ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 136

أمير المؤمنين عليه السلام , حتى إذا جاؤا إليه بالسبايا صعد المنبر وتكلم بكلمات الظفر وجعل يشتم أمير المؤمنين عليه السلام والحسن والحسين عليهم السلام .
أعلى المنابر تعلون بسبّه وبسيفه نصبت لكم إعوادها (1)


(1)

(نصاري)

دشّت على ابن زياد زينب والخواتين ويـاهم الـسجاد يـهمل دمـعة العين
والرجس فوگ التخت يتفرج عـليها كلها بلـيا اسـتار بـستر بـيـديـها
بيده قضيب او ينكت ابمبسم ولـيها ويگول هاللي امغلل ابزنجيل من ويـن
گالوا علي گلهم على يقولون مذبوح گالوا نعم الأكبر ابوادي الطف مطروح
جذّام أبوه احسين ظل يعالج الـروح وهذا الذي ظل من أولاد الهاشمـيـين
اتكلم وبو محمد يجيبه وابدمع سكّاب گلّه بعد تگكدر عـلـيه اتـرد الجواب
وآمر يسحبونه ابقيده فوگ الـتراب وضجت الحاله بالبكا ذيـك الخـواتين
او زينب تنادي وين عزنا ماخذينه گلبي اتقطعت هالولد لا تـسـحبـونه
وانكان يا ظالم عزمكم تذبـحـونه گبله اذبحوني عيشتي گشري ابـلا معين
وكأني بمولاتي زينب عليها السلام تلتفت إلى رأس الحسين عليه السلام ولسان الحال :

(عاشوري)

إن صحت خويه يضربوني وإن صحت بويه يشتموني

(تخميس)

جور الزمان رماني منه بالعجب وحكمه جار في السادات بالعطب
لم يبق ذا حسب مني ولا نسب
أخي ذبيح ورحلي قد ابيح وبي ضاق الفسيح وأطفالي بغير حمي
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 137


المطلب الخامس والعشرون
في كيفية قبض هاني بن عروة وقتله رحمه الله

كان هاني بن عروة هو وأبوه من وجوه الشيعة , يروى أنه كان كأبيه صحابياً , وحضرا مع أمير المؤمنين عليه السلام حربه الثلاث , وهو القائل يوم الجمل شعراً :
بالك حرباً حثّها جمالها يقودها لنقصها ضلالها
هذا علي حوله إقبالها (1)

وروى المسعودي في مروج الذهب : أنه كان شيخ مراد وزعيمها , وكان يركب في أربع آلاف دارع وثمانية آلاف راجل , فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألف دارع (2) .
وكان معمراً , ذكر بعضهم إن عمره كان ثلاث وثمانين سنة , وقيل : بضع تسعين سنة , وكان يتوكأ على عصى بها زجّ , وهي التي ضربه ابن زياد بها .
وروى أبو مخنف : أن ابن زياد لمّا أخبره معقل بخبر هاني أرسل إليه محمد ابن الأشعث وأسماء بن خارجة وقال لهما : إءتياني به آمناً , فقالا , وهل أحدث
(1) انظر تاريخ من دفن في العراق من الصحابة : 466 .
(2) مروج الذهب : 3 / 59 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 138

حدثاً ؟! قال : لا , فأتوه إليه جماعة , وقالوا له : ما الذي يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم إنه مريض لعدته ولكن بلغني إنه يجلس في باب داره , وأنت تعلم إن الإستبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان , فإنا نقسم عليك إلا ما ركبت معنا .
قال : فدعى هاني بثيابه فلبسها , ثم دعى ببغلته فركبها , وجاء معهم حتى إذا دنى من القصر كأن نفسه أحسّت ببعض الذي كان فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة : يابن أخي إني والله لخائف من هذا الرجل , فقال له : اي عم والله ما أتخوّف عليك شيئا ولم تجعل على نفسك سبيلاً وأنت برئ (1)؛ فأدخل هاني على ابن زياد فلمّا رآه عبيدالله بن زياد جعل يقول :
أتتك بخائن رجلاه تسعى يقود النفس منها للهوان

وكان قد عرس عبيدالله بن زياد إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة المرادي , فلمّا دنا من ابن زياد وعنذه شريح القاضي إلتفت إليه وقال :
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد (2)

فقال هاني : وما ذاك يا أمير ؟ قال : ايه هاني ما هذا الأمور التي تربص في دارك , جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك , وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك , وظننت إن ذلك يخفي علي ؟ قال : يا أمير ما فعلت ذاك وليس عندي مسلم . قال: بل عندك ؛ ولما كثر الكلام بينهم دعى ابن زياد معقلاً , فجاء اللعين والتفت ابن زياد إلى هاني وقال له , أتعرف هذا ؟ قال : نعم ؛ ثم أسقط ما في
(1) يقال إن حسان بن أسماء بن خارجة كان لا يعلم في أي شئ بعثه ابن زياد , وكان محمد بن الاشعث من جملة من كان معه .
(2) وهذا البيت لعمرو بن معدي كرب الزبيدي .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 139

يده , وعلم أن هذا كان عيناً له , ثم أن نفسه راجعته وقال له : أسمع مني وصدّق مقالتي فوالله لا أكذب , والله الذي لا إله غيره فإني آويت مسلماً وقد كان أمره الذي بلغك فإن شئت أعطيتك رهينة في يدك حتى أنطلق وآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الارض فأخرج من ذمامه وجواره , فقال : لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به ؛ قال : والله لا آتيك به .
فقام مسلم بن عمرو الباهلي وقال : يا أمير دعني أكلمه ؛ ثم أخذه واعتزل به بحيث إذا تكلموا تارة يسمعهم ابن زياد وتارة لا يسمعهم , فقال له مسلم بن عمرو الباهلي ـ ولم يكن شامي ولا بصري غيره ـ قال : سلّم له مسلماً فإنّي أخشا عليك من القتل . فقال هاني : والله لا أسلمه حتى أقتل ؛ فسمع ابن زياد (لعنه الله) كلامه فصاح بمسلم بن عمرو : ادنه مني , فأدناه منه فقال له ابن زياد : لتأتيني به أو لأضربنّ عنقك ؟ فقال هاني : إذا تكثر البارقة حول دارك . فقال : وا لهفتاه أبالبارقة تخوفنيي ـ يظن أن عشيرته سيمنعونه ـ فقال ابن زياد : ادنوه مني , فأخذ يدنوا إليه فاستعرض وجهه بالقضيب , فلم يزل يضرب وجهه فكسر أنفه وسال دماء على ثيابه حتى كسر القضيب، فضرب هاني يده على قائم سيف شرطي فجاذبه الشرطي ومنعه , قال ابن زياد (لعنه الله) : خذوه واحبسوه في حجرة من هذه الحجر وأغلقوا عليه بابها : فأخذ هاني وحبس .
فسمعت مذحج وسمعت عمرو بن الحجاج أن هانياً قد قبض , لأن روعة أخت عمرو ابن الحجاج تحت هاني بن عروة (1) فأقبلوا حتى أحاطوا بالقصر , ونادى عمرو بن الحجاج : أنا عمرو وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة , فقيل لعبيدالله بن زياد : هذه مذحج بالباب ! فقال لشريح
(1) وهي أم يحيى بن هاني الذي قتل بالطف مع اصحاب الحسين في الحملة الاولى .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 140

القاضي : أدخل عليه صاحبهم وانظر إليه ثم اخرج إليهم وأعلمهم أن صاحبهم حي لم يقتل ؛ فقام شريح ودخل على هاني في الحبس وتكلم معه , فقال هاني : والله لو خل علي من مذحج عشرة لأنقذوني من هذا اللعين . ثم خرج شريح من عنده وأقبل حتى أشرف على مذحج وقال لهم : إن الامير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه وخرجت لأخبركم أنه صحيح سالم , والذي بلغكم من موته كان باطلاً . فعند ذلك انصرفوا وهم يقولون فأمّا إذا لم يقتل فالحمدلله (1) .
وبقي هاني في السجن حتى إذا قبض على مسلم وقتل أمر ابن زياد بإخراج هاني إلى السوق الذي تباع فيه الأغنام , فأخرج مكتوفا فجعل ينادي : وا مذحجاه لا مذحج لي اليوم .. وامذحجاه وأين عني مذحج ...
فلما رأي أن لا ينصره أحد اجتذب يده من الكتاف فنزعها ثم قال : أما من عصا أو سكينا أو حجرا أو عظماً يذب به الرجل عن نفسه ! فتواثبوا عليه وشدّوه وثاقاً فقيل له : امدد عنقك! قال : ما أنا بها مجد سخي , وما أنا بمعينكم على نفسي ! فضربه مولى لعبيدالله بن زياد (تركي) يقال له الرشيد (2) بالسيف فلم يصنع شيئا , فقال هاني : إلى الله المعاد اللهم إلى رحمتك ورضوانك (3).
ثم حزوا رأسه وجاؤا بجثته وجثة مسلم بن عقيل وربطوا برجليهما الحبال , وجعلوا يسحبونهما في الاسواق , وفي ذلك يقول عبيدالله بن الزبير الاسدي من
(1) مقتل أبي مخنف : 39 ـ 40 .
(2) قال ابن الاثير في الكامل : لما كان يوم خازر نظر عبدالرحمن بن الحصين المرادي إلي رشيد التركي وقال قتلني الله إن لم أقتله أو أقتل دونه ثم حمل عليه بالرماح فقتله ورجع إلى موقفه . انظر الكامل لابن الاثير : 5/ 379 .
(3) مقتل أبي مخنف : 56 ـ 57 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 141

بني أسد ـ وكان يتشيع ويقال أنه للفرزدق ـ شعراً (1):
أن كنت لا تدرين مالموت فانظري إلى هانىء بالسوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السـيف وجهه وآخر يهوي من طمار جديل
أصابهما فـرخ الـبغي فأصبحا أحاديث من يسري بكل سبيل
ترى جسداً قد غيّر الموت لونـه ونضج دماً قد سال أي مسيل
فـتىً كان أحيا من فتاة حيـيـّة وأقطع من ذي شفرتين صقيل
أيركـب أسماء (1) المهاليج آمنا وقد طـلبـته مـذحج بذخول
وتطـيـف حـواليه مراد وكلّهم على رقبة من سائل ومـسول
فإن أنتم لم تـثـاروا بأخـيكـم فكونوا بغايا أرضيت بقليل

وكان قتل مسلم وهاني يوم التروية , قال : وأمر ابن زياد (لعنه الله) بجثة هاني ومسلم فصلبتا بالكناسة , وبعث برأسيهما إلى يزيد بن الزبير بن الأروح التميمي وهاني بن أبي حيّة الوداعي (4).
أقول : وكان رأس مسلم أول رأس حمل من بين هاشم , وأول جثّة منهم صلبت وبعدها رأس الحسين عليه السلام ورؤوس أخوته وأولاده وبنو عمومته وأصحابه , فلئن حمل رأس مسلم من الكوفة إلى الشام فقد حمل رأس الحسين عليه السلام على قتاة من كربلاء إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام , بمرءى من
(1) نسبها في رياض المصائب : 268 , إلى الفرزدق , انظر في ذلك ايضاً : الكامل في التاريخ (لابن الأثير) : 4 / 15 , الملهوف في قتلى الطفوف : 123 , والأخبار الطوال للدينوري : 242 , والإرشاد للشيخ المفيد : 2 /64 , ومثير الأحزان لابن نما : 37 .
(2) هو أسماء بن خارجة الفزاري أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانىء بن عروة الى ابن زياد .
(3) مقتل أبي مخنف :57 ـ 58 .
(4) مقتل أبي مخنف : 59 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 142

عيون أخواته وبناته , وهو يتلوا القرآن تارة ويدعوا على حامله اخرى , وربما وعض القوم . وقال زيد ابن أرقم : كنت في روشن لي فمرّوا علي برأس الحسين بن علي عليه السلام وهو على رأس رمح طويل فسمعته يتلو : «أم حسبت أن أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجبا» (1) قال زيد : فضربت رأسي بالروشن وقلت : يابن رسول الله رأسك أعجب وأعجب (2).
يتـلوا الـكتاب عـلى السنان وإنما رفعوا به فوق السنان كـتابـا
ألـم تـعه يـتلوا الكتاب ونـوره يشق ظلام الليل والليل مسدف
يا رأس مفترس الضياغم في الوغى كيف انثنيت فرية الاوغاد (3)
(1) سورة الكهف 18 : 9 .
(2) الإرشاد للمفيد : 2 / 117 .
(3) وزينب عليها السلام كأني بلسان حالها :

(دكسن)

ما تدري يخوية اشلون حالي على راس الرمح راسك اگبالي
كلمن شاف ذل حـالي بچالي عدوانـك علـي غدو يبچون

(ابوذية)

راسك على الرمـح يمشـي ويتلي الكـتاب ونـار محـنتكم ويتلي
ابگـلبـي جارت الدنـيـا ويتلي المصايب من وصلت الغاضرية
زجـر يـحسين من بعدك محنـا ابسفر واعداك ما بـيـهم محنا
على راس الرمـح اشـبيك محنا ابدماه او بس يديـر الـعين ليه

(تخميس)

لك نور بجبهة الحسن لا لا بمحيّا كساه ربي جـمالا
ضاء في الدهر حقبة ثم زالا
يا هـلالاً لم استتمّ كـمالا غاله خسفه فأبدى غروبا
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 143


المطلب السادس والعشرون
في غدر أهل الكوفة بمسلم عليه السلام وهاني

روى الشيخ المفيد رحمه الله عن عبدالله بن خازم , قال : أنا والله أول رسول لابن عقيل أمضي إلى القصر وأنضر ما فعل بهاني , فمضيت حتى إذا ضرب وحبس , ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر , وإذا نسوة من مراد مجتمعات ينادين : يا عبرتاه ! يا ثكلاه ! فدخلت على مسلم وأخبرته بخبر هاني فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله , وكانوا أربعة آلاف رجل , فناديت : يا منصور أمت , فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا إليه فعقد لعبدالله بن عزيز الكندي راية على ربع كندة , ويروى أنه عقد لحبيب بن مظاهر راية وبعثه إلى ركن من أركان الكوفة , وعقد راية لمسلم بن عوسجة , وعقد راية إلى المختار بن أبي عبيدة الثقفي , وعقد راية إلى عابس بن شبيب الشاكري (1).
وخرج عليه السلام ومعه ما ينوف على الألفين فجاءوا واحاطوا بالقصر , فخاف ابن زياد واضطرب وضاق عليه أمره فأخذ يفكّر ولا يدري ما يصنع , فاستشار محمد بن الأشعث وشبث بن ربعي فأشارا عليه أن يخرج لهم من القصر ثلاثين رجلاً شاكّين بالسلاح ويتفرّقون مع اصحاب مسلم بن عقيل ويتكلّم بعضهم مع
(1) الارشاد للمفيد : 2 / 51 ـ 52 , ومقتل الحسين عليه السلام لابي مخنف : 41 ـ 42 .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 144

بعض على أن الأمير قد بعث جيشاً جراراً إلى الكوفة لقتال مسلم بن عقيل بحيث يسمع أصحاب مسلم فإذا سمعوا ذلك فانّهم يتفرّقون عن مسلم ويتخاذلون فيما بينهم . قال : وقام إليه أنس بن مالك , وقال : يا أمير الان معك في قصرك ما ينوف على ثلاثمائة رجل فاخرج إليهم وقاتلهم ؛ فالتفت إليه ابن زياد وقال له :اعرض عن هذا الكلام , والتفت إلى شبث بن ربعي وقال له : القول ما قلت أنت , فدعى ابن زياد ثلاثين رجلاً من اصحابه وقال لهم : إنزلوا جميعاً والحقوا بأصحاب مسلم بن عقيل ؛ فنزلوا واختلطوا مع أصحاب مسلم , وجعلوا يسبّون ابن زياد ويزيد , وجعلم يكلم بعضهم بعضاً بأن الأمير يزيد بن معاوية قد بعث جيشاً جراراً لقتال مسلم بن عقيل , وصاح شبث بن ربعي من أعلي القصر: أيها الناس ... إلحقوا بأهاليكم ولا تعجّلوا الشرّ ولا تعرضوا أنفسكم للقتل , فإن جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت من الشام , فإن صممتم على حربنا ولم تنصرفوا من عشيتكم هذا فيحرم ذريّتكم العطاء ويفرّق مقاتلتكم ؛ وتكلّمت الأشراف بنحو من ذلك فلما سمعوا أصحاب مسلم جعلوا يتشتتون ويتفرّقون عنه .
قال ابو مخنف : حدّثني مجالد بن سعيد , قال : إن المرأة كانت تأتي ولدها وأخاها فتقول له : انصرف فالناس يكفونك , ويأتي الرجل إلى إبنه وأخيه ويقول له : انصرف غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر !! حتى يذهب به , فما زالوا يتخاذلون ويتفرقون حتى أمسى مسلم ولم يبقي معه إلا ثلاثون رجلاً , فدخل المسجد وصلى المغرب والعشاء وهم معه , ثم خرج من باب كندة فنظر وأذا عشرة , ثم صار في بعض الأزقة فنظر إلى ورائه فلم يجد أحداً من يدّله على الطريق , فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة ولا يدري إلى أين يذهب ؟! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة فمشى حتى انتهى إلى باب الدار وعليها أمرأة يقال لها «طوعة» ام ولد , وكانت تحت الاشعث بن قيس , ثم تزوّجها أسيد
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 145

الحضرمي فولدت له بلالاً , ومات أسيد عنها , فاستسقاها ماء فسقته , ثم وقف , فقالت له : ألم تشرب الماء؟! قال : بلى , فقالت له : إذاً فما وقفك على باب داري ؟ فقال لها : ألا تجيريني ولعلي مكافئك به بعد اليوم , فقالت له : من أنت ؟ قال أنا مسلم بن عقيل غدر بي أهل مصركم هذا , فقالت له : أنت مسلم رسول الحسين عليه السلام ؟! قال : نعم , فقالت له : ادخل على الرحب والسعة . فدخل دارها وجعلته في بيت لها , ولمّا إن جاء إبنها بلال إلى الدار رأى أمه تكثر الدخول والخروج إلى تلك الحجرة , فسألها فلم تجيبه حتى ألح عليها , استحلفته أن لا يخبر أحداً بأمره , فعاهدها وأقسم لها أن لا يخبر أحداً , فقالت : هذا مسلم بن عقيل .
ويروى : إنه لما كان وقت الفجر جاءت طوعة إلى مسلم بالماء ليتوضأ , فقالت له : يا مولاي ما رأيتك رقدت هذه الليلة!! فقال : اعلمي أني رقدت رقدة ورأيت في منامي عمّي أمير المؤمنين وهو يقول: الوحا الوحا العجل العجل العجل ولا أظن إلا وهذا اليوم هو آخر أيامي من الدنيا .
وأما ابنه بلال فإنه بات ليلته ينتظر الصباح , حتى إذا أصبح خرج من الدار وأقبل إلى قصر الإمارة , فرأى ابن زياد جالساً وعنده الأشراف من أهل الكوفة وهو في حديث مسلم , فجاء وجلس إلى جانب محمد بن الأشعث وأخبره بخبر مسلم وقال ابن زياد : ما أسرك هذا الغلام ؟ فأخبره بمقالته وأن امه أجارت مسلم ابن عقيل في بيتها , فقال ابن زياد : طوّقوه بطوق من ذهب , فطوقوه من حينه بطوق من ذهب والتفت ابن زياد إلى محمد ابن الاشعث وقال له : قم فأتني به الساعة ؛ فخرج محمد بن الاشعث في سبعين رجل حتى إذا وصلوا الدار خرج إليهم مسلم وهو يقول :
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع فأنت لكأس الموت لا شك جارع
فصـبراً لأمـر الله جـل جـلالـه فحكم قضاء الله في الخلق ذايـع
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 146


قال الراوي : وجعل يضرب بسيفه فصاح محمد بن الاشعث يا مسلم لك الأمان لا تقتل نفسك فجعل يقول :
اقـسـت لا أُقتل إلّا حرّا وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
كلُّ امرء يوم يلاقي شرّا أخاف أن اكـذب أو أغـرّا
ردّ شعاع الشمس فاستقرّا وتخلط البارد سـخـناً مرّا

فقال له محمد بن الأشعث : يا مسلم لا تكذب ولا تقر أنت آمن , فقال له مسلم : لا أمان لكم أهل الكوفة !! فجعل يقاتلهم حتى قتل منهم جماعة , فأرسل محمد بن الأشعث لابن زياد أن مدّني بالخيل والرجال , فبعث إليه جند كثير فجعل مسلم يقاتلهم حتى قتل منهم مقتلة عظيمة , فأرسل محمد بن الأشعث أن مدّني بالخيل والرجال , فبعث إليه ابن زياد : إنّما بعثتك على رجل واحد من بني هاشم فكيف لو بعثتك إلى من هو أشجع منه ؟! يعني الحسين عليه السلام فأرسل إليه [ابن الأشعث] : [أيّها الأمير أتظن أنك] بعثنتي على بقال من بقاقيل الكوفة أم إلى جرمقان (1)من جرامقة الحيلة ؟! هذا مسلم بن عقيل عمّه على ابن أبي طالب , فمدّه ثلاثاً بالخيل والرجال ومسلم يقاتلهم حتى اثخن بالجراح , وكثرت عليه الحجارة والخشب والرماد من فوق الدور , وجعلوا يضرمون النار بأطناب (2) القصب ويرمونه عليه , فلما شاهدوا منه هذه البسالة وهذه الشجاعة قد دمّر فيهم عزموا أن يأخذوه غيلة , فحفروا له حفيرة وأسقفوها بجريد النخل والليف ووضعوا عليها التراب , ثم لمّا حمل عليهم انكسروا بين يديه , فأقبل يعدو خلفهم حتى سقط في الحفيرة , فلمّا سقط فيها اغمى عليه فجاء إليه بكر بن حمران
(1) الجرمقان : هو رقاع الأخذية .
(2) اطناب : جمع طنب والطنب الحزمة من الحطب .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 147

الأحمري وبيده سيفه فضربه على شفته العليا فقطعها , ومضى السيف إلى السفلى , ثم ازدحموا عليه فقبضوه وقد ضعف حاله وأوثقوه كتافاً فأراد أن يمشي معهم فما استطع المشي, فجاؤو اليه ببغلة وأركبوه عليها واجتذبوا سيفه من يده , فجرت دموعه على خديه فكأنه أيس من نفسه .
فقال عمرو السلمي : أن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل هذا لا يبكي فقال: والله ما لنفسي بكيت ولا لها من القتل أرثى , وإن كنت لا أحب لها التلف طرفة عين ولكني أبكي لأهلي المقبلين , ابكي لحسين وآل الحسين .
بكتك دماً يابن عمّ الحسيـن محاجر شيعتك السافحة
ولا برحت هاطلات العيون تحييك غاديـة رائحة (1)
(1)

(نصاري)

يـمسـلم ويـن ذاك اليـوم عمّك يـجيك ايـعاينك غـارگ ابـدمك
يمـسلم مـحّد مـن الناس يمـك وحـيـد ابهالـبـلد مالـك تـگيّة
يمـسلم ويـن ذاك الـيوم عباس يجـيك ابـشيمتـه امـفرّع الراس
يشوفك يوم صابك نغل الأرجاس وهويت من الگصر لرض الوطية

(ابوذية)

عاد اليستجيره ايكون ينـجـار وعن چتله حليف الشرف ينجار
مثل مسلم صدق بالحبل ينجار وتتفرّس ابچتله عـلوج أمـيه
* * *
ما شدّ لحييه من عمرو العلى أحد كلا ولا ندبـته الأهـل من أمم
نائي العشيـرة منبوذ بـمصرعه مترّب الجـسم من قرن الى قدم
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 148


المطلب السابع والعشرون
في شهادة مسلم بن عقيل عليه السلام

لما جيء بسلم بن عقيل إلى قصر الأمارة مكتوفاُ التفت إلى محمد بن الاشعث وقال له : أتستطيع أن تبعث رجلاً عن لساني يبلغ حسيناً , فإنّي لا أراه وقد خرج إليكم اليوم , أو هو خارج غداً وأهل بيته معه وإن ما ترى من جزعي لذلك , فيقول الرسول : «إن مسلماً بعثني إليك وهو في قبضة القوم أسير لا يرى أن يمسي حتى يقتل وهو يقول ارجع بأهل بيتك ولا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل , فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لمكذوب رأي» . فقال محمد ابن الأشعث : افعل . إلّا انه ما فعل .
قال الراوي : وأقبلوا بمسلم بن عقيل إلى باب القصر وقد كضّه العطش لأنه لم يشرب الماء يومين , فرأى قلة فيها ماء قال : اسقوني ماء , فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : والله لن تذوق الماء حتى ترد الحميم من نار جهنم , فالتفت إليه مسلم وقال له : من أنت يا هذا؟! قال : أنا مسلم بن عمرو الباهلي الذي أطاع لأميره إذ عصيته , فقال : أنت يا يابن باهلة أولى بالحميم من نار جهنم , أنا أرد على رسول الله وعلى علي وعلى فاطمة وعلى الحسن فيسقوني من ماء الكوثر .
ثم أدخل على ابن زياد لم يسلم الإمرة على ابن زياد , فقال له الحرس : لم
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 149

لا تسلم على الأمير , فقال ابن زياد : دعه إن سلم أو لم يسلم فإنه مقتول لا محالة , ثم التفت إليه وقال : يا عاق يا شاق أتيت الناس وهم جمع فشتت كلمتهم وفرقت جماعتهم , فقال مسلم : كلا ما لهذا أتيت ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دمائهم , فأتيناهم لنأمر بالعدل وننهى عن الفحشاء المنكر ؛ فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق كنت تشرب الخمر في المدينة . فقال مسلم : الفاسق من ولغ في دماء المسلمين ولغا ؛ ثم قال له : لأقتلنّك شرّ قتلة , فقال : إن قتلتني فلقد قتل شرّ منك خير منّي .
قال الراوي : ثم أقبل عليه يشتمه ويشتم علياً وعقيلاً , ومسلم ساكت لا يتكلم ثم قال: يابن زياد إن كنت عازم على قتلي دعني أوصي بعض قومي , قال : افعل , فنظر مسلم إلى جلسائه فإذا فيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص , فقال: يا عمر إن بيني وبينك لقرابة (1)ولي إليك حاجة وهي وصية ؛ فأبى ابن سعد , فقال له عبيدالله : قم وانظر لحاجة بن عمّك , فقام معه وجلس بحيث ينظر إليه ابن زياد , فقال : أوصي , قال : وصيّتي «فأنا أشهد أن لا أله إلا الله وإن محمداً رسول الله وأن علياً ولي الله ووصيّه وخليفته في امته , يابن سعد وإن عليّ دين بالكوفة استدنته منذ دخلت الكوفة , وهي سبعمائة درهم بع لامتي واقضها عنّي , استوهب جثتي من ابن زياد فوارها , ثمّ ابعث إلى الحسين من يرّده , فإني كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلاً) .
فقال عمرو بن سعد لابن زياد : يا أمير أتدري ما قال لي ؟! قال كذا وكذا فقال ابن زياد : ما خانك الأمين ولكن ائتمنت الخائن , ثم قال : أمّا درعه فبعها واقض بها
(1) كان ابن أبي وقاص بن وهيب والد آمنة وإن لم عمر بن سعد وام علي بن الحسين عليه السلام الأكبر امهاتهن أخوات فمن هنا ادّعاه مسلم بالقربة .
ثمرات الاعواد ـ الجزء الاول 150

دينه , وأمّا جثته إذا قتلناه لا نعبأ بجثته , وأما الحسين فإنه إن لم يردنا لم نرده , ثم صاح من الذي ضربه على وجهه؟ فقيل له : هو بكر بن حمران الأحمري قال: هو يتولى قتله , فأمر باحضاره فاحضر فقال له : اصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه وارمه من أعلى القصر إلى الأرض واتبع رأسه جسده ؛ فصعد به بكر بن حمران ومسلم يسبّه الله ويقدّسه ويكبّره ويستغفره وهو يقول : احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وذلّونا .
قال مسلم : يا بكر دعني اصلّي لربّي ركعتين , فقال : صلّ , فصلّي مسلم حتى إذا فرغ من الصلاة وجّه وجهه نحو مكّة وقال : «السلام عليك يا أبا عبدالله , السلام عليك يا بن رسول الله» فصيح به : يا بكر عجّل عليه , فشهر بكر سيفه وضرب عنق مسلم ورمى برأسه من أعلى القصر الى الأرض وأتبع جسده , وأراد أهل الكوفة في ذلك اليوم إرضاء ابن مرجانة بفعلهم فجاؤا لمسلم ولهاني ورضعوا الحبال برجليهما وجعلوا يسحبونهما في بالأسواق (1) .
بكتك دماّ يابن عم الـحسين محاجر شيعتك السـافـحه
ولا رحت هاطلات الـعيون تحييك غـاديـة رائـحه
لأنك لـم تـرز من شربـة ثناياك فيها غدت طائـحه
رموك من القصر إذا أوثقوك فهل سلمت فيك من جارحه
(1) ولما قتل ابن زياد مسلماً وهانياً صلب جثتيهما ثلاثة أيام وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية مع هاني بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي , وكان قتلهما في يوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية في ذلك اليوم كان خرج الحسين من مكة المشرفة .
ويروى أنه لما قتلا مسلم وهاني أمر ابن زياد باخراج جماعة من الحبس وقتلهم فقتلوا ويروى أنه كان قبض مسلم على غير هذا وانهم أعطوه الأمان ؛ راجع ابصار العين للسماوي : 48 .

السابق السابق الفهرس التالي التالي