تراث كربلاء 88

الفصل الثاني

كربلاء .. قبلة الانظار

على الجانب الغربي من نهر الحسينية المتفرع من نهر الفرات تقوم أخلد مدينة في التاريخ ، هي كربلاء التي يبلغ تعداد نفوسها اليوم 110،000 الف نسمة . وجدير بنا أن نذكر أن نهرها الجميل هو مثار للعاطفة ورواء للقلوب الضامئة ، لاسيما في أيام الربيع وليالي الصيف الحالمة ، وبمجرد أن يزحف موكب الأصيل بأعراسه وبهجته الساحرة ، تمتد الكراسي على ضفتيه وينتظم الشباب عليها في حلقات جميلة للتمتع بهذه الروعة الطبيعية المدهشة والجمال الخلاب حيث النسيمات الندية تهب مغمورة بعطرالورد والقداح ، وحيث يتكسر الماء في قلب هذا النهر الجميل ، فيبدد ظلمة الهموم وينير القلوب بوميض من الفرح ، ويتجه هذا النهر نحو الطريق الذي يمر بمرقد الحر الرياحي مخترقاً صفوف النخيل وشجيرات الصفصاف التي تنعكس ظلالها على صفحات الماء الرقراق لتزيده روعة وسحراً .
ان من يسير غور تاريخ كربلاء ، يحب ألواناً من الجهاد الوطني الذي يشع بإيمان الاخلاص .. جهاد لايضاهيه جهاد ، واخلاص لايضارعه اخلاص . فكربلاء قد حازت قصب السبق في الحقلين الديني والوطني ، ونالت القدح المعلى

تراث كربلاء 89

في الزعامة الفراتية ، وضربت الرقم القياسي في الدفاع عن حقوقها ، فهي أبداً ثائرة بوجه الاستعمار ، أبداًُ طامحة إلى بلوغ امانيها النبيلة ، أبداً ناشرة تعاليم منقذ الإنسانية الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ضمت حضيرتها رجالاً اتصفوا بالعزم والحزم ورباطة الجأش وشدة الشكيمة ، رجالا اتصفوا بالنزاهة ، رجالا اشادوا بالتفاني في سبيل المبدأ ، رجالاً لاتأخذهم في الحق لومة لائم .
وكذا ضمت كربلاء بيوتاًُ لها من الشرف نصيب وافر ، وقد فتحت أبوابها على مصراعيها للشارد والوارد ، ونوادي ادبية حوت انفس الاثار الادبية، خلقت علماء لهم مكانتهم العلمية الرفيعة ، وقد بلغت كربلاء علواً ورفعة وقداسة مستمدة علوها ورفعتها وقداستها من رفعة الحسين وعلوه وقداسته . فهي من أسبق المدن التي انتزعت إليها الزعامة العلمية وعادت إليها بعد مضي قرون .
وقد وصف كربلاء عددغير قليل من الرحالين والمستشرقين والمؤرخين على اختلاف المراحل الزمنية ، وجاءت أوقالهم نابعة من صدق الاحساس ومن صميم الواقع .
وممن قصد كربلاء في سنة 726 هجرية الرحالة الشهير محمد بن عبد الله بن محمد ابن ابراهيم بن يوسف اللواتي الطنجي المعروف بأبي عبد الله شرف الدين ابن بطوطة القاضي ، فكتب عنها في رحلته قائلاً :« زرت كربلاء في أيام السلطان أبو سعيد بهادر خان بن خدابنده بعد أن تركت الكوفة في سنة 726هـ قاصداً مدينة الحسين ( كربلاء ) وهي مدينة صغيرة تحصنها حدائق النخيل ويسقيها ماء الفرات والروضة المقدسة داخلها وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر ، وعلى باب الروضة الحجاب والقومة ( الخدمة ) لايدخل أحد إلا عن اذنهم فيقبل العتبة الشريفة وهي من الفضة ، وعلى الأبواب أستار الحرير وأهل هذه المدينة طائفتان أولاد زحيك وأولاد فأئز وبينهما القتال أبداً وهم

تراث كربلاء 90

جميعاً إمامية يرجعون إلى أب واحد ولأجل فتنتهم تخربت هذه المدينة ثم سافرنا منها إلى بغداد » (1) .
ووصف كربلاء الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا الذي زارها يوم الجمعة المصادف 24 ايلول 1604 الموافق 1024هـ فقال : نزلت في أحد الخانات العامرة التي كان بناؤها للزوار يعد من الأعمال الخيرية المبرورة . ويقول تكسيرا : ان كربلاء التي يسميها مشهد الحسين ، كانت بلدة تحتوي على أربعة آلاف بيت معظمها من البيوت الحقيرة ، وكان سكانها من العرب وبعض الايرانيين والأتراك ،الذين كانوا يعينون للاشراف على المناطق المحيطة بها كذلك ، ولكن الأتراك كلهم كانوا قد انسحبوا يومذاك إلى بغداد بسبب الحرب مع الايرانيين فأدى ذلك إلى رحيل العجم عنها أيضاً لأنهم لم يعودوا يشعرون بالطمأنينة والأمان . وقد كانت أسواقها مبنية بناء محكماً بالطابوق ، وملأى بالحاجات والسلع التجارية لتردد الكثيرين من الناس عليها . وبعد أن يشير إلى وجود الروضة الحسينية وتوارد المسلمين لزيارتها من جميع الجهات يتطرق إلى ذكرى السقاة الذين كانوا يسقون الماء للناس في سبيل الله وطلباً للأجر ، او احياء لذكرى الإمام الشهيد الذي قتل عطشاناً في هذه البقعة من الأرض . ويقول: أنهم كانوا يدورون بقربهم الجلدية الملأى بالماء ، وهم يحملون بأيديهم طاسات النحاس الجميلة . ثم يشيرإلى تيسير الأرزاق ورخصها ، وتوفر المأكولات والحبوب بكثرة مثل الحنطة والشعير والفواكه والخضروات واللحوم ،وإلى لطف الهواء فيها وكون الجو فيها أحسن منه في جميع الأماكن التي أتى على ذكرها من قبل . وقد وجد في كربلاء عدداً من الآبار العامة الحاوية على الماء العذب الجيد جداً وكثيراً من الاشجار وبعض أنواع الفاكهة الاوروبية على حد تعبيره . وكانت الأراضي فيها تسقى من جدول خاص يتفرع من الفرات الذي يبعد عن البلدة بثمانية فراسخ وكان هناك بالإضافة

(1) تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار / للرحالة ابن بطوطة ج 1 ص 139 طبع مصر .
تراث كربلاء 91

إلى ذلك عدد كبير من الأغنام والماشية التي شاهدها ترعى في المراعي المحيطة بالبلدة . وفي نهايتها من جهة الفرات كانت هناك بركتان كبيرتان من الماء مربعتا الشكل ،وهو يعتقد أنهما كانتا قد أنشئتا للنزهة والتسلية ، مستدلاً على ذلك بما شاهده من اطلال بعض الأبنية والملاجئ الموقتة من حولهما . ولعل مواقع الأمكنة والمخيمات التي كانت تنصب للزوار في مواسم الزيارات الكبيرة . وهنا يشير كذلك إلى أن كربلاء والنجف كانتا تخضعان يومذاك إلى المير ناصر المهنا الذي يطلق على نفسه لقب ( ملك ) كما يشير إلى أنه كان تابعاً للأتراك الذين كانوا يغتصبون واردات الأراضي الممتدة في المنطقة كلها .
ومع هذا فقد شاهد تكسيرا بنفسه الأعراب التابعين للمير ناصر يبيعون في وضح النهار خيول وملابس وأثاث وأسلحة . أربعة وثلاثين تركياً من رجال الحكومة التركية في كربلاء بعد ان قتلوهم وسلبوهم مايملكون . وهذا يدل بلا ريب على مقدار الفوضي التي كانت تضرب أطنابها في تلك الجهات ، وهو يعزو هذا إلى انشغال الحكومة يومذاك بالحرب مع إيران . ومما يذكره في هذه المناسبة أنه وجد في الخان الذي كان ينزل فيه أربعين ( سكمانياً ) مع ضابطهم الخاص ، و( السكمانيون ) هم من الجيش المحلي التابع للحكومة ، وقد كان الناس يخشونهم لأنهم كانوا متعودين على التجاوز على الناس في كل فرصة أو مناسبة وكانوا من دون وجدان أو ضبط على حد قوله ... الخ (1) .
وزار كربلاء الرحالة الألماني كارستن نيبور فوصلها في أواخر أيام السنة الميلادية وهو يوم 27 كانون الأول 1765 م بعد أن استغرق في قطع المسافة بينها وبين الحلة حوالي سبع ساعات على ظهور الدواب ، ويقارن نيبور كربلاء بالنجف من حيث كثرة النخيل فيها وازدياد عدد سكانها . لكنه يقول ان بيوتها

(1) موسوعة العتبات المقدسة / قسم كربلاء . فصل ( كربلاء في المراجع الغربية ) ترجمة جعفر الخياط ص 281 ـ 284 .
تراث كربلاء 92

لم تكن متينة البنيان لأنها كانت تبنى باللبن غير المشوي ، وكانت البلدة على ما يظهر مما جاء في الرحلة محاطة بأسوار من اللبن المجفف بالشمس أيضاً ، كما كانت لها في هذه الأسوار خمسة أبواب ، على أنه وجد الأسوار متهدمة كلها في تلك الأيام الغابرة ، ولاشك ان أهم ما يلفت نظره في كربلاء الروضة الحسينية المطهرة التي رسم لها رسماًُ تقريباً خاصاً استقى تفصيلاته من الدوران حولها والتقرب إليها ، ومن دخوله إليها في إحدى الأمسيات لفترة وجيزة بصحبة الملا البغدادي الذي كان معه بعد أن لبس عمامة تركية مناسبة في رأسه ، والظاهر أنه فعل ذلك في موسم أحد الأعياد والزيارات المهمة . لأنه يقول ان أطراف الحضرة والصحن كانت متنورة للشبابيك الكثيرة التي كانت موجودة فيها . وقد كان ذلك يكاد يكون غريبا ًفي هذه البلاد التي كان يقل فيها زجاج النوافذ يومذاك ، ومما يأتي على ذكره في هذه المناسبة ان الحضرة تقوم في ساحة كبيرة تحيط بها من أطرافها الأربعة مساكن السادة والعلماء على حد قوله ، ولا شك أنه يقصد بذلك ساحة الصحن الكبيرة ، وكان يوجد بين يدي الباب الكبرى شمعدان نحاسي ضخم يحمل عدداً من الأضوية ، على شاكلة ما كان موجوداً في مشهد الأمام علي . لكنه يقول أنه لم يلاحظ وجود الكثير من الذهب في الروضة الحسينية يومذاك ، ولاسيما عندما يقارن ضريح الإمام الحسين بضريح الإمام علي في هذا الشأن .
ويذكر نيبور أيضاً ان العباس بن علي عليه السلام قد شيد له جامع كبير كذلك تقديراً لبطولته التي أبداها في يوم عاشوراء ، وتضحيته بنفسه من أجل أخيه . وهنا يروي قصة العباس المعروفة في الوقعة التي قطعت فيها يداه الكريمتان حينما احترق حصار الأعداء الأخساء لمعسكر الإمام الحسين وذهب ليأتي بالماء إليه وإلى الأطفال والنساء ، ويشير أيضاً إلى وجود مزار خاص خارج البلدة في أول الطريق المؤدي إلى النجف ،ويقول أنه شيد في الموضع الذي سقط فيه جواد

تراث كربلاء 93

الحسين بركبه الشهيد ... الخ (1).
ومما يزيد من مناظر كربلاء و جنانها روعة وابتهاجاًً هو ( نهر الحسينية) الذي يخترق بساتين كربلاء مبتدأ بشماله المدينة ومنتهياً ببحيرة ( أبي دبس ) حيث يصب فيها من جهة الغرب . وكان يعرف الفرع الرئيسي هذا باسم نهر الحيدري أو الخصيبة ، ويسير باتجاه الشمال الغربي من المدينة لإرواء بساتينها .
غير ان كربلاء كانت تعاني أحياناً الجفاف والظمأ ، فقد ينقطع عنها الماء طيلة أربعة أشهر ، وكانت معظم بساتين كربلاء ، قد حفرت فيها الآبار المبنية بالآجر ، فاستخدم الفلاح الكربلائي ( الكرد ) لسحب الماء من تلك الآبار وسقي البساتين والمزارع (2) .
وقد وصف كربلاء في مفتتح هذا القرن ( عمانوئيل فتح الله عمانوئيل مضبوط ) حيث زارها سنة 1329 هـ 1911م ونحن ننقل الوصف بكامله لأهميته ، فقال : « قد سرنا منظر ( كربلاء ) أعظم السرور لاسيما ( كربلاء الجديدة ) أو شهرنو ، فإن طرقها منارة كلها تنيرها القناديل والمصابيح ذات الزيت الحجري والقادم من بغداد إذا كان لم يتعود مشاهدة الطرق الواسعة والجادات العريضة أو إذا كان لم يتعود مشاهدة الطرق الواسعة والجادات العريضة أو إذا كان لم يخرج من مدينته الزوراء ويدهشني أعظم الدهش عند رؤيته لأول مرة هذه الشوارع الفسيحة التي تجري فيها الرياح والأهوية جرياً مطلقاً لاحائل يحول دونها كالتعاريج التي ترى في أزقة بغداد وأغلب مدن بلادنا العثمانية . وعند دخولنا المدينة نزلنا على أحد تجار المدينة وهو السيد صالح السيد مهدي (3) الذي كان قد أعد لنا منزلاً نقيم فيه ، فأقمنا

(1) موسوعة العتبات المقدسة / قسم كربلاء ( فصل كربلاء في المراجع الغربية ) ترجمة جعفر الخياط ص 286 ـ 288 .
(2) مذكرات السيد مجيد السيد سلمان الوهاب آل طعمة .
(3) يغلب على الظن ان السيد صالح هوابن السيد مهدي البلور فروش من تجار المدينة . والسيد أحمد هوابن السيد حسن بن السيد مرتضى آل طعمة.
تراث كربلاء 94

فيه نهاراً وليلتين . وفي الليلة الاولى خرجنا لمشارفة ما في المدينة مع السيد أحمد وأخذنا نطوف ونجول في الطرق فمررنا على عدة قهوات حسنة الترتيب والتنسيق ورأينا فيها جوامع فيحاء ومساجد حسناء وتكايا بديعة البناء وفنادق تأوي عدداً عديداً من الغرباء وقصوراً شاهقة ودوراً قوراء وأنهاراً جارية ورياضاً غناء وأشجاراً غبياء ، والخلاصة وجدنا كربلاء من أمهات مدن ديار العراق إذ أن بعض الصناع يفوقون مهرة صناع بغداد بكثير لاسيما في الوشي والتطريز والنقش والحفر على المعادن والتصوير وحسن الخط والصياغة والترصيع وتلبيس الخشب خشباً أثمن وأنفس على أشكال ورسوم بديعة عربية وهندية وفارسية وهندسية . ولما كان الغد وكان يوم السبت رأينا مالم نره في الليل فسبقنا وصفه . وكنا نقف عند التجار زملائنا وحرفائنا ومعاميلنا الذين نتعاطى معهم بالبيع والشراء . وفي خارج المدينة نهر اسمه ( الحسينية ) ( بالتصغير ) وماؤه عذب فرات ومنه يشرب السكان إلا أن ماءه ينضب في القيظ فتخرج الصدور وتضيق النفوس ويغلو ثمن الماء فيضطر أغلبهم إلى حفر الآبار وشرب مياهها وهي دون ماء الحسينية عذوبة فتتولد الأمراض وتفشو بينهم فشواً ذريعاً كالحميات والأدواء الوافدة والأمل ان الحكومة تسعى في حفر النهر وحفظ مياهه طول السنة. في كربلاء مستشفى عسكري ودار حكومة ( سراي ) وثكنة للجند وصيدلية وحمامات كثيرة ودار برق وبريد وبلدية وقيسريات عديدة . وفيها قنصلية إنكليزية والوكيل مسلم وأغلب رعية الإنكليز من الهنود . وفيها أيضاً قنصل روسي وهو مسلم أيضاً من كوه قاف ( قوقاسي ) وهيئة كربلاء الجديدة ترتقي إلى مدحت باشا الشهيرة , و يبلغ عدد سكانها 105000 نسمة منها 25 الفاً من العثمانيين و60 الفاً من الإيرانيين وبعض الأجانب المختلفي العناصر و 20 الفاً من الزوار الغرباء الوافدين اليها من الديار البعيدة وليس فيها نصارى لكن فيها عدد من اليهود . أما هواء كربلاء فمعتدل في الشتاء ورديء في الصيف لرطوبته .

تراث كربلاء 95

أما في سائر أيام السنة فيشبه هواء سائر مدن العراق بدون فرق يعتد به . والذي يجلب المسلمين إلى كربلاء هو زيارة قبر الحسين بن بنت رسول المسلمين وقبور جماعة من شهداء آل البيت والحسين مدفون في جامع فاخر حسن البناء فيه ثلاث مآذن وقبتان كلها مبنية بالآجر والقاشاني ومغشاة بصفيحة من الذهب الابريز وهناك أيضاً ساعتان كبيرتان دقاقتان وكل ساعة مبنية على برج شاهق . وفي كربلاء جامع آخر لايقل عن السابق حسناً في البناء وهو جامع العباس وفيه أيضاً مئذنتان وقبتان وساعتان كبيرتان على الصورة المتقدم ذكرها ووصفها . وفي هذه المدينة قسم قديم البناء و الطرز ضيق الازقة والشوارع والأسواق إلا أن مايباع في تلك الأسواق بديع الصنع وأغلب بضائعها تشاكل بضائع بلاد فارس لاسيما يشاهد المناظر كثيراً من الطوس من كبيرة وصغيرة من النحاس الأصفر ( الصفر ) وهناك سلعة لاتراها تباع في غير كربلاء وهي الترب ( جمع تربة وزان غرفة ) وهي عبارة عن قطعة من الفخارأخذ ترابها من أرض كربلاء وجبلت على صورة مستديرة أو مربعة أو مستطيلة أو نحو ذلك يتخذها الشيعة وقت الصلاة فيجعلونها في جبهة القبلة ويصلون متجهين نحوها . ومما يكثر في اسواقها انواع الاحذية المختلفة الشكل الفارسية الطرز وترى في الحوانيت الزعفران الفاخر الخالص من كل شائبة وغش مما لا تجد مثله في بغداد . ولغة أغلب أهل كربلاء الفارسية لكثرة العجم فيها ، إلا أن الكثيرين منهم تعلموا العربية ويحسنون التكلم بها. ويقسم لواء كربلاء إلى ثلاثة أقضية وهي مركز قضاء كربلاء والهندية والنجف والى سبع نواح وهي : ثلاث منها في مركز القضاء وأسماؤها : المسيب والرحالية وشفاثه وواحد في الهندية وهي الكفل وثلاث في النجف وهي الكوفة والرحبة والناجية . ولما كان نهار الأحد 4 نيسان نهضنا صباحاً وفطرنا ثم ركبنا العجلات وبرحنا كربلاء في نحو الساعة العاشرة (1) .

(1) مجله ( لغة العرب ) الجزء الرابع ( رجب 1329 شوال 1911 م ص 156 ـ 160 )
تراث كربلاء 96

وقد وصف كربلاء المؤرخ العراقي المعاصر السيد عبد الرزاق الحسني في كتابه ( موجز تاريخ البلدان العراقية ) فقال ما هذا نصه :« أما كربلاء اليوم فتبعد عن بغداد 74 ميلاً ، وتربطها بها سكة حديد ثابتة . وهي مدينة واسعة جالسة على ضفة ترعة ( الحسينية ) اليسرى ، يحيط بها شجر النخيل الوارف وتحفها البساتين المحتوية على أشجار الفواكه الباسقة المختلفة الصنوف ، وهي إلى ذلك ذات جادات واسعة ومؤسسات فخمة وأسواق منظمة ومبان عامرة ورياض وغياض كثيرة ، وتقسم كربلاء من حيث العمران إلى قسمين يسمى الأول ( كربلاء القديمة ) وهو الذي أقيم على أنقاض كربلاء العريقة في القدم والشهيرة في التاريخ . ويدعى الثاني ( كربلاء الجديدة ) وهو الذي خطط في عهد ولاية المصلح الكبير مدحت باشا في عام 1285 هـ ( 1868 م ) وبني بعد عام 1300 للهجرة على طراز يختلف عن الطراز القديم ، إلا أنه تهدم معظمه ـ مع الأسف ـ حيث أقيم على أرض سبخة تنزفيها المياه فتأكل أسس الجدران ، ولهذا السبب يحيط بكربلاء اليوم مستنقع كبير هو علة وجود أمراض مزمنة في هذه المدينة تجعل وجوه الأهلين صفر الوجوه هزيلي الأجسام معرضين للأمراض المختلفة (1) كما وصف كربلاء أيضاً الأستاذ رزوق عيسى فقال : كربلاء وهي إحد المدن المقدسة عند الشيعة وفيها مرقد الحسين وموقعها على ضفة نهر الحسينية اليسرى يحيط بها من جهة الشمال والغرب وتكتنفها المزارع والبساتين والرياض من الشمال والشرق والجنوب ، وهي واقعة إلى الجنوب والجنوب الغربي من بغداد تبعد عنها 80 كيلومتراً أو نحو 35 ميلاً وتبعد عن الحلة 25 ميلاً وهي قائمة إلى الغرب والشمال الغربي منها . وفي كربلاء بلدتان الواحدة قديمة والأخرى جديدة فالأولى إلى الشمال ويحيط بها سور من الشرق والشمال والغرب ومفتوحة من جهة الجنوب حيث ترى البلدة الجديدة وهي متسعة البناء وفيها جادة واسعة عريضة آخذة

(1) موجز تاريخ البلدان العربية / للسيد عبد الرراق الحسني ص 63 و64
تراث كربلاء 97

إلى الشمال والجنوب وعلى مسافة ميل من جنوب البلدة الجديدة منزل واسع للزوار . وأما البلدة العتيقة فطرقها معوجة ودورها متجمعة وارتفاع سورها يتراوح بين 20 و30 قدماً وهو مبني بالآجر وفي أعلاه أبراج ، وموقع المدينة مستو إلا أن الجهة الشمالية الغربية أعلى من سائر الجهات (1).
ولعل أروع وصف لجمال الطبيعة في كربلاء ما دبجه يراع الأستاذ عبد الرزاق الظاهر حيث يصف لنا نهر الحسينية ويتأمل جماله الفتان ، وسحره الأخاذ ، وهو ينساب بني البساتين الغناء والسهول الخضراء ، فاهتزت خلجات نفسه لهذه المناظر الطبيعية الخلابة ، وصورها الحالمة، وجاشت قريحته بهذه العبارات البليغة الزاخرة بالعواطف الملتهبة والمشاعر المتدفقة التي تنم عن حبه العميق لمدينة كربلاء العربية الخالدة فهو يقول : وفي كربلاء صورة بديعة للملكية الصغيرة وما ينتج من تطبيقها من الحسنات والمنافع فالبساتين المنثورة على ضفتي نهر الحسينية وعلى فروعه تذكرني بغوطة دمشق وجناتها ومياهها . والداخل إلى تلك الجنائن يشعر بالراحة والانتعاش وتحمل اليه الأرواح العذبة التي تهب من جنبات الأشجار والنخيل ومن أريجها وعبقها أطيب العطور . وتقع العين على المنظر البهيج والثمر الشهي يتدلى بقدرة القادر فتطيب له النفس . ولقد كنا صغاراً في أوائل مراحل الصبا نخرج في مواسم الزيارة ونذهب إلى طرف مدينة كربلاء فنركب الحمير السريعة العدو ونحن فرحون مرحون ، ونتجه إلى مسجد الحر الرياحي ومقبرته ، فنقطع الطريق من النخل والشجر والزرع والماء تماسك أوله بأخره وهذه الرياض والبساتين لاتمتاز بالجمال فحسب وإنما تمتاز بالخير الوفير والبركة وينتفع مالكوها من ثمراتها أضعاف ماينتفع به المالكون للمئات من الدونمات المهجورة والتي تستغل لزراعة الحبوب ولجعلها مراعي للمواشي في أماكن أخرى (2) .

(1) جغرافية العراق / رزوق عيسى ص 119
(2) الاقطاع والديوان في العراق / عبد الرزاق الظاهر ص 61
تراث كربلاء 98

ويصف أبو طالب خان رحلته إلى كربلاء فيقول : وباليوم الرابع من ذي القعدة سنة 1218 هـ الموافق اليوم الأول من مارس سنة 1803 م بعد إقامتي ببغداد ثمانية أيام استأنفت سفري لزيارة مشهد كربلاء ومشهد النجف الأشرف وفي هذه المرة لم أعلم الباشا بنيتي وخطتي فاكتريت خفية خيلاً وبغالاً من حوذي ، وانفقت معه على أن يرافقني في جميع الطريق وسافرت بلطف فائق ، ولقيت حفاوة من كل من لاقاني في أي موضع كنت من طريقي، وأبتهجت بلقيا قاضي كربلاء ( ملاعثمان ) وكان عائداً إلى كربلاء وكان رجلاً سنياً ولكنه كان قد تفقه وتثقف وتعلم علماً جليلاً وكان بريئاً من أوهام الأحكام التي يحكم بها الطغام قبل الاستعلام وظهر لي أنه سر سروراً عظيماً بلقائي ورجا مني أن أكون رفيقه في السفر . وفي الطريق من بغداد إلى النجف رأيت بين كل ثمانية أميال خانات مسافرين مبنية بالآجر تشبه حصوناً ، ولكنها يندر أن يقيم فيها المسافرون . وفي اليوم الأول سرنا أربعين ميلاً وقضينا الليل في خان المزراقجي ثم وصلنا إلى كربلاء في نحو الساعة الثالثة من اليوم الثاني ونزلت في دار السيد حمزة وكنت عرفت ابن أخيه في مقصود آباد في البنغال وكنت أرجي أن أراه ثانية بكربلاء ولكنه توفي قبل وصولي اليها بعدة أشهر ومع ذلك استقبلني أبواه استقبالاً حسناً وأعاناني على إتمام مختلف مناسك الزيارة وتلقاني حاكم كربلاء أمين آغا بكثير من الأدب ودعاني مرتين إلى التغذي معه وأعد لي فيلا لأسافر إلى النجف ورغب في دفع كرائها ولما كان ذلك يحرمني ثواب الزيارة لم أقبل قط هذا البذل (1).
وكانت مدينة كربلاء مقسمة إلى ثلاثة أطراف أو محلات تشكل قصبة كربلاء قديماً ، يدعى الطرف الأول بمحلة ( آل فائز ) التي تعرف اليوم بمحلة باب السلالمة والقسم الشرقي من باب الطاق وباب بغداد وبركة العباس . أما الطرف

(1) رحلة أبي طالب خان إلى العراق واوروبه / 123هـ / 1799 م ص 381
تراث كربلاء 99

الثاني فيعرف بمحلة ( آل زحيك ) وتضم محلة باب النجف وباب الخان . ويدعى الطرف الثالث بمحلة ( آل عيسى ) وتشمل القسم الغربي من باب الطاق ومحلة المخيم . وقد سميت المحلات الثلاث بتلك الأسماء نسبة إلى السادة العلويين الذين كانوا يقطنونها منذ عدة قرون ، وكانوا يتقاضون ضرائب على أعقارهم من العشائر التي سكنت هذه الأطراف فيما بعد ، كما تنص على ذلك الوثائق الرسمية والمستندات القديمة التي يحتفظ بها معظم رجالات البلد وذوي البيوتات .وبعد ان اتم السيد علي الطباطبائي الشهير بصاحب الرياض بناء سور كربلاء ابتداء من سنة 1217 هـ جعل له ستة أبواب، وعرفت كل باب باسم خاص ، واستبدل اسماء الاطراف باسماء تلك الابواب كما هي اليوم ، ولدى مجيء الوالي مدحت باشا (1) هدم قسماً من السور من جهة باب النجف ، وأضاف طرفاً آخر إلى المدينة سمي بطرف ( العباسية ) مضافاً إلى ذلك ان محلة العباسية نفسها قسمت الى قسمين يعرفان بالعباسية الشرقية والعباسية الغربية ، فأصبحت بكربلاء اليوم ثمانية أطراف ( محلات ) وهي :
1 ـ محلة باب السلالمة : وسميت بهذا الاسم نسبة إلى العشيرة العربية المعروفة بـ ( السلالمة ) اتي قطنتها ، وتقع إلى الشمال من مرقد الامام الحسين عليه السلام.
2ـ محلة باب بغداد : وتقع إلى الشمال من مرقد العباس عليه السلام وهو الحي الذي يمره المسافرون منه إلى بغداد ، وتعرف أيضاً بـ ( باب العلوه ) نسبة إلى وجود علوة لبيع الخضروات .
3 ـ محلة باب الطاق : وتقع إلى الجهة الشمالية الغربية من المدينة وسميت

(1) ومن أعمال هذا الوالي في كربلاء تبديله طريق كربلاء بغدادالسابق المعروف بـ ( عكدإ بغداد ) وذلك عند مجيء ناصر الدين شاه القاجاري لزيارة العتبات المقدسة سنة 1287 هـ وجعله من طريق كربلاء ـ عون وهو الطريق الأصلي الذي كانت تسير فيه القوافل والعربات حتى زمن الاحتلال .
تراث كربلاء 100

بذلك نسبة إلى وجود طاق السيد ابراهيم الزعفراني أحد رجالات كربلاء في حادثة المناخور سنة 1241 هـ .
4ـ محلة باب الخان : وتقع إلى الجانب الشرقي من المدينة وسميت بهذا الإسم نسبة إلى وجود خان كبير كان قد أقيم بالقرب من سور المدينة .
5ـ محلة المخيم : تقع إلى الجنوب الغربي من المرقدين المقدسين وسميت بذلك تيمناً بوجود المخيم الحسيني .
6ـ محلة باب النجف : تقع في قلب المدينة وتشمل الأماكن التي تفصل المرقدين المقدسين . وهو الحي الذي كان يمر المسافرون منه إلى النجف .
7ـ محلة العباسية : تقع إلى جنوب المدينة ، وقد اختطت في عهد الوالي مدحت باشا ، وتعرف بالجديدة ، وقسمت إلى قسمين :
العباسية الشرقية : وهي التي تقع إلى شرق شارع العباس
العباسية الغربية : وهي التي تقع إلى غرب شارع العباس .
وفي عام 1956 م أحدث متصرف كربلاء حسين السعد ( حي الحسين ) ويقع جنوب كربلاء. ثم أخذت المدينة تتوسع ويزداد عدد سكانا فاستحدثت محلات أو أحياء أخرى ، وهي كما يلي
1ـ حي المعلمين .
2ـ حي العباس ويقع شمال المدينة ضمن أراضي ( فدان السادة ) العائدة للسادة آل طعمة .
3ـ حي النقيب
4ـ حي الثورة
5ـ حي الحر
6ـ حي رمضان
7ـ حي الصحة
8ـ حي الاسكان
9ـ حي الإصلاح الزراعي
10 ـ القزوينية

تراث كربلاء 101

11 ـ حي العدالة
12 ـ حي البنوك
13ـ حي الأنصار
14 ـ حي الموظفين
15 ـ حي البلدية
16 ـ حي العروبة
17 ـ السعدية
18 ـ حي العلماء
19 ـ المعلمجي
20 ـ حي التعليب
21 ـ حي العامل
وفي كربلاء عمارات بديعة أشهرها رباط الهنود الاسماعيلية المعروفين ( البهره ) فإنه كبير جداً وفيه مشروع إسالة ماء خاص به ومؤسسة للكهرباء وصيدلية توزع فيها الأدوية مجاناً . ومنها بناية دائرة الماء والكهرباء وصرح الحكومة ودائرة البرق وعمارة القنصلية الايرانية الى عدد كبير من الفنادق الحديثة المعدة لإيواء الزوار ومكتبة للأوقاف العامة ومكتبات خاصة وتجارية كثيرة (1) إضافة إلى ذلك فإن هناك الكثير من المباني الحكومية التي أنشئت حديثاً . كما أن فيها شوارع مستقيمة ومبلطة كشارع الإمام علي وشارع علي الأكبر وشارع الحسين وشارع العباس وشارع الرسول الأعظم وشارع الوحدة العربية وسواها ، ويروى أن أحد ملوك الهند زار كربلاء في أوائل القرن التاسع عشرة الميلادي أي بعد حادثة الوهابيين فأشفق على حالتها وبنى فيها أسواقاً حسنة وبيوتاً قوراء أسكنها بعض من نكبوا وبنى للبلدة سوراً حصيناً لصد هجمات الأعداء ، وأقام حوله الأبراج والمعاقل ، ونصب آلات الدفاع على الطراز القديم وصارت على من يهجمها أمنع من عقاب الجو فأمنت على نفسها وعاد اليها بعض الرقـي والتقدم (2). وفي أيام الوالي المصلح مدحت باشا ( 1871 م ) بنيت الدوائر الحكومية في كربلاء وتم توسيع السوق فيها (3) . إضافة إلى وجود عدد من الأسواق

(1) العراق قديماً وحديثاً / السيد عبد الرزاق الحسني ص 126 .
(2) تاريخ كربلاءالمعلى / عبد الحسين الكليدار آل طعمة ص 22 .
(3) موسوعة العتبات المقدسة / قسم كربلاء ج 1 ص 280
تراث كربلاء 102

الكبيرة (1).
ولعل أشهر المباني الحكومية الفخمة التي تتوسط حي الحسين الجميل هو فندق كربلاء أو ما يسمى بفندق المصايف والسياحة ، حيث يأوي اليه السواح والزوار .
أما نفوس كربلاء فقد ثبت لدى الاحصائية الأخيرة التي أجريت سنة 1976 م أن نفوس مدينة كربلاء ( 814 .281 ) نسمة .
وقد اقترن اسم كربلاء بحكم مركزها الديني المرموق بأسماء العديد من ذوي المواهب الفنية والأدبية ، فقد خرجت العديد من الشعراء والكتاب و رجال العلم والدين ، كما اشتهرت بعدد من الصناعات والفنون الشعبية الدقيقة كصناعة السيراميك والقاشاني الملون المنقوش بالصور الجميلة وصناعة النقش على النحاس التي برع بها الكربلائيون فأخرجوا من النماذج ما يرتقي إلى مصاف اللوحات الفنية

(1) يروى أن سوق البزازين ( سوق العرب ) اليوم أسس قبل 200 سنة وكان بسمى قديماً بـ ( سوق مدك الطبل ) أي أنه كان سوقاً للصفارين.و للسادة آل الأشيقر بعض الموقوفات في هذا السوق . وقد أطلعت على وقفية خاصة بها وتاريخها سنة 1251 هـ ، الواقف لها علي الحردان والموقوف عليه السيد محمد السيد حمزة الاشيقر .
ومن الأسواق الأخرى ( سوق الحسين ) الذي أوقف بعض حوانيته الشيخ محمد صالح البرغاني على الجهات الخيرية للحائر الحسيني . وقد اطلعت على الوقفية الخاصة بتلك الحوانيت وتاريخها رجب المرجب من شهور سنة سبعين بعد الألف والمائتين مختوماً بختم شيخ الطائفة الشيخ مرتضى الأنصاري .
وهناك أسواق أخرى قديمة كسوق القبلة الذي بناه السيد أحمد الدده وكان عبارة عن مجموعة دور وخان كبير . ووردت أهزوجة شعبية بعد وضع ( الجمالي ) على السوق من قبل الوالي تقول :
الله يديمه الوالي سوه السوك جمالي
وعدا ماذكرت فان هناك سوق التجار الكبير وسوق العباس وسوق الزينبية وسوق العلاوي وسوق باب الخان وغيرها .
تراث كربلاء 103

المتكاملة (1) ومما لاغبار عليه أن كربلاء مجبولة على الصناعة اليدوية البدائية ، فقد كان من الطبيعي أن تكون مركزاًُ لقيام صناعات النحاس ( الصفر ) على أشكاله وهي تعد من أنفس الصناعات لاسيما ( السماورات ) لصنع الشاي ، والصياغة الدقيقة والوشي والتطريز ، وفيها صناعة الترب ، وصناعة الأحذية الشعبية والصياغة الذهبية والفضية وصناعة الأواني النحاسية والبرونزية المنقوشة بالصور والتماثيل ، كما تقوم بصناعة الغزل والنسيج والصناعات الفرعية الأخرى كصناعة الترب التي تتخذ من أرض كربلاء تبركاً للسجود عليها والسبح للتسبيح بها وغير ذلك، وكان من جراء الماضي الصناعي لكربلاء أن تخرج فيها عدد من العمال المهرة .
وقد أسهم الشعراء والكتاب إسهاماً ملحوظاً في وصف كربلاء والثناء عليها . وها نحن نثبت في هذا الفصل بعض النماذج التي تجسد مفاتن ومحاسن هذه المدينة شعراً . فهذه أبيات من قصيدة بعنوان (بعد الأحبة ) للشاعر الكربلائي المرحوم عباس أبو الطوس يستنهض بها أحبته فيناشدهم بقوله :
هب النسيـم علـى الربى فذكرتكم وهفـا الفـؤاد لأمسـه البسـام
والبـدر قـد أرخـى طلاقته على هضبات وادي ( الطف ) والآكام
و( الطف ) دارصبـابتي وسعادتي ومقـر أحبـابـي وأرض إمامي
أرض بها طـابت ملاعب صبوتي وصفـت كلطـف نسيمها أيامي
ونشأت بيـن حقـولهـا ونخيلهـا فغدت مثار عواطفـي وهيـامي
وسحبت ذيل صباي فيهـا باسـماً ما بين صحب من ذوي الأقـلام
ياكربـلاء تقـدمـي يـاكـربلا للعلم ، للأدب الرفيـع السامـي
سيري على نور الحضارة والعلى هـذا أوان الـجــد والاقـدام
سيري على نهـج النهـى جذلانة ودعي ارقاد فـلات حين منـام

(1) مجلة ( العراق الجديد ) العدد 10 تشرين الأول 1961 م .
تراث كربلاء 104

ثم اخلعي الثوب الذي لعبت به كف البلى في سالف الأعوام
سيري على أسس الحياة فانما تعلو البلاد إذا سـرت بنظام
ياكربلاء وما القريـض بنافع إذ لايشق حنـادس الابـهام
لايستحق أخو الأحاجي عـزة إن كان فيه كخابـط بظلام (1)

وفي يوم 16 / 2 / 1960 م زار الشاعر خضر عباس الصالحي مدينة كربلاء ، ومكث فيها زهاء أربعة أيام تسنى له خلالها التعرف على طائفة ممتازة من أدبائها الأحرار المثقفين ، فلقي منهم أنبل اللطف وأروع المجاملة ، وأحسن اللقاء فألهمته هذه المزايا الرائعة قصيدة وجدانية هي :
أرسلـت حلـو الغناء عـلـى ربـى كربلاء
كعـاشـق مسـتهـام بـغـادة حــسـنـاء
أو هـائـم هيجـتـه عواطـف الشـعـراء
أو ظامـئ بات يحسو خمر المنـى باشتـهاء
أو طـائر راح يشدو فـي واحـة فـيـحاء
بها تحـف ريـاض مـلأى بكنـز الـرخاء
وحولها غـاب نخل يطفو بـدفـق الثـراء
بأفقها الرحب تسمو مـراقـد الـشهــداء
تشق قلـب الليـالي بـنـــورها الـلألاء
فيالهـا ذكـريـات جاشـت بفيـض الولاء
بها فؤادي المعـنى أضحى طليـق الـرجاء
وعاش في ظل قوم من صـفـوة الادبـاء
فـي لجة من حنين وموجـة مـن هـنـاء
بهـا الشعور تعرى مـن الأسـى والشقـاء

(1) جريدة ( القدرة ) الكربلائية ـ العدد 12 تموز 1951 م 13 شوال 1370 هـ .
تراث كربلاء 105

والقلب صـار يغـني بنـغـمـة خضـراء
الـذكـريـات ستبقى مغمـوسة فـي دمائي
كنـفـحـة تتهـامى مــن وردة عـذراء
طاف الربيـع عليهـا بروحـه السمـحـاء
فـدب فـي كل عرق منهـا عبيـر الضياء
فانسـل من عاطفاتي همس الدجى والمساء
ياليت شعري أأحظى بعد النـوى بـاللقاء (1)

ويشارك الشاعر هادي الشربتي بهذه المشاعر الصادقة والأحا سيس المتدفقة نحو مدينته فيقول :
كلفـت بأرض الطـف منذ طفولتي وأرجوبأن تمسي لدى الموت مهجعي
فلي عندها في كـل شبـر لبـانـة من العمر تبدو لـي على كل موضع
وأوعتها أحلى الأمانـي فما أبتغـى فؤادي سواها فهـي بيتـي ومفزعي
ولو جبت في الآفاق طراً فلم يكن إلى غيرها يوماً ركونـي ومـرجعي
دفنت بها خير الأحبـة لـم تـزل طيوف لهم تتـرى فينهـل مدمعـي
ومن نبتها أحببـت غرسـاًً وصاله لدى الـروح من أحلى الأماني وامتع
أهاجت شظايا لوعة البين أضلعي قـواف بهـا جـادت يـراعة مبدع

(1) جريدة ( شعلة الأهالي ) الكربلائية ت العدد 9 ( 21 مايس 1960 م / ذي القعدة 1379 هـ ).

السابق السابق الفهرس التالي التالي