاطمة عليها السلام , فقلت: اذا لماذا لابسين السواد فقيل لي أليس هذا اليوم يوم قتل فيه الحسين عليه السلام , قال: فدنوت اليهما وقلت لفاطمة: سيدتي إني لعطشان، فنظرت إلي شزرا , وقالت لي : أن الذي تنكر فضل البكاء على ولدي الحسين عليه السلام , لن تذوق منه قطرة واحدة حتى تتوب ما أنت عليه ؛ قال : فانتبه من نومه فزعا مرعوبا وجاء إلى أصحابه , وقص عليهم رؤياه وقال والله يا أصحابي أنا ندمت مما صدر مني , وأنا تائب عما كنت عليه (1) .
(1) بحار الأنوار : 44/293 ـ الحديث (38)
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 43

أقول : فليتها كانت حاضره يوم عاشوراء ومعها جرعة من ماء الكوثر وتسقي ولدها الحسين عليه السلام , لما نادى : يا قوم وحق جدي أنا عطشان . قال رجل من القوم: رايت شفتي أبي عبد الله يتحركان بكلام لم أفهمه , فقلت : إن كان الحسين عليه السلام يدعو علينا هلكنا ورب الكعبة. فأقبلت اليه فسمعته ينادي إسقوني جرعة من الماء , وقال: فأتيت الى ابن سعد (لعنه الله) وقلت له : يا أمير إن الرجل قد ضعف عن القتال ولا قابلية له على حمل السلاح , ما يضرك لو سقيته جرعة من الماء ؟ قال : فسكت اللعين , فعلمت ان السكوت من الرضا , فأقبلت إلى خيمتي وأخذت ركوة فملئتها ماء وأتيت مسرعا الى الحسين فبينا أنا في بعض الطريق و إذا بالكون قد تغيرت , وهبت ريح سوداة مظلمة , وتزلزلت الأرض , وإذا بالمنادي ينادي : قتل الإمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمة . فنظرت وإذا برأس الحسين عليه السلام على رأس رمح طويل .
وشيبته مخضوبة بدمائه يلاعبها غادي النسيم ورائحه (1)
(1) وزينب عليها السلام كأني بلسان حالها :

(نصاري)

يـشيـال راسـه لا تـلـوحـه وهبط من بگايا الروس رمحه
أخاف ايفوت ريح الهوى بجرحه وجـرحه علـيه يگوم يسعر

(دكسن)

يشال راس حامـينه او ولينه دريض خلي اتودعه اسكينه
ليش احسين ساچت عن ونينه گـلي تعب لو جـرحه تخدر

كأني بها تخاطب رأس الحسين عليه السلام بلسان الحال :

(عاشوري)

يحسين لا تلتفت لينه واتشوفنه نشگف بدينه
نسوان تدري وانولينه وعليلك المچتف ولينه
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 44


المطلب الثامن

في مكارم أخلاق الحسين عليه السلام

جمع الحسين بن علي عليه السلام الفضائل أجمع , كالعلم وأسراره , وفصاحة اللسان وبيانه، ومنتهى الشجاعة , وأقصى غاية الجود والعدل والصبر والحلم والعفاف والمروءة والورع والزهد ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال , كما خصه الله عزوجل بسلامة الفطرة , وجمال الخلقة , ورجاحة العقل , وقوة الجسم , وأضعف إلى هذه المحامد كلها كثرة العبادة , وأفعال الخير , كالصلاة والصوم و الحج, والجهاد في سبيل الله , والأحسان للناس , وكان عليه السلام سخيا بماله , متواضعا للفقراء , معظماً عند الخلفاء , مواصلا للصدقة على الأيتام والمساكين , منتصفا للمظلومين , وكان عليه السلام علم المهتدين , وهدى للمسترشدين بأنوار محاسنه وآثار فضله.
اما علمه فإنه كان يغر العلم غرا , وأنه ورث العلم من جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم , ومن أبيه علي عليه السلام , ومن كان النبي صلى الله عليه واله وسلم معلمه ومن كان ابوه علي بن أبي طالب

(تخميس)

رأت الرمح زينب حين مالا وعليه رأس الحسين تلالا
خاطبته مذ راح يزهو هلالا
يا هلالا لما استتم كمالا غاله خسفه فأبدى غروبا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 45
وامه فاطمة الزهراء ناشئا في أصحاب جده وتلامذة أبيه فلا شك انه كان يغر العلم غرا , ومنه أخذ علم الجفر والجامعة الأئمة التسعة صلوات الله عليهم.
وكان الناس يقدمون على الحسين عليه السلام وينتفعون بما يسمع منه , ويضبطون ما يروون عنه من الأحاديث والفتيا .
وأما فصاحته , ناهيك عن خطبته التي خطبها بالمدينة ومكة قبل خروجه إلى العراق , والتي سجلها له التاريخ في كربلاء , فمن خطبته الشهيرة بمكة إذ يقول في أولها :
« ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين , بين السلة والذلة , وهيهات منا الذلة , يأبى الله لنا ذلك , ورسوله , والمؤمنون , وحجور طابت , و بطون طهرت , وانوف حمية , ونفوس أبية , من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» (2) .

واما شجاعته فصارت تضرب بها المثل , قال صاحب اسعاف الراغبين : «كان الحسين شجاعا مقداما من حين كان طفلا» (3) . وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج قال : فيما أفتخرت به بنو هاشم على بنو أمية قولهم : من مثل الحسين بن علي عليه السلام يوم الطف , ما رأينا مكثورا (4) قد فرق من اخوته واهله وانصاره أشجع منه , كان كالليث الوجوب يحطم الفسان حطما , وما ظنك برجل أبت نفسه الدنيا الدنيه وأن يعطي بيده , فقاتل حتى قتل
(1) كشف الغمة في معرفة الأئمة : 2/29 .
(2) الملهوف على قتلى الطفوف : 155 , واظر تاريخ ابن عساكر : 317 .
(3) اسعاف الراغبين : 202 «بهامش نور الابصار للشبلنجي».
(4) المكثور : المغلوب .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 46
هو وبنوه واخوته وبنو عمه , بعد بذل الامان لهم والتوثقة بالايمان المغلظة , وهو الذي سن للعرب الإباء , واقتدى به أبناء الزبير وبنو الملهب , وغيرهم (1) .
وقال ابن أبي الحديد أيضا : سيد أهل الإباء , الذي علم الناس الحميه واموت تحت ظلال السيوف , اختيارا له على الدنية , أبو عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام , عرض عليه الأمان وأصحابه , فأنف من الذل وخاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان مع أنه لا يقتله , فاختار الموت على ذلك , قال : وسمعت النقيب أبا زيد يحيى ابن زيد العلوي البصري يقول كأبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي ما قيلت الى في الحسين عليه السلام :
وقد كان فوت الموت سهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق والوعر
ونفس تعافي الضيم حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر

وقال صاحب كشف الغمة: شجاعة الحسين يضرب بها المثل , وصبره في الحرب أعجز الأواخر والأول , وأما سخاءه وجوده, فأنه كان يهب الألوف من الدنانير حتى عد من سادات أجواد العرب , (3) .
روى «ابن عساكر» في تأريخه عن أبي هشام القناد انه كان يحمل إلى الحسين عليه السلام بالمتاع من البصرة , ولعله لا يقوم حتى يهب عامته , ودخل عليه السلام يوما على اسامة بن زيد وهو مريض فسمعه يقول : واغماه , فقال له الحسين عليه السلام: وما غمك يا أخي؟ قال : ديني وهو ستون ألف درهم ؛ فقال الحسين عليه السلام : هو علي , قال : إني
(1) و (2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
(3) كشف الغمة في معرفة الأئمة : 2/20 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 47
أخشى أن أموت ؟ فقال عليه السلام : لن تموت حتى أقضيها عنك , فقضاها قبل موته ( (1)) .

أما جماله وحسنه : فقد كان يشبه جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بجمال وجهه الشريف , قال «صاحب الخزانة» في ترجمة «عبيدالله ابن الحر الجعفي» أنه قال : ما رأيت أحداً قط أحسن ولا املأ للعين من الحسين عليه السلام (2) .
وعن أنس بن مالك : أتى عبيد الله بن زياد على رأس الحسين بن علي عليه السلام , فجعل في طشت فجعل ابن زياد ينكث ثناياه , وقال في حسنه شيئا: رحمك الله يا حسين فلقد كنت حسن الثغر، فقال أنس إبن مالك: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
وأما عبادته : فإنه كان ينهج نهج أبيه أمير المؤمنين عليه السلام في عبادته , فقد ذكر «الملك المؤيد أبو الفداء» في تاريخه قال: كان الحسين يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة , وقد حج خمس وعشرين حجة ماشيا على قدميه ونجائبه تقاد بين يديه , إلى غير ذلك من عبادته (4).
وأما تواضعه : فقد ذكر «ابن عساكر» في التأريخ الكبير : أن الحسين عليه السلام مر بمساكين يأكلون في الصفة , فقالوا : الغداء ؛ فنزل عليه السلام وقال : إن الله لا يحب المتكبرين , فتغدى , ثم قال لهم : قد أجبتكم فأجيبوني , قالوا : نعم , فمضى بهم إلى منزله وقال للرباب خادمته: اخرجي ما كنت تدخرين (5) .
أقول يظهر من الرواية أن ابن عساكر اشتبه في الرباب خادمة الحسين عليه السلام ،
(1) تاريخ ابن عساكر .
(2) خزانى الادب للبغدادي : 1/298 .
(3) انظر تاريخ ابن عساكر «ترجمة الإمام الحسين عليه السلام»: 46/49 , 50 ، 51 .
(4) تاريخ أبي الفداء . وذكر ذلك ايضا :ابن عساكر في تأريخه )ترجمة الامام الحسين عليه السلام( : 215 و216 .
(5) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين عليه السلام) : 218/198 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 48
وما سمعنا أن للحسين خادمة اسمها رباب , لكن رباب زوجته وهي بنت امرء القيس الكندي الذي يقول فيها :
لعمرك إنني لأحب داراً تحل بها السكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي وليس لعاتب عندي عتاب (1)
(1) كتاب الأغاني : 16/138 .
نعم إن الحسين عليه السلام آلت ان لا تستظل تحت ظل بعد شهادة أبي عبد الله عليه السلام وذلك لما رجعت مع النسوة إلى المدينة أمرت البناء أن يرفع السقف وكان لها بكاء ونحيب على فقد الامام الحسين عليه السلام وولدها عبدالله الرضيع , ولسان حالها :

(الموشح)

دايك ما يـطيب وداي أبـوك النوب داي الـلي يفـلش ولـو سبع اگـلوب
حسبت احساب واحسابي طلع مگلوب سـكنة اميـسرة وانـته الفـگد يرجاي
يا رجـواي يلـغيـرك بعد ما لوليت اخلاف احسين عيب اگعد تحت ظل بيت
يبني لكـربلا يبـني عسـن لاجيت يبـني اتـموت يبـني ما شربت الماي

(تخميس)

سألت ربع الندى والدمع ينهمل عن معشر هاهنا عهدي بهم نزلوا
أين استقلوا عن الاوطان وارتحلوا
بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا وخلفوا في سويد القلب نيرانا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 49


المطلب التاسع

في ترجمة يزيد وكفره
ذكر «القرماني» في تأريخه : عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول : «أول من يبدل سنتي رجل من بني امية يقال له يزيد ابن معاوية وامه ميسون الكلبية» (1) .
وذكر أرباب التاريخ : انه دخل معاوية ابن أبي سفيان يوما على زوجته ميسون بنت بجدل بن أنيف الكلبي فسمعها تنشد هذه الابيات :
للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف
وبيت تخفق الارياح فيه أحب إلي من قصر منيف
وبكر يتبع الأضعان صعب أحب إلي من بغل زفوف
وكلب ينبح الأضياف دوني أحب إلي من هر ألوف
وخرق من بني عمي فقير أحب إلي من علج عنيف

فقال لها معاوية : مارضيت يا ابنة بجدل حتى جعلتيني علجا نيفا , إلحقي بأهلك . فمضت إلى أهلها مع عبد أبيها (2) .
وروى المداءني في كتاب بهجة المستفيد : ان يزيد ابن معاوية امه ميسون
(1) و(2) أخبار الدول وآثار الاول للقرماني : 130 .
ثمرات العواد /ج1 50
بنت بجدل الكلبية امكنت عند أبيها من نفسها فحملت بيزيد , وإلى هذا أشار النسابة البكري من علماء السنة بقوله:
فإن يكن الزمان أتى علينا لقتل الترك والموت الوحيي (1)
فقد قتل الدعي وعبد كلب بأرض الطف أولاد النبي
اراد بالدعي عبيد الله ابن زياد , فإن أباه زياد بن سمية , وهذه كانت عاهرة ذات علم , ولدت زيادا على فراش أبي عبيد من بني علاج , فادعى معاوية أن أبي سفيان زنى بام زياد و أنه اخوه وكان اسمه «الدعي» حتى أن عايشة كانت تسميه زياد ابن ابيه لأن ليس له أب معروف , (2) ومراده بعبد كلب وهو يزيد بن معاوية لأنه من عبد بجدل الكلبي .
وكانت ولادته في ايام عثمان ابن عفان , سنة خمس وعشرين في بادية طب بني أخواله , وهم نصارى , وتربى هناك تربيه نصرانية حتى إذا ترعرع جيء به إلى أبيه , وكان لا يشابه أباه , ضخم الجسم , كثير اللحم , اسمر , في وجهه اثار الجدري , ولقد بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه معاوية , وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر .
ففي السنة الأولى : قتل الحسين بن علي بي أبي طالب عليهم السلام سيد شباب أهل الجنة .
(1) موت وحي [أي] سم حي: سريع: انظر :
(2) نقول: قال الذهبي في سير أعلام النبلاء :
يقال: «إن أبا سيان أتى الطائف , فسكر , فطلب بغيا , فواقع سمية , وكانت مزوجة بعبيد , فولدت من جماعه زيادا , فلما رآه معاوية من أفراد الدهر , أستعطفه وادعاه , وقال : نزل من ظهر أبي» . انظر سير اعلام النبلاء للذهبي : 3/495 .
وفي صحيح البخاري في (الفرائض) / باب (من ادعى الي غير أبيه) : 8/194 , وفيه : قال صلى الله عليه واله وسلم : «من ادعى الى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» .
السابق السابق الفهرس التالي التالي