زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 429


وهذه الأمور : هي نتيجة خبث نفسيته الطائشة وأثر صفاته الكفرية الموروثة من أبيه وجده !
«وضب يجرجر في الصدر لقتلى يوم بدر»
والضب ـ بكسر الضاد ـ : الغيظ الكامن والحقد الخفي .
جرجر البعير : إذا ردد صوته في حنجرته .
أي : وحقد يتأجج في الصدر ، ويطالب يزيد للأخذ بثارات المقتولين في غزوة بدر ، وهم أقطاب المشركين الذين كانوا قد خرجوا من مكة لمحاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتال المسلمين .
وهم المشركون الذين تمنى يزيد حضورهم بقوله : «ليت أشياخي ببدر شهدوا» وهم : عتبة بن ربيعة ، وشيبة ، والوليد بن شيبة .
أما عتبة فقتله عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وأما شيبة وابنه الوليد فقد قتلهما الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
إن جميع ما قام به الطاغية يزيد ، من قتله الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته ، وسبي الطاهرات من نسائه وحرمه ، وإهانته لرأس الإمام الحسين (عليه السلام) تعتبر

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 430

نتيجة طبيعية للكفر المكشوف والحقد الدفين في قلب يزيد ، فلم يكن يوجد في قلبه مقدار ذرة من الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة ، بل إنه إتخذ منصب خلافة الرسول الكريم ، وسيلة لسلطته على الناس ، وانهماكه في الشهوات ، ومحاربته للدين وعظماء الدين .
فقد كان يتجاهر بشرب الخمر ، ولعب القمار وغيرهما من المنكرات التي حرمها الله سبحانه وبذلك أعطى الجرأة لجميع الناس كي يجلسوا في الأماكن العامة ، ويرتكبوا ما شاؤا من المعاصي والذنوب ، من دون أي خوف أو حذر ، أو حياء أو خجل ، أو إحترام لحدود الله تعالى ، أو رعاية للخطوط الحمراء التي وضعها الله سبحانه حول بعض الأعمال المحرمة .
لقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) أنه قال : «. . . من نظر إلى الشطرنج فليلعن يزيد وآل يزيد . . .» (1)
«فلا يستبطئ في بغضنا ـ أهل البيت ـ من كان نظره إلينا شنفاً وإحناً وضغناً»
وفي نسخة : «وكيف يستطبئ في بغضنا»

(1) كتاب «عيون أخبار الرضا عليه السلام» للشيخ الصدوق .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 431


أي : كيف لا يسرع إلى بغض أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كانت نظرته وعقيدته فيهم عقيدة الكراهة والحقد .
والشنف والشنآن والإحن والأضغان : معانيها متقاربة ، والمقصود منها : شدة الحقد والبغض .
«يظهر كفره برسوله ، ويفصح ذلك بلسانه» :
إشارة إلى الأبيات التي أنشدها يزيد :
«لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

فقد أظهر كفره برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتجاهر بذلك ، واعتبر النبوة والرسالة والوحي والقرآن كلها العاب ، وأنكرها جميعاً .
يفصح : أي يظهر ما في قلبه على لسانه .
«وهو يقول ـ فرحاً بقتل ولده ، وسبي ذريته ، غير متحوب ولا مستعظم :
لأهلـوا واستهلوا فرحاً ولقالوا : يا يزيد لا تشل»

غير متحوب : أي غير متأثم (1) أو غير متحرج من

(1) القاموس المحيط ، للفيروز آبادي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 432

القبيح . والحوبة : من يأثم الإنسان في عقوقه . . كالوالدين . (1)
والظاهر : أن السيدة زينب (عليها السلام) تقصد أن يزيد كان يعيش حالة عدم الإكتراث أو المبالاة بما قام به من جرائم ، وبما يصرح به من كلمات كفرية ، وبما يشعر به من الفرح والسرور لقتله ابن رسول الله ، وسبي ذريته الطاهرة . إذ من الواضح أن الذي لا يؤمن بيوم الجزاء لا يفكر في مضاعفات جرائمه ، ولا يشعر بالحرج أو الخوف من أعماله التي سوف تجر إليه الويل ! !
«منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ـ وكان مقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ ينكتها بمخصرته»
ثنايا ـ جمع الثنية ـ : وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم ، ثنتان من فوق وثنتان من تحت . (2)
مقبل : موضع التقبيل .
ينكت : يضرب .
مخصرة : العصا ، وقيل : هي العصا التي في أسفلها

(1) المعجم الوسيط .
(2) كتاب «لسان العرب» ، و«المعجم الوسيط» .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 433

حديدة محدة ، كحديدة رأس السهم .
أقول : إن القلم ليعجز عن التعبير عن شرح هذه المقطوعة من الخطبة ! ! وذلك لهول المصيبة ، فكيف تجرأ الطاغية يزيد على أن يضرب تلك الثنايا المقدسة ، التي كانت موضعاً لتقبيل رسول الله . . مئات المرات . . وفعل يزيد ذلك بمرأى من عائلة الإمام الحسين ونسائه وبناته ؟ !
ولم يكتف يزيد بالضرب مرةً واحدة أو مرتين ، بل مرات متعددة ، وهو في ذلك الحال في أوج الفرح والإنتعاش ! !
ولم يكن الضرب على الأسنان الأمامية فقط ، بل كان يضرب على شفتيه ووجهه الشريف ، ويفرق بين شفتيه بعصاه ليضرب على أسنانه !
إنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ! !
«قد التمع السرور بوجهه»
قد يكون الفرح شديداً فيتدفق الدم إلى الوجه فيحمر ، وبذلك تظهر آثار الفرح على ملامحه ، فيقال : إلتمع السرور بوجهه .
هكذا كانت فرحة يزيد حين ضربه تلك الثنايا

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 434

الشريفة . (1)
«لعمري لقد نكات القرحة»
نكأ القرحة : قشرها بعد ما كادت تبرأ . (2)
لعل المعنى : أن ضرب يزيد تلك الثنايا صار سبباً لهيجان الأحزان من جديد ، وفجر دموع العائلة الكريمة ، فاستولى عليهن البكاء والنحيب ، وخاصة أن بنتين من بنات الإمام الحسين (عليه السلام) جعلتا تتطاولان (أي : تقفان على رؤوس أصابع رجليهما) لتنظرا إلى الرأس الشريف ، من وراء كراسي الجالسين ، فلما نظرتا إلى يزيد وهو يضرب الرأس الشريف ، ضجتا بالبكاء والعويل ، ولاذتا بعمتهما السيدة زينب ، وقالتا : يا عمتاه ! إن يزيد

(1) كتاب «الكامل» لإبن الأثر ، ج 3 ، ص 300 ، وكتاب «تاريخ دمشق» لإبن عساكر ، في ترجمة أبي برزة الأسلمي ، وكتاب «أنساب الأشراف» للبلاذري ، ج 3 ، ص 214 ، وكتاب «مقتل الحسين» للخوارزمي ، ج 2 ص 55 ـ 57 ، وكتاب «تاريخ اليعقوبي» ، ج 2 ، ص 232 من الطبعة الأولى ، وكتاب «الجوهرة» للبري ، طبع الرياض ، ج 2 ، ص 219 ، وكتاب «الرد على المتعصب العنيد» لإبن الجوزي ، طبع لبنان ، ص 45 ، وكتاب «تاريخ الإسلام» للذهبي ، ج2 ، ص 351 .
(2) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 435

يَضرب ثنايا أبينا ، فقولي له : لا يفعل ذلك ؟!(1)
فقامت السيدة زينب (عليها السلام) ولطمت على وجهها ونادت : «واحسيناه ! يابن مكّة ومِنى ! يا يزيد : إرفع عودك عن ثنايا أبي عبد الله» .
«واستأصَلتَ الشأفة»
يُقال : إستَأصل شأفته : أي أزاله من أصله .(2)
ولعلّ المعنى : يا يزيد : لقد قطعت شجرة النبوة من جذورها بقتلك الإمام الحسين (عليه السلام) فهو آخر من كان باقياً من أصحاب الكساء ، الذين نزلت فيهم «آية التطهير» وعبّر الله تعالى عنهم ـ في القرآن الكريم ـ بكلمة «اهل البيت» ، فكلّ من كان يُقتل من هؤلاء الخمسة الطيّبة .. كانَ في الباقين ـ منهم ـ سلوة لآل رسول الله ، وبقتل الإمام الحسين (عليه السلام) إنقطعت شجرة أهل البيت من جذورها ، وكان ذلك بأمر يزيد وتنفيذ إبن زياد .
«بإراقتك دم سيد شباب أهل الجنّة ، وابن يعسوب

(1) كتاب «المعجم الكبير» للطبراني ، طبع بغداد ، ج 3 ، ص 109 .
(2) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 436

الدين ، وشمس آل عبد المطّلب»
يعسوب : النحلة التي يُعبّر عنها بـ «المَلكة» في مملكة النحل(1) ، وقد لقّب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) بلقب «يعسوب الدين» وشبّه شيعته بالنحل الذي يعيش في ظلّ تلك المملكة ويتّبع ذلك اليعسوب ، واشتُهر بين المسلمين ـ في ذلك اليوم ـ هذا اللقب للإمام علي (عليه السلام) ولذلك قال الشاعر :
ولايتي لأمير النحل تكفيني عند الممات وتغسيلي وتكفيني

(1) قال الخليل في كتاب «العين» اليعسوب : أمير النحل وفحلها ، ويُقال : هي : عظيمة مُطاعة فيها ، إذا أقبلت أقبلت ، وإذا أدبرت أدبرت . وقال الزبيدي ـ في «تاج العروس» ـ : اليعسوب : أمير النحل ، واستُعمل بعد ذلك في الرئيس الكبير والسيد والمُقدّم ، ... وفي حديث علي (عليه السلام) : «أنا يعسوب المؤمنين» أي : يلوذ بي المؤمنون كما تلوذ النحل بيعسوبها» . وقال إبن منظور ـ في «لسان العرب» ـ : «اليعسوب : أمير النحل ، ويُقال للسيد : يعسوب قومه ، وفي حديث علي [عليه السلام] : أنا يعسوب المؤمنين ، يلوذ بي المؤمنون كما تلوذ النحل بيعسوبها» .

المحقق

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 437

وطينتي عُجِنت من قَبل تكويني بحبّ حيدر ، كيف النار تكويني ؟!

ثمّ عبّرت السيدة زينب عن الإمام الحسين (عليه السلام) بـ «شمس آل عبد المطّلب» ، ويا لهذا التعبير من بلاغة راقية ، وتشبيه جميل ، فإنّ الإمام الحسين كان هو الوجه المشرق الوضّاء والواجهة المُتلألأة لآل عبد المطلب بن هاشم ، وسبب الفخر والإعتزاز لهم ، وهم كانوا المجموعة أو العشيرة الطيّبة لقبيلة قريش ، وقريش كانت أشرف قبائل العرب .
«وهَتَفتَ بأشياخك»
حينما قلتَ : «ليت أشياخي ببدر شهدوا» فتمنّيت حضورهم ليروا إنتصارك الموهوم ، وأخذك لثارهم من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مع أنّ أشياخك هم الذين خرجوا ـ من مكة إلى المدينة ـ لقتال رسول الله ، وهم الذين بدؤا الحرب مع المسلمين ، فكانوا بمنزلة الغُدّة السرطانيّة الخبيثة في جسم البشريّة ، وكان يلزم قطعها كي لا ينتشر المرض والفساد في بقيّة أجزاء الجسم .
«وتقرّبت بدمه إلى الكفرة من أسلافك»
أي : قُمتَ بإراقة دم الإمام الحسين (عليه السلام) تقرّباً إلى أسلافك ، وقلتَ :

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 438

قد قَتَلنا القَرم مِن ساداتهم وأقمنا مثل بدرٍ فاعتدَل

«ثمّ صرختَ بندائك»
أي : بندائك لأشياخك . ومن هذه الجملة يُستفاد أنّ يزيد كان رافعاً صوته حين قراءته لتلك الأبيات الكُفريّة ، والشعارات الإلحادية .
«ولعمري لقد ناديتهم لو شهدوك»
قال ابنُ مالك ـ ما معناه ـ : «لو : حرفٌ يقتضي في الماضي إمتناع ما يليه ، واستلزامه لتاليه» .(1)
وبناءً على هذا .. يكون معنى كلام السيدة زينب (عليها السلام) : يا يزيد ! لقد تمنّيتَ أسلافك لو كانوا حاضرين كي يشهدوك ويشهدوا أخذك لثارهم ، ولكنّ هذه الأمنية لا تتحقّق لك ، فأسلافك موتى معذّبون في نار جهنّم ، ومن المستحيل أن يعودوا الآن ويشهدوا ما قُمتَ به من الجرائم ، وليقولوا لك : سَلِمَت يداك !!
«ووشيكاً تشهدهم ولن يشهدوك»

(1) حكى عنه ذلك ابن هشام في كتاب «مغني اللبيب» ص 342 .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 439

وشيكاً : أي : سريعاً أو قريباً(1) ويُقال : أمرٌ وشيك : أي : سريع(2)
المعنى : يا يزيد : سوف تموت قريباً عاجلاً ، لأنّ مُلكك يزول سريعاً ، ولا تطول أيام حياتك ، وتنتقل إلى عالم الآخرة ، إلى جهنّم فترى أسلافك هناك في الأغلال والقيود وفي صالات التعذيب ، وممرّات السجون ، ولكنّهم لا يرونك ، أي : لا تجتمع معهم في مكان واحد ، لأنّك ستكون في درجة أسفل منهم في طبقات نار جهنّم ، لأنّ جرائمك الموبقة تستوجب العذاب الأشدّ ، لكنّك حين نزولك إلى ذلك المكان الأسفل ، سوف يكون طريقك عليهم ، فتراهم ولكنّهم لا يرونك ، لأنّ شدة عذابهم يُشغلهم عن الإلتفات إلى ما حولهم ومَن حولهم مِن الجُناة !
وقد رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «إنّ قاتل الحسين بن علي .. في تابوت من نار ، عليه نصف عذاب أهل الدنيا ، وقد شُدّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، مُنكّس في النار ، حتى يقع في قعر جهنّم ، وله ريحٌ يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدّة نتنه ، وهو فيها خالد ذائق

(1) المعجم الوسيط .
(2) كتاب «العين» للخيل بن أحمد .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 440

العذاب الأليم ، مع جميع من شايع في قتله ، كلّما نضجت جلودهم بدّل الله (عز وجل) عليهم الجلود حتى يذوقوا العذاب الأليم ، لا يُفَتّر عنهم ساعة ، ويُسقَون من حميم جهنّم ، فالويل لهم من عذاب الله تعالى في النار» .(1)
«ولتودّ يمينُك ـ كما زعمت ـ شُلّت بك عن مِرفَقها وجُذّت»
شُلّت : الشلل : تعطّل أو تيبّسٌ في حركة العضو أو وظيفته ، يُقال ـ في الدعاء ـ : شُلّت يمينك .(2)
جُذّت : قُطعت أو كُسٍِرَت(3)
المعنى : يا يزيد ! إنّك في الدنيا زَعمت أن أسلافك لو كانوا حاضرين .. لقالوا لك : «يا يزيد لا تُشَل» أمّا في يوم القيامة ، حين تُعاقب تلك العقوبة الشديدة ، سوف تتمنّى أنّ يمينك كانت مشلولة أو مقطوعة حتى لا تستطيع أن تَضرب بعصاك ثنايا الإمام الحسين (عليه السلام) .

(1) كتاب «عيون أخبار الرضا عليه السلام» ج 2 ، ص 47 ، حديث 178 .
(2) المعجم الوسيط .
(3) نفس المصدر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 441

وهذا إخبارٌ من السيدة زينب (عليها السلام) بما يدور في ذهن يزيد حين يُلاقي جزاء أعماله الإجراميّة .
وتتمنّى ـ أيضاً ـ حينما تُلاقي أشدّ درجات العقوبة والتعذيب :
«وأحبَبتَ أنّ أُمّك لم تحملك ، وإيّاك لم تَلِد حين تصير إلى سخط الله ومُخاصمك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم»
أحبَبتَ ـ هنا ـ : بمعنى تَمنّيتَ من أعماق قلبك أن أمّك لم تكن تحمل بك ، ولم تلدك حتى لا تكون مخلوقاً وموجوداً من أول يوم ، ولم تَكتَسِب هذه السيئة الكبيرة التي دفعت بك إلى أسفل السافلين في التابوت الموجود في اسفل طبقات جهنّم ، حيث يستقرّ فيه أفراد معيّنون من الجُناة الذين جرّوا الوَيلات على البشريّة جمعاء ، وعلى كلّ الأجيال والبلاد والشعوب ، وأسّسوا الأُسس ومهّدوا الطرق لمن يأتي من بعدهم من الطغاة والخَوَنة ، في أن يقوموا بكلّ جريمة ، وبكل جُرأة !
إنّ الأحاديث الشريفة تقول : إنّ أهل النار ـ جميعاً ـ يستغيثون بالموكّلين بهم من الملائكة .. أن لا يفتحوا باب ذلك الصندوق ، لأنّ درجة الحرارة فيها أشدّ ـ بكثير ـ مِن

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 442

حرارة جهنّم نفسها !!(1)
وتقول الأحاديث الشريفة : إنّه كلّما خَفّت ونزلت درجة حرارة نار جهنّم .. تَفتَح الملائكة باب ذلك الصندوق لمدّة قليلة فتزداد حرارة جهنّم كلّها بالحرارة الشديدة التي أُضيفت إليها من ذلك التابوت ، كالقِدر الكبير للطعام الذي توضع فيه البقول ، وتوضع على نار خفيفة ، وفُجأةً يرفعون درجة تلك النار إلى أقصى نسبة ممكنة ، فيحدث إضطراب عجيب في ذلك القدر وما فيه !
ويُعبّر عن ذلك الصندوق بـ «التابوت» وبالمعذّبين فيه بـ «أهل التابوت» .
وقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «... إذا كان يوم القيامة أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه الحسين (عليه السلام) ويده على رأسه يقطر دماً ، فيقول : «يا ربّ سل أمّتي فيمَ (أي : لمـاذا) قتلوا ولـدي !»(2)

(1) كتاب (بحار الأنوار) ج 8 ، ص 296 ، وهو ينقل ذلك عن كتاب «تفسير علي بن إبراهيم» ، وقد نَقَلنا مضمون الحديث .
(2) كتاب «أمالي الطوسي» ص 161 ، حديث 268 ، ونقله المجلسي في «بحار الأنوار» ج 45 ، ص 313 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 443

ثمّ بدأت السيدة زينب (عليها السلام) بالدعاء على يزيد ومَن شاركه في ظلم آل رسول الله الطيّبين الطاهرين ، دَعَت عليهم مِن ذلك القلب المُلتَهِب بالمصائب المُتتالية ، فقالت :
«اللهم ! خُذ بحقّنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلُل غضبك على من سفك دماءنا ، ونقضَ ذمارنا ، وقَتلَ حُماتنا ، وهتك عنّا سدولنا»
نَقَضَ : لم يُراع الحرمة والعهد .
الذمار : ما ينبغي حفظه والدفاع عنه ، كالأهل والعِرض .(1)
وقيل : ذمار الرجل : كل شيء يلزمه الدفع عنه .(2)
سدول ـ جمع سدل ـ السِتر .(3)
ثم أرادت السيدة زينب (عليها السلام) أن تُبيّن ليزيد حقيقة واقعيّة : وهي أنّ جميع ما قُمتَ به ضدّ آل رسول الله ، مِن : قتل وسَبي ، وحمل الرؤوس من بلد إلى بلد ، وإهانة

(1) المعجم الوسيط .
(2) كتاب «العين» للخيل بن أحمد .
(3) نفس المصدر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 444

الرأس الشريف ، والإفصاح عن الكلمات الكُفريّة الكامنة في الصدر ، وغيرها .. لا تعود عليك بالفائدة والنَفع ، بل تعود عليك بالخسران والعقوبة ، حتى لو جعَلَتك تفرح لمدّة قصيرة ، لكنّ هذا الفرح سوف لا يستمرّ ، بل يتعقّبه سلسلة متواصلة من أنواع الخسارة والعذاب الجسدي والنفسي ، فقالت (عليها السلام) :
«وفعلت فِعلتك التي فعلت ، وما فرَيت إلا جلدك ، وما جَزَرت إلا لحمك»
فَريتَ : شققتَ وفتَتَّ(1) وقَطعتَ(2).
جزَرتَ : قطعتَ(3) ويُستعمل غالباً في نحر البعير وتقطيع لحمه .
«وسترد على رسول الله بما تحمّلتَ من دم ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته ، وسفكت من دماء عترته ولُحمَته» .

(1) المعجم الوسيط .
(2) كتاب «العَين» للخليل .
(3) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 445

اللُحمة : القرابة ، يُقال : بينهم لُحمة نسب .(1)
المعنى : سترِد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بعد موتكَ ـ وأنت تحمل على ظهرك من الجرائم ما لا تحملها الجبال الرواسي ، فيُخاصمك على كل واحدة واحدة منها .. أشدّ أنواع الخصومة ، من دون أن يخفى عليه شيء !
«حيثُ يُجمع به شملهم ، ويُلمّ به شعثهم ، وينتقم من ظالمهم ، ويأخذ لهم بحقّهم من أعدائهم» .
الشعث : ما تَفرّقَ من الأمور أو الأفراد ، يُقال ـ في الدعاء ـ : «لَمّ الله شعَثه» .(2)
المعنى : سوف يجمع الله تعالى آل رسول الله عند النبي الكريم في جبهة واحدة ـ وذلك في يوم القيامة ـ فيَشكو كلّ واحد من آل الرسول إلى النبي الكريم كلّ ما لقيَ من الناس مِن عداءٍ وظلم ، فينتقم الله من أعدائهم أشدّ الإنتقام . ومادام الأمر كذلك ، فاسمع يا يزيد :
«فلا يستفزّنّك الفرح بقتلهم»

(1) المعجم الوسيط .
(2) نفس المصدر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 446

لا يستفزّنك : أي : لا يُخرجك الفرح عن حالتك الطبيعيّة ، يُقال : إستفزّه : أي استخفّه ، أو ختَله حتى ألقاه في مهلكة .(1)
فلا خير في فرحة قصيرة يتعقّبها حزن دائم ، وعذاب أليم ، وخلود في النار .
ثمّ أدمجت السيدة زينب (عليها السلام) كلامها بالقرآن الكريم ، فقالت : « «ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ...»(2) وحسبُك بالله ولياً وحاكماً»
لعلّ المقصود من قولها «وحسبك بالله وليّاً وحاكماً» أي : وليّاً للدم ، وآخذاً للثار ، فالإمام الحسين (عليه السلام) هو : وصيّ رسول الله ، وسيّد أولياء الله تعالى ، فمن الطبيعي : أن يكون الله (عز وجل) هو الطالب بثاره ، والوليّ لدمه ، فهو الشاهد لمصيبة قتل الإمام الحسين ، وهو القاضي ، وهو الحاكم ، فهنا .. الحاكم والقاضي هو الذي قد شَهِدَ الجريمة

(1) كتاب «العين» للخليل ، و«لسان العرب» لابن منظور ، و«تاج العروس» للزبيدي . المحقق
(2) سورة آل عمران ، الآية 169 ـ 170 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 447

بنفسه ، فلا يحتاج إلى شهادة شهود ، وهو الذي يَعرف عظمة المقتول ظلماً ، وهو الذي يعلم أهداف القاتل مِن وراء قتله للإمام ، وهو يزيد .
«وبرسول الله خَصماً ، وبجبرائيل ظهيراً»
لقد روي عن الصحابي : إبن عباس أنّه قال : «لمّا اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرضه الذي مات فيه ، حضَرتُه وقد ضمّ الحسين إلى صدره ، يسيل من عرَقه عليه ، وهو يجود بنفسه ويقول : «ما لي وليزيد ! لا بارك الله فيه ، اللهم العن يزيد» .
ثمّ غُشيَ عليه طويلاً وأفاق ، وجعل يُقبّل الحسين وعيناه تذرُفان ويقول : أما إنّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي الله» .(1)
ثمّ صعّدَت السيدة زينب (عليها السلام) من لهجتها في تهديد يزيد وإنذاره ، مُغامرةً منها في حربها الكلاميّة ومُخاطرتها في كشف الحقائق ، وإهانتها للطاغية يزيد ، فقالت :
«وسيعلم من بوّأك ومكّنك من رقاب المسلمين أن

(1) كتاب «الدرّ النظيم» للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي ، المتوفى عام 676 للهجرة ، الطبعة الاولى ، طبع ايران ، عام 1420 هـ ، ص 540 ، وهو ينقل ذلك عن «مثير الأحزان» .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 448

بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضلّ سبيلاً»
مكّنَكَ : مهّد لتسلّطك على كرسيّ الحكم على الناس والتلاعب بدماء المسلمين .
وهذا تصريح من السيدة زينب (عليها السلام) ـ أمامَ يزيد ومَن كان حوله في مجلسه ـ بعدم شرعيّة تسلّطه على رقاب الناس ، بل وعدم شرعيّة سلطة من مهّد ليزيد هذه السلطة وهو أبوه معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي يتحمّل ما قام به يزيد من الجرائم ، مُضافاً إلى ما تحمّله هو من الجنايات وقتل الأبرياء . فسيكون عذابه أشد ، لأن جرائمه أكثر ووزرَه أثقل . ولعلّ هذا المعنى هو المقصود من قول السيدة زينب ـ حكايةً منها عن القرآن الكريم : «أيّكم شرّ مكاناً» .
«وما استصغاري قَدرك ، ولا استعظامي تَقريعك»
التَقريع : الضرب مع العُنف والإيلام .
وفي نسخة :
«ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، إنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظِم تقريعك» .(1)

(1) كتاب «الملهوف على قتلى الطفوف» للسيد ابن طاووس ، ص 217 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 449

الدواهي ـ جمع داهية ـ : دَواهي الدهر : ما يُصيب الإنسان من نُوَبه .(1)
لعلّ السيدة زينب (عليها السلام) تقصد ـ من كلامها هذا ـ : أنّ يا يزيد ! من الصعب عليّ جداً أن أُخاطبك ، لأنّي في منتهى العفة والخدارة ، وأنت في غاية اللؤم والحقارة ، ومن الصعب عليّ أن أُخاطب رجلاً نازل القدر والمكانة ، لكنّ الضرورة والظروف المؤسفة وتقلّبات الدهر ، جعلتني أكون طرفاً لك في الخطاب ، لكي أُبيّن لك فظاعة تقريعك لرأس أخي الإمام الحسين (عليه السلام) .
«تَوَهّماً لإنتجاع الخطاب فيك»
الإنتجاع : إحتمال التأثير .(2)
المعنى : ليس هدفي من مُخطابتك إحتمال تأثير خطابي فيك ، بل هو ردّ فعل طبيعي لما شاهدته وأُشاهده من المصائب ، وعسى أن يؤثّر كلامي في بعض الجالسين في هذا المجلس ، ممّن خفيَت عنهم الحقائق ، بسبب تأثير الدعايات ، وأقول قَولي هذا .. لكي أُبطِل

(1) المعجم الوسيط .
(2) كما يُستفاد هذا المعنى من كتاب «العين» للخليل ، و«المعجم الوسيط» . المحقق

السابق السابق الفهرس التالي التالي