زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 405


فقال يزيد ـ مجيباً لها ـ :
يـا صيحة تحمد مـن صوائح ما أهون الموت (1)على النوائح (2)

(1) وفي نسخة : ما أهون النوح على النوائح .
(2) كتاب «الإحتجاج» للطبرسي ، طبع لبنان عام 1403 هـ ، ج 2 ص 307 ـ 310 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 406




زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 407

شرح خطبة السيدة زينب في مجلس يزيد


قبل أن نبدأ بشرح بعض كلمات هذه الخطبة نجلب إنتباه القارئ الكريم إلى هذا التمهيد :
تدبر قليلاً لتتصور أجواء ذلك المجلس الرهيب ، ثم معجزة السيدة زينب الكبرى في موقفها الجريئ !
بالله عليك ! أما تتعجب من سيدة أسيرة تخاطب ذلك الطاغوت بذلك الخطاب ؟
وتتحداه تحدياً لا تنقضي عجائبه ؟
ولا تهاب الحرس المسلح الذي ينفذ الأوامر بكل سرعة وبدون أي تأمل أو تعقل ؟ !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 408


وأعجب من ذلك سكوت يزيد أمام ذلك الموقف مع قدرته وإمكاناته ؟
وكأنه عاجز لا يستطيع أن يقول شيئاً أو يفعل شيئاً !
أليس من العجيب أن يزيد ـ وهو طاغوت زمانه ، وفرعون عصره ـ لم يستطع أو لم يتجرأ على أن يرد على السيدة زينب كلامها ، بل يشعر بالعجز والضعف عن مقاومة السيدة زينب ، ويكتفي بقراءة قول الشاعر :
«يا صيحة تحمد من صوائح» !
فما معنى هذا البيت في هذا المقام ؟ !
وما المناسبة بين هذا البيت وبين كلمات خطبة السيدة زينب ؟
فهل كانت حرفة السيدة زينب النياحة حتى ينطبق عليها قول يزيد : «ما أهون النوح على النوائح» ؟
وما يدرينا مدى ندم يزيد بن معاوية من مضاعفات جرائمه التي ارتكبها ؟ وخاصة تسيير آل رسول الله من العراق إلى الشام .
فإنه ـ بالقطع واليقين ـ ما كان يتصور أن سيدة أسيرة سوف تغمسه في بحار الخزي والعار ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 409

فلا يستطيع يزيد أن يغسل عن نفسه تلك الوصمات . . إلى يوم القيامة .
وتكشف الغطاء عن هوية يزيد ، وترفع الستار عن ماهيته وأصله ، وحسبه ونسبه ، وسوابقه ولواحقه ، وتخاطبه بكل تحقير ، وتقرع كلماتها مسامع يزيد ، وكأنها مطرقة كهربائية ، ترتج منها جميع أعصابه ، فيعجز عن كل مقاومة ! !
والآن إليك شرحاً موجزاً لبعض كلمات هذه الخطبة الحماسية الملتهبة :
«الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على جدي سيد المرسلين»
إفتتحت كلامها بحمد الله رب العالمين ، ثم الصلاة على جدها : سيد المرسلين ، فهي ـ بهذه الجملة ـ عرفت نفسها للحاضرين أنها حفيدة رسول الله سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يعرف الحاضرون أن هذه العائلة المسبية الأسيرة هي من ذراري رسول الله ، لا من بلاد الكفر والشرك . ثم قرأت السيدة هذه الآية :
«صدق الله سبحانه ، كذلك يقول : «ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوئى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 410

يستهزؤن» (1)» .
وما أروع الإستشهاد بها ، وخاصةً في مقدمة خطبتها ! !
وعاقبة كل شيء : آخره ، أي : ثم كان آخر أمر الذين أساؤا إلى نفوسهم ـ بالكفر بالله وتكذيب رسله ، وارتكاب معاصيه ـ السوئى ، أي : الصفة التي تسوء صاحبها إذا أدركته ، وهي عذاب النار .
«أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن» أي : بسبب تراكم الذنوب والمعاصي في ملف أعمالهم حصل منهم التكذيب بآيات الله والحقائق الثابتة ، وظهر منهم الإستهزاء بها وبالمقدسات الدينية .
وهي (عليها السلام) تشير بكلامها ـ هذا ـ إلى تلك الأبيات التي قالها يزيد :
«لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل»

ومعنى هذا البيت من الشهر : أن بني هاشم ـ والمقصود من بني هاشم : هو رسول الله ـ لعب بالملك بإسم النبوة والرسالة ، والحال أنه لم ينزل عليه وحي من السماء ، ولا جاؤه خبر من عند الله تعالى .

(1) سورة الروم ، الآية 10 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 411


فتراه ينكر النبوة والقرآن والوحي ! !
وهل الكفر والزندقة إلا هذا ؟ !
ثم إن بعض الناس ـ بسبب أفكارهم المحدودة ـ يتصورون ـ خطأ ـ أن الإنتصار في الحرب يعتبر دليلاً على أنهم على حق ، وعلى قربهم من عند الله تعالى ، فتستولي عليهم نشوة الإنتصار والظفر ، ويشملهم الكبرياء والتجبر بسبب التغلب على خصومهم ؛
ولكن السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فندت هذه الفكرة الزائفة ، وخاطبت الطاغية يزيد باسمه الصريح ، ولم تخاطبه بكلمة : «أيها الخليفة» أو «يا أمير المؤمنين» وأمثالهما من كلمات الإحترام .
نعم ، خاطبته باسمه ، وكأنها تصرح بعدم إعترافها بخلافة ذلك الرجس ، فقالت :
«أظننت ـ يا يزيد ـ حين أخذت علينا أقطار الأرض وضيقت علينا آفاق السماء ، فاصبحنا لك في أسار ، نساق إليك سوقاً في قطار ، وأنت علينا ذو اقتدار ، أن بنا من الله هوانا ، وعليك منه كرامة وامتنانا» ؟ !
تصف السيدة زينب حالها ، وأحوال من معها من العائلة المكرمة ، أنهم كانوا في أشد الضيق ، كالإنسان

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 412

الذي أخذوا عليه ، أي : منعوه وحاصروه من جميع الجوانب والجهات ، بحيث لا يستطيع الخروج والتخلص من الأزمة .
وبعد هذا التضييق والتشديد ، والمنع والحبس «أصبحنا نساق» مثل الأسارى الذين يأتون بهم من بلاد الكفر عند فتحها .
«سوقاً في قطار» يقال ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ : «قطار الإبل» أي : عدد من الإبل على نسق واحد وفي طابور طويل ، وقد قرأنا أن جميع أفراد العائلة ومعهم الإمام زين العابدين والسيدة زينب (عليهما السلام) كانوا مربوطين ومكتفين بحبل واحد !
«وأنت علينا ذو اقتدار» أي : نحن في حالة الضعف وأنت في حالة القدرة .
«أن بنا من الله هواناً ، وعليك منه كرامة وامتناناً» ؟ !
أي : أظننت ـ لما رأيتنا مغلوبين ، ووجدت الغلبة والظفر لنفسك ـ أن ليس لنا جاه ومنزلة عند الله ، لأننا مغلوبون ؟ ! ! وظننت أن لك عند الله جاهاً وكرامة لأنك غلبتنا وظفرت بنا ، وقتلت رجالنا ، وسبيت نساءنا ؟ ! !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 413


«و» ظننت : «أن ذلك لعظم خطرك»
أي : لعلو منزلتك .
«وجلالة قدرك» عند الله تعالى ؟ !
وعلى أساس هذا الظن الخاطئ الذي «لا يغني من الحق شيئاً» و«إن بعض الظن إثم» ، إستولت عليك نشوةً الإنتصار .
«فشمخت بانفك» يقال : شمخ بأنفه : أي رفع أنفه عزاً وتكبراً .
«ونظرت في عطفك» العطف ـ بكسر العين ـ : جانب البدن ، والإنسان المعجب بنفسه ينظر إلى جسمه وإلى ملابسه بنوع من الأنانية وحب الذات والغرور .
«تضرب أصدريك فرحاً» الأسدران : عرقان تحت الصدغين ، وضرب أصدريه : أي : حرك رأسه ـ بكيفية خاصة ـ تدل على شدة الفرح والإعجاب بالنفس . . إزاء ما حققه من إنتصار موهوم .
«وتنفض مذرويك مرحاً»
يقال : جاء فلان ينفض مذرويه . إذا جاء باغياً يهدد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 414

الآخرين .
هذا ما ذكره اللغويون ، ولكن الظاهر أن معنى «ينفض مذرويه» أي يهز إليتيه ، وهو نوع من حركات الرقص عند المطربين حينما تأخذهم حالة الطرب والخفة .
«حين رأيت الدنيا لك مستوسقة»
أي : مجتمعة .
«والأمور لديك متسقة»
أي : منتظمة ، بمعنى : أنك رأيت الأمور على ما تحب وترضى ، وعلى ما يرام بالنسبة إليك ، فكل شيء يجري كما تريد .
«وحين صفى لك ملكنا ، وخلص لك سلطاننا»
أي : ومن أسباب فرحك ، وقيامك بالحركات الطائشة التي تدل على شدة سرورك ، أنك رأيت من نفسك ملكاً وسلطاناً قد نجح في خطته التي رسمها لإبادة منافسه ، وأسر نسائه .
لكن . . إعلم أيها المغرور : أن هذه القدرة والمكانة التي اغتصبتها ـ وهي الخلافة ـ هي لنا أساساً ، لأن يزيد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 415

كان يحكم بإسم خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ومن الواضح أن خلافة رسول الله لها موارد خاصة ، وأن خلفاء رسول الله أفراد معينون ، منصوص عليهم بالخلافة ، وهم : الإمام علي بن أبي طالب ، والأئمة الأحد عشر من ولده (عليهم السلام) ، ولكن الآن . . صارت تلك القدرة والسلطة بيد يزيد ! !
بعد هذه المقدمة والتمهيد قالت :
«فمهلاً مهلاً»
يقال ـ للمسرع في مشيه ، أو المتفرد برأيه ـ : مهلاً . أو : على مهلك ، أي : أمهل ، ولا تسرع ، أي : ليس الأمر كما تعتقد أو كما تظن ، أو : ليس هذا الإسراع في العمل صحيحاً منك فلا تعجل حتى نبين لك حقيقةً الأمر .
«لا تطش جهلاً» طاش فلان : أخذه الغرور وفقد إتزانه ، فصار غير ناضج في تصرفاته .
أي : يا يزيد ! لا تطش . . بسبب جهلك بالحقائق ، وخلطك بين المفاهيم والقيم ، والإغترار بالظواهر .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 416


«أنسيت قول الله (عزوجل) : «ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم ، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين» ؟ ! ! (1)
نملي : أي نطيل لهم المدة والمجال ، أو نطيل أعمارهم ونجعل الساحة مفتوحة أمامهم «خير لأنفسهم» ، بل : إنما نطيل أعمارهم ومدة سلطتهم وحكومتهم . . لتكون عاقبة أمرهم هي إزدياد الإثم والمعاصي في ملف أعمالهم ، ولهم عذاب مهين ، أي : يجزيهم ـ في جهنم ، تعذيباً ممزوجاً مع الإهانة والتحقير .
ثم خاطبته وذكرته بأصله السافل ، ونسبه المخزي ، فقالت :
«أمن العدل يا بن الطلقاء»
وهذه الكلمة إشارة إلى ما حدث يوم فتح مكة ، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة ـ وصارت تحت سلطته ـ كان بإمكانه أن يقتلهم لما صدرت منهم من مواقف عدائية وحروب طاحنة ومتتالية ضد النبي الكريم ـ بالذات ـ وضد المسلمين بصورة عامة ، لكنه رغم كل

(1) سورة آل عمران ، الآية 178 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 417

ذلك . . إلتفت إليهم وقال لهم :
«يا معاشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم ؟»
قالوا : «خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم»
فقال لهم : «إذهبوا فأنتم الطلقاء» (1)
وكان فيهم : معاوية وأبو سفيان .
ويزيد هو ابن معاوية ، وحفيد أبي سفيان ، ويطلق عليه (ابن الطلقاء) إذ قد يستعمل ضمير الجمع في مورد التثنية .
أما معنى كلمة «يابن الطلقاء» فالطلقاء ـ جمع طليق ـ : وهو الأسير الذي أطلق عنه إساره ، وخلي سبيله .
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة ، فصارت البلدة ومن فيها تحت سلطته وقدرته ، وكان بإمكانه أن ينتقم منهم أشد إنتقام ، وخاصة من أبي سفيان الذي كان يؤجج نار الفتن ، ويثير الناس ضد رسول الله ، ويقود الجيوش والعساكر لمحاربة النبي والمسلمين ، كما حدث ذلك يوم بدر وأحد ، وحنين

(1) السيرة النبوية ، لإبن هشام ، طبع لبنان عام 1975 م ، ج 4 ص 41 ، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 21 ص 106 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 418

والأحزاب ، وهكذا إبنه معاوية «الذي كان على دين أبيه» ، ولكن الرسول الكريم أطلقهما وخلى سبيلهما في من أطلقهم .
قال الله تعالى : «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما مناً بعد وإما فداءً ، حتى تضع الحرب أوزارها» (1)
«فإما منا بعد» أي : إما أن تمنوا عليهم مناً بعد أن تأسروهم ، أي : تحسنوا إليهم فتطلبوا منهم دفع شيء من المال إزاء إطلاقكم سراحهم .
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخيراً بين ضرب أعناقهم وبين المن والفداء ، فاختار الرسول الكريم المن وأطلقهم بلا فداء ولا عوض .
والظاهر أن السيدة زينب تقصد من كلمة «يابن الطلقاء» واحداً من معنيين :
المعنى الأول : أن تذكر يزيد بأنه ابن الطليقين الذين أطلقهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل مكة ، وكأنهم عبيد ، فتكون الجملة تذكيراً له بسوء

(1) سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الآية 4 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 419

سوابقه المخزية وملف والده وجده !
والمعنى الثاني : أن تذكر يزيد بالإحسان الذي بذله رسول الله لأسلاف يزيد حيث أطلقهم ، فقالت : «أمن العدل» أي : هل هذا جزاء إحسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أسلافك . . أن تتعامل مع حفيدات الرسول هذا التعامل السيئ ؟ !
ولعل السيدة زينب قصدت المعنيين معاً .
ومن الواضح أنها لا تقصد ـ من كلامها هذا ـ السؤال والإستفهام ، بل تقصد توبيخ يزيد على سلوكه القبيح ، ونفسيته المنحطة ، وتنكر عليه تعامله السيئ ، وتعلن له أنه بعيد ـ كل البعد ـ عن أوليات الفطرة البشرية ، وهي جزاء الإحسان بالإحسان ! !
«تحذيرك حرائرك وإماءك»
يقال : خدر البنت : الزمها الخدر ، أي : أقامها وراء الستر .
الحرائر ـ جمع حرة ـ : نقيض الأمة . (1)

(1) لسان العرب لابن منظور .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 420


«وسوقك بنات رسول الله سبايا»
السوق : يقال : ساق الماشية يسوقها سوقاً : حثها على السير من خلف (1) وذلك يعني : الحث على السير من الوراء مع عدم الإحترام .
اقول : لا يرجى من يزيد العدل والعدالة ، ولكنه لما ادعى الخلافة لنفسه ، كان المفروض والمتوقع منه أن يكون عادلاً .
ولهذا خاطبته السيدة زينب بقولها : أمن العدل أن تجعل جواريك والنساء الحرائر ـ الساكنات في قصرك ـ وراء الخدر ، وتسوق بنات الرسالة وعقائل النبوة ، ومخدرات الوحي . . سبايا ؟
«قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن»
فبعد أن كن مخدرات مستورات ، لا يرى أحد لهن ظلاً ، وإذا بهن يرين أنفسهن أمام أنظار الرجال الأجانب ، وبعد أن كن محجبات . . وإذا بالأعداء قد سلبوهن ما كن يسترن به وجوههن . . من البراقع والمقانع !

(1) أقرب الموارد للشرتوني .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 421


«تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد»
أي : يسوقهن الأعداء من كربلاء إلى الكوفة ، ومنها إلى الشام ، ويمرون بهن على البلاد التي في طريق الشام .
وحينما كان يمر موكبهن على البلاد والقرى والأرياف ، كان الناس ـ على اختلاف طبقاتهم ـ يخرجون للتفرج عليهن ، وأحياناً كانوا يصعدون على سطوح دورهم للتفرج عليهن ، ولهذا قالت السيدة :
«ويستشرفهن أهل المناقل ، ويتبرزن لأهل المناهل»
المناقل ـ جمع منقل ـ وهو الطريق إلى الجبل . والمناهل ـ جمع منهل ـ : وهو الماء الذي ينزل عنده والمقصود : المنازل التي في طريق المسافرين ، للتزود بالماء أو الإستراحة .
«ويتصفح وجوههن القريب والبعيد»
يتصفح : أي يتأمل وجوههن لينظر إلى ملامحهن ! !

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 422


«والشريف والوضيع ، والدنيء والرفيع»
والحال أنه «ليس معهن من رجالهن ولي ، ولا من حماتهن حمي» ، عائلة محترمة ، وليس معهن من رجالهن أحد يشرف على شؤونهن ويحرسهن ويحميهن من الأخطار والأشرار ، لأن رجالهن قد قتلوا بأجمعهم ، ولم يبق منهم سوى الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) .
كل هذه الجرائم التي صدرت منك ، وبأمرك كانت «عتواً منك على الله»
العتو : هو التكبر .
«وجحوداً لرسول الله»
الجحود : هو الإنكار مع العلم بأن هذا هو الواقع والحق ، قال تعالى «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» . (1)

(1) سورة النمل ، الآية 14 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 423


«ودفعاً لما جاء به من عند الله»
الدفع : الإزالة والإبادة والرد .
أي : قمت بهذه الأعمال لأجل القضاء على الإسلام ، وعلى ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عند الله تعالى .
«ولا غرو منك ، ولا عجب من فعلك»
لا غرو : لا عجب .
إن السيدة زينب (عليها السلام) تعتبر تلك الجرائم ـ التي صدرت من يزيد ـ أموراً طبيعية وظواهر غير عجيبة ، فـ«كل إناء بالذي فيه ينضح» .
وإن الآثار السلبية لعامل ـ بل عوامل ـ الوراثة ، والإستمرار على شرب الخمر والفحشاء والفجور والعيش في أحضان العاهرات ، كلها أسباب كان لها دورها في إيجاد هذه النتائج والعواقب السيئة للطاغية يزيد .
«وأنى ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الشهداء ، ونبت لحمه بدماء السعداء؟»
أي : كيف ومتى يتوقع الخوف من الله تعالى . . من ابن من رمت من فمها أكباد الشهداء الأبرياء ؟

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 424


هذه الكلمة إشارة إلى ما حدث في واقعة أحد ، وإلى مقتل سيدنا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وعم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما جاءت هند ـ أم معاوية ـ وجدة يزيد ـ وشقت بطن سيدنا حمزة ، واخرجت كبده واخذت قطعة من كبده ، ووضعتها في فمها وعضتها بأسنانها وحاولت أن تأكلها ، بسبب الحقد المتأجج في صدرها ، ولكن الله تعالى أبى أن تدخل قطعة من كبد سيدنا حمزة في جوف تلك المرأة الساقطة ، فانقلبت تلك القطعة صلبةً كالحجر ، فلم تؤثر أسنانها في الكبد ، فلفظتها ، ورمتها من فمها ، فاكتسبت بذلك لقب (آكلة الأكباد) ! !
ويزيد : هو حفيد هكذا امرأة حقودة . وحقده على الدين وارتكابه للجرائم الكبيرة ليس بشيء جديد ! !
«ونصب الحرب لسيد الأنبياء»
لقد ذكرنا ـ في الفصل الرابع من هذا الكتاب ـ أن أبا سفيان هو الذي كان يجهز الجيوش في مكة ، ويخرج لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتال المسلمين ، حينما كان النبي الكريم في المدينة المنورة .

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 425


«وجمع الأحزاب»
إن أبا سفيان هو الذي جمع العشائر والقبائل الكثيرة . . من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم ، وأمر بنفير عام وشامل لمختلف الأعمار والديانات ، وخرج بجيش جرار كالسيل الزاحف ، للقضاء على الرسول العظيم ومن معه من المسلمين ، في واقعة الأحزاب التي عرفت ـ فيما بعد ـ بـ«غزوة الخندق» .
«وشهر الحراب ، وهز السيوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»
الحراب ـ جمع حربة ـ : وهي آلة قصيرة من الحديد ، محددة الرأس ، تستعمل في الحرب . (1)
«وهز السيوف» كناية عن الخروج للحرب وإصدار الأوامر للهجوم والغارة ، وبما أن أبا سفيان كان هو السبب في هذه الحروب فقد جاءت كلمة «السيوف» بصيغة الجمع .
«أشد العرب لله جحوداً ، وأنكرهم له رسولاً ، وأظهرهم له عدواناً ، وأعتاهم على الرب كفراً وطغياناً» . (2)

(1) المعجم الوسيط .
(2) أعتاهم : العتو : الإستكبار والتجبر وتجاوز الحد . كما في «العين» للخليل ، والمعجم الوسيط .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 426


من الواضح أن العرب في مكة وغيرها . . كانوا على درجات متفاوتة في نسبة إنكارهم لوجود الله تعالى ، أو إتخاذهم الأصنام آلهة من دونه سبحانه .
فهناك من هو جاحد ومنكر مائة بالمائة ، وهناك من هو جاحد 70 % ، وهكذا .
ومنهم : من هو عازم على الإستمرار في الكفر رغم علمه بالتوحيد ، ومنهم : من كان يعيش حالة الشك في الإستمرار في الكفر أو الشرك .
ومنهم : من كان يحيك المؤامرات ضد النبي الكريم بصورة سرية ، ومنهم : من كان يخرج لحرب رسول الله . . بشكل مكشوف .
ومنهم : من كان منكراً لله تعالى . . ولكنه يتخذ موقف المحايد تجاه النبي الكريم ، ولا يبذل أي نشاط ضد الإسلام والمسلمين .
ولكن الكافر الذي ضرب الرقم القياسي في إنكار الله تعالى ، وإنكار رسالة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) : هو أبو سفيان .
هذه كلها صفات ومواصفات أبي سفيان ، وقد ورثها منه حفيده يزيد ، حيث كان يشترك مع جده في جميع هذه الأوصاف والأحقاد ، وبنفـس النسبة والدرجة ، لكن مـع

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 427

تبدل الظروف !
فلقد وقف أبو سفيان في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاربه وأظهر أحقاده .
وجاء ـ من بعده ـ إبنه معاوية ، فوقف في وجه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحاربه بكل ما لديه من طاقة وقوة ، وعلى مختلف الأصعدة والمجالات ، الإعلامية والعسكرية وغيرها .
إن الوثائق التاريخية تقول : «مات معاوية وعلى صدره الصنم» ، فكم تحمل هذه الكلمة من معان ودلالات ، «والحر تكفيه الإشارة» ! !
وقد جاء في التاريخ ـ أيضاً ـ : «مات معاوية على غير ملة الإسلام» . (1)
ثم جاء يزيد ـ من بعد معاوية ـ فكان كالبركان يتفجر حقداً على آل رسول الله وأبناء الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
فماذا تراه يفعل ؟ !

(1) جاء هذا النص ـ بالحرف الواحد ـ في كتاب «سير أعلام النبلاء» للذهبي ، ج 10 ، ص 533 وكتاب «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي ، ج 14 ، ص 181 وكتاب «خلاصة عبقات الأنوار» ج 7 ، ص 305 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 428


وماذا تتوقع منه ؟ !
وخاصة وأنه يرى تحت تصرفه جيشاً كبيراً ينفذ أوامره بكل سرعة ، ويطيعه طاعةً عمياء ، دون رعاية الجوانب الإنسانية أو العاطفية أو الدينية . وكان له مستشار مسيحي حاقد إسمه : «سرجون» يملي عليه ما يتبادر إلى ذهنه في كيفية القضاء على الإسلام ، ويرسم له الخطط للوصول إلى هذا الهدف !
«ألا : إنها نتيجة خلال الكفر»
ألا : حرف لجلب الإنتباه ، أو للتأكيد على ما يخبر عنه . (1)
النتيجة ـ هنا ـ العاقبة .
خلال ـ جمع خلة ـ وهي الخصلة .
أي : إن يزيد حينما أمر بقتل ريحانة رسول الله الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن لمجرد أنه كان يرى منه منافساً له في السلطة فقضى عليه ، بل إن ذلك كان من منطلق الكفر والإلحاد ، ولذلك . . فهو لم يكتف بقتل الإمام ، بل أمر بسبي نسائه وأطفاله ، وقام بغير ذلك من الجرائم والجنايات .

(1) كما يستفاد من كتاب «مغني اللبيب» لإبن هشام .

السابق السابق الفهرس التالي التالي