زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 450

وأُدمر ما أحرزته من الإنتصارات الموهومة .
«بعد أن تركتَ عيون المسلمين به عبرى»
أي : مُغرَورقة ومليئة بالدموع بسبب استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) بلا ذنب ، وبتلك الكيفية الفجيعة !
«وصدورهم عند ذكره حرّى»
أي : ملتهبة من الحزن والأسى ، عند تذكّر ما جَرت عليه من المصائب المقرحة للقلوب .
وهذا أمر طبيعي لكل مسلم ـ بل كلّ إنسان ـ لم تتغيّر فيه الفطرة الأولية التي فطر الله الناس عليها ، فالتألّم من هكذا فاجعة .. هو رد فعل طبيعي لكل من تكون صفة العاطفة سليمة لديه .
ثمّ ذكرت السيدة زينب (عليها السلام) سبب عدم إحتمال تأثير خطابها في نفسيّة يزيد وحاشيته ، فقالت (عليها السلام) :
«فتلك قلوب قاسية ، ونفوس طاغية ، وأجسام محشوّة بسخط الله ولعنة الرسول ، قد عشّش فيها الشيطان وفَرّخ»

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 451

مَحشوّة : أي : مملوءة .
إنّ القلب إذا صار قاسياً ، والنفس إذا أخذها الطغيان ، فسوف لا تكون الأرضيّة مساعدة فيهما لتقبّل المواعظ والنصائح .
يُضاف إلى ذلك .. أنّ الشيطان الرجيم إذا وجد التفاعل والتجاوب من شخص ، فسوف يتربّع في فكره وذهنه ، ويتّخذه لنفسه عشاً ووكراً ، ومسكناً ومحلاً للإقامة فيه ، ويكون بمنزلة جهاز التحكّم في الأشياء ، يتحكّم في ميوله واتّجاهاته ، فيوجّه الشخص حيثما يريد ، ويأمره بأنواع الإنحراف والإنسلاخ عن الفطرة الإنسانية والعاطفة وجميع الصفات الحميدة ، ويعطيه الجُرأة على اقتاحم المخاطر الدينية ، فإذا أراد الشيطان مغادرة فكر هذا المنحرف فإنّ هناك فراخه ، أي : جنوده ، الذين يقومون مقامه ويؤدّون دوره في مهمّة الإغراء والتشجيع على الجريمة من دون التفكير في مضاعفاتها السلبيّة .
«ومن هناك مِثلك ما دَرَج»
ومن هناك : أي : وبسبب ذلك ، ونتيجة لتلك الأسباب . وقيل : «ما» في «ما درج» : زائدة .
درج : يُقال : درج الصبيّ : أي : أخذ في الحركة ومشى

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 452

مشياً قليلاً .. أوّل ما يمشي .(1) وقيل : درج : أي نشأ وتقوّى .
«فالعجب كلّ العجب لقتل الأتقياء ، وأسباط الأنبياء ، وسليل الأوصياء ، بأيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العَهَرة الفجرة»
الأتقياء ـ هنا ـ : الإمام الحسين (عليه السلام) والمستشهدين معه .
أسباط ـ جمع سبط ـ : الحفيد .
السليل : الوَلَد .
العهرة ـ جمع عاهر وعاهرة ـ : الرجل الزاني ، والمرأة الزانية .
الفجرة ـ جمع فاجر وفاجرة ـ : الرجل أو المرأة التي تُمارس جريمة الزنا والفجور .
حقّاً إنّه عجيب ، بل هو من أعجب الأعاجيب أن يُقتل أشرف وأطيب خلق الله تعالى على أيدي ذريّة العاهرين والعاهرات !!
ولكن .. هذه هي طبيعة الحياة الدنيا ، أنّها تكون

(1) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 453

قاعة امتحان للأخيار والأشرار ، وللذين يضربون أرقاماً قياسيّة في الطيب أو الخبث .
ومن هنا .. بقيت «فاجعة كربلاء» خالدة إلى يوم القيامة ، عند كلّ مجتمع يمتاز بالوعي والإدراك ، وفهم المفاهيم والقيم الإنسانية ، وكلّما إزداد البشر نُضجاً وفَهماً أقبل على دراسة وتحليل هذه الفاجعة بصورة أوسع ، والتفكير حولها بشكل أشمل ، والكتابة عنها بتفصيل أكثر .
وقد شاء الله تعالى أن يبقى هذا الملفّ مفتوحاً لدى العقلاء المؤمنين ، ويُجدّد فتحه في كل عام ، بل في كل يوم ، لتحليل ودراسة جزئيّات هذه الفاجعة !!
ولخلود فاجعة كربلاء ـ وإمتيازها على بقيّة فجائع وكوارث التاريخ ـ أسباب متعددّة ، نذكر بعضها ، ليعرف ذلك كل من يبحث عن إجابة هذا السؤال ، ويريد معرفة الواقع والحقيقة :
1 ـ إنّ الذين انصبّت عليهم مصيبة القتل أو السبي .. ـ في هذه الفاجعة ـ كانوا هم أفضل طبقات البشر ، وأشرف خلق الله تعالى .. رجالاً ونساءً ، بل كانوا في قمّة شاهقة ، ودرجة عالية من العظمة والجلالة والإيمان بالله تعالى ، والنفسيّة الطيّبة ، بحيث لا مجال لأن نقيس بهم

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 454

غيرهم من البشر .. مهما كانوا عظماء .
2 ـ إنّ الذين ارتكبوا الجرائم ـ في هذه الفاجعة ـ .. كانوا أخبث البشر ، وأكثر الناس لؤماً ، وأنزلهم نفسيّةً .
3 ـ إنّ هذه الفاجعة مهّدَت الطريق لسلسلة من الفجائع والجرائم والجنايات ، فأعطت الناس الجُرأة بأن لا يخافوا من أحد ، ولا يلتزموا بعقيدة أو دين ، فكان عمل مرتكبي هذه الفاجعة .. بمنزلة تأسيس الأُسُس وفتح الطريق أمام كل خبيث ولئيم ، في أن يقوم بما تطيبُ له نفسه القذرة من الجرائم والجنايات !
ولقد جاء في التاريخ : أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) صرّح بهذه الحقيقة ، أثناء مُقاتَلَته مع أهل الكوفة ، فقال : «... . يا أمّة السَوء : بئسما خلفتهم محمداً في عترته ، أما إنّكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إيّاي ...» .(1)
4 ـ إنّ طبيعة الحياة : هي أنّ التاريخ يُعيد نفسه .. لكن .. مع إختلاف الافراد والأجيال ، فكان ضروريّاً على كل مسلم أن يستلهم الدروس والعبر من هذه الفاجعة الكبرى ، ويقوم بدراستها ومعرفة تحليلها .. بشكل

(1) كتاب «بحار الأنوار» ج 45 ، ص 52 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 455

شامل ، لكي لا يَسقُط في الإمتحانات الإلهيّة الصعبة ، والمنعطفات الحادّة الخطيرة ، وحتى لا تتكرّر مآسي وفجائع مشابهة .
وحتى لو تكرّرت ذلك فإنّه يبادر إلى صفوف الأخيار ، ويتّخذ موقف الإنسان المؤمن الذي يخاف الله تعالى ، ويؤمن بيوم الحساب ، وذلك لأنّ لديه خلفيّة دينيّة واسعة وشاملة عن فاجعة كربلاء ومضاعفاتها .
5 ـ إنّ فتح ملف «فاجعة كربلاء» والبكاء حين قراءة أو سماع تفاصيلها يعني : تأمين جاذبيّة قويّة ، تجذب الناس نحو الدين بـ «إسم الإمام الحسين عليه السلام» ، وبجاذبيّة عاطفيّة لا يمكن تَصَوُّر درجة قوّتها !!
وهنا .. ينبغي الإلتفات إلى حقيقة مهمّة ، وهي : أنّ الأدلّة العقليّة والإستدلالات المنطقيّة ـ في مجال دعوة الناس إلى الإلتزام بالدين ـ تقوم بدَور الإقناع فقط ، لكن لابدّ لذلك من عامل يجذب الناس لإستماع هذه الأدلّة ، وأقوى عوامل الجذب هو : العامل العاطفي ، وهو متوفّر في كلّ بند من بنود هذه الفاجعة !
وهذه الجاذبيّة لا تقتصر على جذب الناس نحو الدين فحسب ، بل تجذبهم نحو الفضائل والأخلاق ، والتطبيق العملي لبنود الدين ، وتعلّم معالم وعقائد

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 456

وعبادات الدين من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .. لا مِن غيرهم .
فإنّ الله تعالى جعل شرط قبول الأعمال ولاية أهل البيت وإتّباعهم ، لا مجرّد محبّتهم ، وجعل الله (عز وجل) الإسلام الواقعي ينحصر في مذهب أهل البيت ، لا المذاهب الأخرى .. حتى لو كانت تلك المذاهب مشتملة على ظواهر ومظاهر دينيّة ، فالمظهر وحده لا يكفي ، بل لابدّ من التمسّك بالمحتوى الصحيح !
ولابدّ من التوقيع الإلهي على شرعيّة ذلك المذهب ، عن طريق نزول الوحي على رسول الله الصادق الأمين ، أو ظهور المعجزات من إمام ذلك المذهب .
ولذلك فقد اشتُهر وتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، مَن ركبها نجى ، ومن تخلّف عنها غرِق» .
والآن .. نعود إلى شرح كلمات خطبة السيدة زينب (عليها السلام) :
تقول السيدة : إنّ قتل الأتقياء وأحفاد الأنبياء وإبن الأوصياء ، كان على أيدي الطلقاء الخبيثة ، ونسل العهرة الفجرة .
إنّنا حينما نُراجع التاريخ الصحيح نجد أنّ الذين

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 457

ارتكبوا فاجعة كربلاء الدامية كانوا من أولاد الحرام !! بِدءاً من يزيد ، إلى ابن زياد ، إلى الشمر ، إلى العشرة الذين سحقوا جسد الإمام الحسين (عليه السلام) بعد شهادته ، بحوافر خيولهم !!
ولإلتحاق كلّ واحد منهم بأبيه قصّة مذكورة في كتب «علم الأنساب» .(1)
فقد جاء في التاريخ : أنّ إمرأة نصرانية إسمها : «ميسون بنت بجدل الكلبي» زَنَت مع عبد أبيها ، فحملت بـ «يزيد» وبعد الحمل بشهور تزوّجها معاوية .(2)
وأمّا عبيد الله بن زياد ، فإنّ أمّه «مرجانة» كانت مشهورة ـ عند الجميع ـ بالزنا المُستمرّ !!(3)
وكلام الإمام الحسين (عليه السلام) مشهور وصريح بأنّ عبيد الله وأباه زياد كانا إبنَي زنا ، حيث قال الإمام : «... الا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ...» .

(1) إقرأ كتاب «مثالب العرب» لهشام بن الكلبي وكتاب «إلزام النواصب» للشيخ مفلح بن الحسين البحراني .
(2) كتاب «مجالس المؤمنين» ، ج 2 ، ص 547 ، نقلاً عن كتاب «مثالب الصحابة» .
(3) كتاب «معالي السبطين» ج 1 ، الفصل السابع ، المجلس الرابع .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 458

وقد رويَ عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «قاتل الحسين (عليه السلام) ولد زنا» .(1)
«تَنطِف أكُفّهم من دمائنا»
تنطِفُ : تقطرُ أو تسيل .(2)
والظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة ، وتعني السيدة زينب (عليها السلام) تلك الأيدي والأكفّ التي كانت تضرب بسيوفها ورماحها على أجسام آل رسول الله : الإمام الحسين ورجال أهل بيته وأصحابه ، فتتقاطر أكفّهم وسيوفهم من دماء أولئك الطيّبين .
«وتتحلّب أفواههم من لحومنا»
تتحلّب : يُقال : حَلَبَ فلانٌ الشاة أو الناقة : أي : إستخرج ما في ضَرعها من اللبن ، واستحلب اللبن : إستدرّه .(3) وتحلّب فوه أو الشيء : إذا سال .(4)

(1) كتاب «كامل الزيارات» لابن قولويه ، ص 79 ، حديث 11 ، وكتاب «بحار الأنوار» ج 14 ، ص 183 .
(2) على ما هو مذكور في أكثر كتب اللغة . المحقق
(3) كتاب «أقرب الموارد» للشرتوني .
(4) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 459

لعل المراد : أنّه كما أنّ ولد الناقة تتحلّب وتمتصّ بفمها الحليب من محالب أمّها ، كذلك كان الأعداء يمتصّون بأفواههم من لحوم ودماء آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصّاً قوياً بدافع الحقد والبغضاء !!
وهذه ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة وكناية عن شدّة حقدهم وعدائهم .
ويُمكن أن تكون هذه الكلمة إشارةً إلى ما فعلته «هند» جدّة يزيد ـ في غزوة أحد ـ : مِن شقّها لبطن سيّدنا حمزة بن عبد المطّلب ، وإخراجها كبده ، ثم وضعه في فمها ومحاولتها أن تمضغه وتأكل منه ، حقداً منها عليه ، لكونه عمّاً لرسول الله ، وقائداً كفوءاً في جيش المسلمين .(1)
«تلك الجُثث الزاكية ، على الجَبوب الضاحية»
الجَبوب : وجه الأرض الصلبة(2) وقيل : الجَبوب : التُراب .(3)

(1) المحقق .
(2) كتاب «العين» للخليل بن أحمد .
(3) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 460

الضاحية : يُقال ضحا ضَحواً : برز للشمس ، أو أصابه حرّ الشمس ، وأرض ضاحية الظلال : أي : لا شجر فيها .(1)
إخبار من السيدة زينب (عليها السلام) عن مصيبة بقاء الأجساد الطاهرة على وجه الأرض عدّة أيام .. من غير دفن ، تصهرها الشمس بأشعّتها المباشرة ، كلّ ذلك .. رغم كونهم سادات أولياء الله تعالى .
«تَنتابها العواسل»
تنتابها : تأتي إليها مرّة بعد مرّة .
العواسل ـ جمع عاسِل ـ : وهو الذئب .(2)
وهنا إحتمالان في المقصود من هذا الكلام .
الإحتمال الأول : إنّ المقصود من «العواسل» : هم الذين حضروا يوم عاشوراء لقتل الإمام الحسين (عليه السلام) والصفوة الطيبة من ذريته وأهل بيته واصحابه . عبّرت السيدة زينب (عليها السلام) عن أولئك الاعداء بالذئاب ، لأنّهم كانوا يحملون صفة الذئاب وهي الإفتراس ، ويُعبّر

(1) المعجم الوسيط .
(2) وقيل : العواسل ـ جمع عسّال ـ : وهو الرمح . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 461

عن هذا النوع من التشبيه ـ في علم البلاغة والأدب ـ بـ «الإستعارة» .
وقد استعمل الإمام الحسين (عليه السلام) هذا النوع من الإستعارة في خطبته التي ألقاها قبل خروجه من مكّة نحو العراق ، حيث قال ـ فيها ـ : «... . خُيّرَ لي مصرع أنا لاقيه ، وكأنّي بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء ...» .(1)
وبناءً على هذا .. يكون المقصود من كلمة «تَنتابها» الهجوم المتوالي والغارات المتتالية التي كان الأعداء يَشِنّونها على أصحاب الإمام الحسين وخيامه .. يوم عاشوراء .
الإحتمال الثاني : هو أنّ الشأن والعادة تقتضي أن لو بقيت جُثث أناس على الأرض ـ من غير دفن ـ ، وكانت المنطقة تتواجد فيها الذئاب ، فإنّها تأتي إلى تلك الجثث وتأكل من لحومها .
إلا أنّ المعنى لم يحصل ـ بكلّ تأكيد ـ بالنسبة إلى الجسد الطاهر للإمام الحسين (عليه السلام) وأجساد أصحابه وأهل بيته الطاهرين ، الذين قُتلوا معه ، وبقيت أجسادهم على

(1) كتاب «بحار الأنوار» ج 44 ، ص 367 . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 462

الأرض لمدّة ثلاثة أيام ، من غير دفن أو مواراة في الأرض ، من دون أن يتعرّض لها ذئب أو أيّ حيوان مفترس آخر .
«وتُعفّرها أمّهات الفراعل»
الفراعل ـ جمع فُرعُل ـ : ولد الضبع .(1)
الظاهر أنّ هذا الكلام ـ أيضاً ـ إستعارة بلاغيّة ، ولعلّها تشير إلى أولئك الأفراد العشرة الذين ركبوا خيولهم وسحقوا جسد الإمام الحسين (عليه السلام) بعد قتله .. بحوافر الخيل ، في يوم عاشوراء ، أو اليوم الحادي عشر من المحرّم .
قال الراوي : ثمّ نادى عمر بن سعد في أصحابه : مَن ينتدبُ للحسين فيوطئ الخيل ظهره ؟
فانتدب منهم عشرة وهم : إسحاق بن حوية ، وأخنَس بن مرثد ، وحكيم بن طفيل ، وعمر بن صبيح الصيداوي ، ورجاء بن مُنقذ العبدي ، وسالم بن خَيثمة الجعفي ، وصالح بن وهب الجعفي ، وواحظ بن غانم ، وهاني بن ثَبيت الحضرمي ، وأُسيد بن مالك (لعنهم الله) فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره !!

(1) كتاب «أقرب الموارد» للشَرتوني .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 463

قال الراوي : وجاء هؤلاء العشرة حتى وقفوا عند ابن زياد ، فقال له أحدهم :
نحن رضضنا الصدر بعد الظهر بكـلّ يعبـوبٍ شديـد الأسـر

فقال ابن زياد : مَن أنتم ؟
قالوا : نحن وطئنا بخيولنا ظهر الحسين .. حتى طحنّا جناجن صدره !!
فأمر لهم بجائزة .
قال أبوعمرو الزاهد : فنظرنا في نسب هؤلاء العشرة ، فوجدناهم جميعاً أولاد زنا !(1)
«فلئن اتّخذتنا مغنَماً ، لتجدُ بنا وشيكاً مُغرماً حين لا تجد إلا ما قدّمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد»
مَغنَماً : الغنيمة ، وجمعها : مغانم(2) وقيل : المَغنَم : هو كل ما حصل عليه الإنسان من أموال الحرب .(3)

(1) كتاب «الملهوف» للسيد ابن طاووس ، ص 182 ـ 183 .
(2) المعجم الوسيط .
(3) كتاب «لسان العرب» .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 464

مُغرَماً : المُغرَم : المُثقل بالدَين(1) أو أسير الدَين(2) وقيل : المغرَم : مصدر وُضِعَ موضع الإسم ، ويُراد به مُغرَم الذنوب والمعاصي .(3)
المعنى : يا يزيد ! إنّك أمرت بأسرنا ، وتعاملَت جلاوزتك معنا ـ في طريق الشام ـ تعامل السبايا والغنائم الحربيّة ، ولكن .. إعلم أنّك ـ في القريب العاجل ـ سوف تجد نفسك مُثقلاً بالذنوب ومحاصراً بالمعاصي التي يلزم عليك دفع ضريبتها ، والدفاع عن نفسك في محكمة العدل الإلهية ، حيث لا تجد معك إلا ما قدّمت يداك : من جرائم وجنايات ، والتي مِن أبرزها : سبيِ نساء آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . وفي ذلك الحين ترى نفسك وحيداً ذليلاً مهاناً ، من غير محام يدافع عنك ، ولا عذرٍ لتبرّر به أعمالك ، ولا مال لتدفعه رشوةً وتُخلّص به نفسك ، بل تبقى أنت وأعمالك !!
«فإلى الله المشتكى والمُعَوّل ، وإليه الملجأ والمؤمّل»
المُعَوّل : إسم مفعول بمعنى «المُستعان» ، يقال :

(1) المعجم الوسيط .
(2) أقرب الموارد للشرتوني .
(3) كتاب «مجمع البحرين» للطريحي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 465

عَوّلتُ عليه : أي استَعَنتُ به ، وصَيّرت أمري إليه(1) وقيل : العَولُ : المُستعان به ، والعِوَل : الإتّكال والإستعانة ، يُقال : عَوَل الرجل عليه : أي : إعتمد وإتّكل عليه ، واستعانَ به .(2)
وبعد ما ذكرَت السيدة زينب (عليها السلام) ما جرى على آل الرسول الطاهرين من المصائب ، تقول «فإلى الله المُشتكى» وعليه الإعتماد والإتّكال والإستعانة به .. لا إلى غيره ، فقد كان تعالى : هو الشاهد على ما جرى ، وسيكون هو المنتقم من الأعداء ، المقتدر على إبادتهم وعقوبتهم . «وإليه المَلجأ والمؤمّل» فهو ـ سبحانه ـ الملجأ لنا ولبقيّة أفراد العائلة المكرّمة ، وخاصّة بعد فقدنا لسيّدنا الإمام الحسين (عليه السلام) وتواجدنا في عاصمة بني أميّة ، في قيد الأسر والسبي !
وهو «المؤمّل» : الذي نأمل منه أن يُعيننا على ما أصابنا ، ويُعطينا الصبر الجميل على تحمّل ذلك ، ويمنحنا الأجر الجزيل إزاء ما لاقيناه من المكاره والنوائب .

(1) كتاب «العين» ، للخليل بن أحمد .
(2) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 466

ثمّ عادت السيدة زينب (عليها السلام) لتصبّ جاماً آخر من غضبها على المجرم الأصلي لفاجعة كربلاء ، وهو يزيد الي قام بتلك الجرائم مباشرة ، أو أصدر الأوامر لعامله اللعين ابن زياد ، الذي نفّذ أوامر يزيد من القتل والسبي والضرب وغير ذلك .
وكأنّها ترى أن كلّ ما خاطبته به غير كافٍ لِما يستحقه من شجبٍ وتعنيف !
فقالت :
«ثمّ كِد كيدك ، واجهد جهدك»
الكيد : إرادة مَضَرّة الغير خُفية ، والحيلة السيّئة ، والخُدعة ، والمكر(1).
جَهَد جهداً : جدّ ، يُقال : طلب حتى وصل إلى الغاية ، والجهد ، الوُسع والطاقة .(2)
هذا كلام يَطغى عليه طابع التهديد الشديد ، مِن سيّدة أسيرة ، ولكنّها واثقة من نفسها ـ أعلى درجات الثقة ـ أنّ جميع نشاطات يزيد ـ والفصول اللاحقة من مخطّطاته ـ

(1) المعجم الوسيط .
(2) نفس المصدر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 467

سوف تفشل ، وسوف لا يتوصّل إلى أيّ واحد من أهدافه !! بل ترجع عليه بشكل مُعاكس ، فكُرسيّه يتزعزع ، وسلطته تضعُف ، وقدرته تذهب !
فالسيدة زينب (عليها السلام) تريد أن تقول ليزيد : إصنع ما بدا لك ، من تخطيط وتفكير ، وقَتل وإبادة ، وسَبي وأسر ، وابذل ما في وسعك من جهود ، فسوف لا تصل إلى الهدف الذي حَلِمتَ به ، وهو إستئصال شجرة النبوة من جذورها .. بكافّة أغصانها وفروعها وأوراقها ، وعدم إبقاء صغير أو كبير من آل رسول الله .. رجلاً كان أو إمرأة !
«ـ فو الله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب ، والنبوّة والإنتخاب ـ»
القسم للتأكيد الأكثر ، وهو ـ في الواقع ـ إنعكاس آخر لعلوّ مستوى درجة الثقة بالنفس والإتّكال على الله تعالى ، واليقين بما يقوله الإنسان ويحلف من أجله ، وعِلم السيدة بحوادث المستقبل ، وما ستؤول إليه الأمور ، فإنّ حوادث اليوم ، وأحداث المستقبل تُعتبر ـ أمام عين السيدة زينب عليها السلام ـ في حدّ سواء ، لأن الله تعالى ميّزها عن بقية سيدات البشر بأن يُوصّل إليها العلوم مباشرة .. عن طريق الإلهام .. ودون تعلّم من البشر ،

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 468

ولذلك فإنّ حوادث المستقبل معلومة وواضحة لها كاملاً كالحوادث المعاصرة ، ومثالها مثال مَن يُخرج رأسه مِن نافذة الغرفة ، فيرى ـ بكلّ وضوح ـ كلّ ما هو موجود إلى آخر الشارع ، وليس مثالها مثال من يجلس في غرفة ويفتح النافذة فلا يرى إلا ما يُقابل النافذة فقط .
إنّنا نتلمّس ـ من كلمات القسم هذه ـ المعنويّات العالية التي كانت تمتاز بها السيدة زينب (عليها السلام) حين إلقائها لخطبتها ، فهي تفتخر وتعتزّ بمزاياها الفريدة فتقول : «فو الله الذي شرّفنا بالوحي والكتاب» ، فالقرآن الكريم نزل على جدّ السيدة زينب وهو رسول الله سيّدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي دارها .
وكذلك اختار الله هذه الأسرة وانتخبها لتكون فيهم النبوّة . وكأنّها تُعرّض بكلامها ليزيد : أن أنت بماذا تَعتز ؟ وبماذا تفتخر ؟!
وهل توجد فيك فضيلة واحدة حتى تفتخر بها ؟!
ولعلّ السيدة زينب كانت تقصد ـ أيضاً ـ إسماع الجماهير المتواجدة في ذلك المجلس هذه الحقائق ، ومِن باب المَثل الذي يقول : «إيّاك أعني واسمَعي يا جارَه» .
وبعد كلمات القسم تذكر السيدة زينب (عليها السلام) الأمور التي أقسَمَت من أجلها :

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 469

«لا تُدرِك أمَدَنا ، ولا تَبلُغ غايتنا ، ولا تمحو ذكرنا»
أمدنا : الأمد : الغاية والنهاية .(1)
أي : مهما بذلت من الجهود ، وحاولتَ من المحاولات ، فسوف تفشل في ذلك ، فقد حاول ذلك مَن كان قبلك ـ وهو معاوية ـ فلم يستطع ذلك ، رغم أنّه كان أقوى منك .
«ولا يُرحَضُ عنك عارُها»
يُرحض : يُغسل .
تُصرّح السيدة زينب (عليها السلام) بحقيقة واقعيّة : وهي أنّ العار والخزي وسبّة التاريخ ، سوف تكون ملازمة ليزيد إلى الأبد ، ولا يتمكّن من غَسلها ، لا هو .. ولا مَن سيأتي من بعده من الشواذ الذين يُشاركونه في الإتجاه واللؤم .
إنّ التاريخ يقول : حينما بدأت الأمور تنقلب على يزيد ، فقد صارت مجالس تعليم القرآن الكريم .. في الشام يتحدّث فيها المعلّم عن جرائم يزيد في قتله الإمام الحسين (عليه السلام) وسبيه نساء آل رسول الله ، ثمّ بدأ الناس يُنقّبون ويُنَبّشون في ملف يزيد ، لِيَروا الفارق الواسع بين سيرته وأعماله ، وبين ما سمعوه أو قرأوه عن سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) .

(1) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 470

لمّا حدث كل هذا .. بدأ يزيد يُلقي باللوم على ابن زياد ، وصار يلعنه ويقول : إنّه قتل الحسين من تِلقاء نفسه .
ولكنّ جميع هذه المحاولات باءَت بالفشل والفضيحة الأكثر ليزيد !
«وهل رأيُك إلا فَنَد ، وأيّامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدَد»
فند : الفند : الخطأ في القول والرأي . وقيل : الفند : هو الكَذِب .(1)
لعلّ المعنى : أنّ رأيك ـ في تخطيطك ومحاولتك للتخلّص من مضاعفات جريمتك ـ خطأ وضعيف .
«وأيّامك إلا عدد»
العدد : هو الكميّة المتألّفة من الوحدات ، فيختصّ بالمتعدّد في ذاته . وعدد : للتقليل : أي : معدود ، هو نقيض الكَثرة .(2)
لعلّ المعنى : يا يزيد إنّ أيامك الباقية من عمرك قليلة ،

(1) كتاب «تاج العروس» للزبيدي ، و«العَين» للخليل بن أحمد .
(2) كما يُستفاد ذلك مِن كتاب «تاج العروس» للزبيدي .

السابق السابق الفهرس التالي التالي