زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 471

فسوف لا تبقى في هذه الحياة إلا أياماً معدودة ، فأنتَ قريب إلى الموت والهلاك ، وبعد ذلك سوف تلاقي جزاء أعمالك ، فالعذاب منك قريب .
إنّ جريمة قتل الإمام الحسين (عليه السلام) أثّرت تأثيراً سلبيّاً في مقدار عمرك ، فجعلته قصيراً جدّاً .
فقد جاء في التاريخ : أنّ يزيد عاش بعد فاجعة كربلاء سنتين وشهرين وأربعة أيام(1) ، فلم يَتَهنّا بطول الحياة وطول مدّة السلطة ، كما كان يتمنّى ذلك ، وكما كان يُتوقّعه بعد القضاء على منافسه ـ حسب زعمه ـ وهو الإمام الحسين (عليه السلام) .
«وجمعك إلا بدَد»
بدَد : يُقال بَدّهُ بَدّاً : أي فَرّقَه ، وبَدّدَ الشيء : فَرّقَه(2) والتَبَدّد : التفرُّق .(3)
المعنى : سوف يتفرّق جمعك وجلاوزتك ، وحاشيتك التي كنت تسهرُ معهم على مائدة الخمر والقمار والغناء ،

(1) ذكر ذلك الطبري ـ المتوفى عام 310 هـ ـ في تاريخه ، طبع لبنان ، ج 5 ، ص 499 . المحقق
(2) المعجم الوسيط .
(3) العين للخليل .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 472

فسوف يغيبون عن عينك ، لمرض أو موت ، أو تتغيّر نظرتهم بالنسبة إليك ، أو غير ذلك من الأسباب التي تجعل كلّ يوم من الأيام يحمل لك حزناً وهمّاً جديداً ، فلا تتهنّا بمن حولك .
«يوم ينادي المنادي : ألا لعن الله الظالم العادي»
المعنى : يوم تموت ، وتسمع صوتاً مرعباً لمناد ينادي ـ من عند الله تعالى ـ : «ألا لعن الله الظالم العادي» فأوّل شيء تراه بعد موتك هو : سماعك لهذا الصوت .
وكلمة «لعن الله الظالم» أي : أبعده عن رحتمه وعفوه ومغفرته .
ثمّ .. بدأت السيدة زينب (عليها السلام) تُمهّد لختام خطبتها الخالدة ، فقالت :
«والحمد لله الذي حَكَم لأوليائه بالسعادة ، وختم لأصفيائه بالشهادة ، ببلوغ الإرادة»
حَكَم لأوليائه : قضى لهم(1) ، وقدّر لهم ذلك .
أصفيائه : الصفيّ مِن كلّ شيء صَفوُهُ ، وجمعُه :

(1) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 473

أصفياء .(1)
بقلب مفعم بالإيمان بالله تعالى ، والرضا بما يختاره الله لعباده ، بدأت السيدة زينب (عليها السلام) تختم خطبتها بحمد الله سبحانه الذي قضى لأوليائه بالسعادة ، وتقصد من الأولياء ـ هنا ـ : الإمام الحسين (عليه السلام) ـ الذي هو سيد أولياء الله تعالى ـ وأصحابه الذي قُتلوا معه يوم عاشوراء ، ونالوا ـ بذلك ـ شرف الشهادة .
إنّ الإنسان الذي يلتزم بالدين ، ويصنع من نفسه وليّاً لله ـ وذلك بأدائه لِلَوازم العبودية لله سبحانه ـ سوف يحظى بنتائج إلهيّة فريدة ، وهي عبارة عن المِنَح المميزة ، والألطاف الخاصّة التي يُفيضها الله عليه ، والتي لا تشمل غيره من الناس ، ومن أبرز تلك الألطاف الخاصة : السعادة الأبدية ، ولعلّ إلى هذا المعنى الرفيع أشار الله تعالى بقوله : «والله يختصّ برحمته من يشاء» .(2)
إنّ أولياء الله تعالى كانوا يفكّرون ـ باستمرار ـ في جَلب رضى الله سبحانه .
أجَل .. كان هذا هو الهدف الذي يُشغلون به بالهم ،

(1) المعجم الوسيط .
(2) سورة البقرة ، الآية 105 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 474

ويتحرّكون في هذا المدار ويدورون حول هذا المحور .
ومن الطبيعي أنّهم كانوا ـ ولا زالوا ـ على درجات ، فهناك مَن يكون وليّاً لله تعالى منذ السنوات الأولى من حياته ، وهناك من يصير ولياً لله تعالى في مرحلة متقدّمة من العمر .
وعلى هذا الأساس يقضي الله (عز وجل) لهم بالفوز والتفوّق والسعادة الأبديّة ، بجميع ما لهذه الكلمة من معنى .
وأحياناً يُقدّر الله تعالى لهم بعض المكاره والصعوبات ، وذلك لأسرار وحِكَم يعلمها الله سبحانه ، فترى الأولياء يُظهرون من أنفسهم كلّ إستعداد وتحمّل وتقبّل لتلك المكاره ويستقبلونها بصدر واسع وصبر جميل .
وختم الله تعالى لأصفيائه بالشهادة ، فقد كانت حياتهم كلها خير وبركة منذ البداية إلى النهاية ، فمِن المؤسف ـ حقّاً أن يموت الوليّ ميتةً طبيعية على الفراش ، بل المتوقّع له أن يوفّقه الله تعالى للشهادة والقتل في سبيله ، لكي تكون لموته أصداءٌ تعود للدين بالفائدة ، كما كانت حياته كذلك .
فقتلهم يوقظ الغافلين غير المُلتزمين بالدين ، ويجعلهم يُفكّرون ويتساءلون عن سبب قتله رغم كونه

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 475

إنساناً طيباً ، ويبحثون عن هويّة القاتل ، وهدفه من قتل هذا الرجل !
فتكون هذا الأصداء سبباً لعودة الكثيرين إلى الإلتزام الشديد بالدين ومبادئه .
أليس كذلك ؟!
ولعلّ أولئك الأولياء هم الذين أرادوا أن يكون ختام حياتهم بالشهادة ، وسألوا من الله (عزّ وجل) ذلك ، فاستجاب الله ـ سبحانه ـ لهم دعاءهم ، وقدّر لهم الشهادة في سبيل الله تعالى ، ولعلّ هذا هو معنى كلام السيدة زينب (عليها السلام) : «بِبلوغ الإرادة» .
«نقلهم إلى الرحمة والرأفة ، والرضوان والمغفرة»
المعنى : نَقَلهم إلى عالم يُرَفرف على رؤوسهم رحمة الله الواسعة المخصّصة للشهداء في سبيل الله تعالى ، والرأفة : أي : العاطفة المزيجة باللطف والحنان ، التي لا تَشمَل غير الشهداء الذين باعوا أعزّ شيء لديهم ـ وهي حياتهم ـ للدين ، وفي سبيل المحافظة على روح الدين الذي كان يتجسّد في الإمام الحسين (عليه السلام) ، وعدم الرُضوخ لبيعة «يزيد» الكافر .
«والرضوان والمغفرة» إنّ القرآن الكريم يُصرّح بأن أعلى

زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 476

وأغلى وألذّ نعمة يتنعّم بها بعض أهل الجنّة ـ وفي طليعتهم شهداء فاجعة كربلاء ـ هو شعورهم وإحساسهم بأنّ الله تعالى راض عنهم ، قال تعالى : «وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة في جنّات عدن ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم» .(1)
هذا سوى ما يُعيّن لهم من أنواع النِعَم والكرامة والإحترام اللائق .. الذي لا مَثيل له في عالم الدنيا !
يُضاف إلى ذلك : أنّ الرجل الذي يُقتَل في سبيل الله بنيّة خالصة سوف يمرّ نسيم العفو والمغفرة على ما صدر منه من مخالفات ، فيصير ملفّه أبيض لا سواد فيه .
إنّنا نقرأ في دعاء صلاة يوم عيد الفطر والأضحى : «... اللهم وأهل العفو والرحمة وأهل التقوى والمغفرة» ، وهذا لجميع المؤمنين التائبين ، ولكنّ الشهيد يمتاز بمزايا وتسهيلات خاصّة قرّرها الله تعالى للشهداء فقط .
هذا إذا كان الشهيد إنساناً عادياً غير معصوم من الذنوب ، أمّا إذا كان معصوماً فلا توجد في صحيفة أعماله

(1) سورة التوبة ، آية 72 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 477

ذنوب أو معاصي ، فيكون معنى «المغفرة» بالنسبة إليه علوّ درجته في الجنّة ، واختصاصه بمنح فريدة كالشفاعة للآخرين ، وغير ذلك من المميّزات .
وأمّا سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فقد خاطبه الله تعالى ـ بقوله ـ : «يا أيتها النفس المطمئنّة : إرجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّة ، فادخلي في عبادي وادخُلي جنّتي» ، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّ المقصود والمُخاطب بهذه الآية : هي نفس الإمام الحسين (عليه السلام) .(1)
وكم تتضمّن هذه الآيات من كلمات وضمائر عاطفيّة !!
«ولم يَشقَ بهم غيرك»
المعنى : إنّ الذي صار شقيّاً وتعيساً ومطروداً من رحمة الله .. هو أنت يا «يزيد» ، .. بسبب قتلك إيّاهم وقضائك على حياتهم ، وطعنِك في قلب الإسلام النابض وهو الإمام الحسين (عليه السلام) .

(1) كتاب (تفسير البرهان) للسيد هاشم البحراني ، عند تفسير الآية 27 ـ 30 من سورة الفجر . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 478

«ولا ابتُليَ بهم سواك»
إنّ الذي امتُحنَ بالقدرة والسلطة ومشاهدة كرسيّ الملك الذي مهّده له معاوية ، فاراد القضاء على كلّ من لا يركع له ، وبذلك سقط في الإمتحان سقوطاً ذريعاً هو أنت أيّها الخامل الحاقد !
أمّا الذين قُتِلوا مع الإمام الحسين (عليه السلام) ونالوا شرف الشهادة معه .. فهم قد نجحوا في الإمتحان نجاحاً باهراً وفوزاً متوالياً متواصلاً ، أي : كما كانوا مِن قَبل الشهادة ـ أيضاً ـ في مرحلة عالية من سلامة الفكر والعقيدة والسلوك ، والطاعة التامّة لإمام زمانهم الحسين (عليه السلام) .
فهم ـ الآن ـ في أعلى درجات الجنان والتي يُعبّر عنها بـ «الفردوس الأعلى» .
أما أنت ـ يا يزيد ـ فسوف يكون مصيرك في أسفل دَرَك من الجحيم ، وفي ذلك التابوت الذي يُمَوّن جميع طبقات جهنّم بالحرارة العالية التي لا يُمكن للبشر ـ في هذه الدنيا ـ أن يتصوّر درجة حرارتها وشدّة اشتعالها .
قال تعالى ـ بالنسبة لأهل النار ـ : «ويأتيه الموتُ مِن كلّ مكان وما هو بميّت»(1) وقال (جلّ ثناؤه) : «وقالوا :

(1) سورة إبراهيم ، الآية 17 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 479

يا مالِك ! لِيَقضِ علينا ربّك ؟ قال : إنّكم ماكثون» .(1)
«ونَسأله أن يُكمِل لهم الأجر ، ويُجزل لهم الثواب والذخر»
أكمَلَ الشيء : أتمّه ، وفي القرآن الكريم : «اليوم أكملتُ لكم دينكم»(2) ويقال ـ أيضاً ـ : الكَمَلُ : الكامل ، يُقال : أعطاه حقّه كملاً : وافياً .(3)
يُجزِل : الجَزلُ : العطاء الكثير ، ويُقال : أجزَل العطاء .(4)
والجَزلُ : الكثير من كلّ شيء .(5)
الثواب : الجزاء والعطاء(6) ، وقيل : هو الجزاء الذي يُعطى مع الإحترام والإجلال والتقدير .. وليس مجرّد

(1) سورة الزخرف ، الآية 77 .
(2) سورة المائدة ، الآية 3 .
(3) المعجم الوسيط .
(4) كتاب «العَين» للخليل بن أحمد .
(5) المعجم الوسيط .
(6) نفس المصدر .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 480

إعطاء الجزاء(1).
الذُخر : يُقال : ذَخَر لنفسه حديثاً حسناً .(2)
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُكمِلَ لهم الجزاء المخصّص للشهداء ، جزاءً تامّاً يَليقُ بتقدير الله سبحانه للشهداء المخلصين ، الذين تركوا زوجاتهم أرامل ، وأطفالهم أيتام ، وأمّهاتهم ثُكالى .. كل ذلك .. في سبيل الله !
فيُعطيهم العطاء الكثير الوافر ، مع الإحترام والتقدير ، إذ قد يَدفع الإنسان الأجرة إلى العامل .. مِن دون أن تكون كيفيّة الإعطاء مقرونة بالإحترام ، أمّا الثواب : فهو إعطاء الأجر .. مع الإستقبال الحارّ ، والإحترام والإبتسامة واللُطف .
ويَكتُب لهم الثناء الجميل والذكر الحسن ، على ألسنة الناس وفي صفحات التاريخ .
وقد استجاب الله تعالى دُعاء السيدة زينب العظيمة (عليها السلام) ، فقد رُوي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «ما مِن عبدٍ شرِب الماء فذكر الحسين (عليه السلام)

(1) كما يُستفاد من كتاب «مجمع البحرين» للطريحي .
(2) المعجم الوسيط .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 481

ولعن قاتله إلا كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحطّ عنه مائة ألف سيّئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنّما أعتق مائة ألف نَسَمة ، وحشره الله تعالى يوم القيامة ثَلجَ الفؤاد» .(1)
وروي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) أنّهما قالا : «إنّ الله تعالى عوّض الحسين (عليه السلام) عن قتله أن : جعل الإمامة في ذريّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيام زائريه .. ـ جائياً وراجعاً ـ مِن عمره» .(2)
وقد روي ـ أيضاً ـ عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنّه أمَر رجلاً كان يريد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) أن يزور قبور الشهداء ـ بعد الفراغ من زياة الإمام الحسين (عليه السلام) ـ ويُخاطبهم بهذه الكلمات :
«... . بأبي أنتم وأمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ، وفزتم فوزاً عظيماً ... .» .

(1) كتاب «كامل الزيارات» لابن قولويه ، ص 106 .
(2) كتاب «بحار الأنوار» ج 44 ، ص 221 ، باب 29 ، نقلاً عن كتاب أمالي الطوسي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 482

«ونسأله حسنَ الخلافة ، وجميل الإنابة ، إنّه رحيم ودود»
الخلافة : يُقال خَلَف فلان فلاناً .. خلفاً وخِلافةً : جاء بعده فصار مكانه(1). وفي الدعاء : أخلَفَ الله لك وعليك خيرا» .
وفي الدعاء أيضاً : «واخلُف على عَقِبِه في الغابرين» .
الإنابة : الرجوع الى الله ، قال سبحانه : «إرجعي إلى ربّك» .
المعنى : ونسأل الله تعالى أن يُخلّف لناعمّن فقدناه أفراداً صالحين ، يسدّون بعض الفراغ الذي تركه مقتل أولئك الصفوة الطيّبة من رجال آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجعل في البقيّة الباقية منهم خيراً .
أو : أن يجعل مستقبلنا مستقبلاً حسناً مريحاً ، بعد ما شاهدناه وعانيناه من المصائب الفجيعة التي لن تُنسى !!
إنتهت السيدة زينب البطلة الشجاعة ، مِن إلقاء خطبتها الخالدة .
والآن .. توجّهت أنظار الحاضرين إلى يزيد الحاقد

(1) كما يُستفاد من مجمع البحرين للطريحي .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 483

لِيَروا منه ردود الفعل .
فما كان منه سوى أنّه عَلّق على هذه الخطبة المفصّلة بقوله :
يا صحيةً تُحمدُ من صوائح ما أهونَ الموت على النوائح(1)

فهل إنعقد لسانه عن إجابة كلّ بند من بنود تلك الخطبة ؟!
أم أنّ أعصابه أُصيبت بالإنهيار والإهتزاز ، فلم يستطع التركيز والرد ؟!
أم رأى أنّ الإجابة والتعليق يُسبّب له مزيداً من الفضيحة أمام تلك الجماهير الغفيرة الحاشدة في المجلس ، فرأى السكوت خيراً له من خَلق أجواء الحوار مع إبنة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) التي ظَهَرت جدارتها الفائقة على مقارعة أكبر طاغوت ، بكلام كلّه صدقٌ ، واستدلال منطقي وعَقلي مُقنع . وخاصة أنّ

(1) وفي نسخة : «ما أهون النوح على النوائح» ولعلّه (لعنه الله) يقصد من قراءته لهذا الشعر : أنّها إمرأة مفجوعة .. دَعها تتكلّم بما تُريد ، فإنّ ذلك لا يُهمّني ! المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 484

الجملات الأخيرة ـ التي كانت تَحمل في طيّاتها التهديد المُرعب ـ جعلت يزيد ينهار رغم ما كان يشعر به مِن تجبّر وكبرياء .(1)


(1) لقد ذُكرت خطبة السيدة زينب (عليها السلام) في مجلس يزيد ، في المصادر التالية :
1 ـ كتاب مقتل الإمام الحسين عليه السلام ، للخوارزمي ج 2 ص 63 .
2 ـ كتاب نثر الدرر ، لمنصور بن الحسين الآبي ، المتوفّى عام 421 هـ ، طبع مصر ، ج 4 ، ص 26 .
3 ـ كتاب بلاغات النساء ، لابن طيفور ، المتوفّى عام 280 هـ .
4 ـ كتاب (معالي السبطين) للشيخ محمد مهدي المازندراني الحائري .
5 ـ كتاب «تظلّم الزهراء» للقزويني ، طبع بيروت ، ص 283 .
6 ـ كتاب «الإيقاد» للسيد الشاه عبد العظيمي ص 173 .
المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 485

نصّ خطبة السيدة زينب على رواية أخرى


لقد ذكرنا أنّ السيد إبن طاووس قد روى خطبة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) بكيفيّة تختلف عمّا ذكرناه ، وتمتاز ببعض الإضافات والفُروق ، ولا تَخلو من فوائد ، وإليك نصّها :
قال الراوي : فقامت زينب بنتُ علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالت :
«الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه ، كذلك(1) يقول : «ثمّ كان عاقبة

(1) وفي نسخة : إذ يقول .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 486

الذين أساؤا السوئى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن»(1).
أظننت ـ يا يزيد ! ـ حيثُ أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء ـ فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى(2) ـ أنّ بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة ؟ وأنّ ذلك لَعَظم خطرك عنده ؟
فَشَمَخت بأنفك ، ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً(3) ، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متّسقة ، وحين صفى لك مُلكنا وسلطاننا !
فمهلاً مهلاً ! أنسيت قول الله ـ عزّ وجل ـ : «ولا يحسبنّ الذين كفروا أنّما نُملي لهم خيرٌ لأنفسهم ، إنّما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين»(4).
أمِن العدل يابن الطُلقاء ؟! تخديرك إماءك وحرائرك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟

(1) سورة الروم ، الآية 10 .
(2) وفي نسخة : كما تُساق الإماء .
(3) وفي نسخة : جَذِلاً مَسروراً .
(4) سورة آل عمران ، الآية 178 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 487

قد هتكتَ ستورهنّ ، وأبديتَ وجوههنّ ، تحدوا بهنّ الاعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل(1) ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد ، والدنيّ والشريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ ، ولا مِن حماتهنّ حميّ .
وكيف تُرتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء ؟ ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟
وكيف يستبطأ في بُغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَف والشَنآن ، والإحَن والأضغان .
ثمّ تقول ـ غير مُتأثّم ولا مستعظِم ـ :
«لأهَلّـوا واستهلّوا فرحـاً ثم قالوا : يا يزيد لا تُشَل»

مُنحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكُتُها بمخصَرتِك .
وكيف لا تقول ذلك ؟ وقد نكأتَ القرحة ، واستأصلتَ الشأفة ، بإراقتك دماء ذريّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب .

(1) وفي نسخة : اهل المناهل والمناقل .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 488

وتَهتف بأشياخك ، زعمت أنّك تناديهم ، فلتردَنّ ـ وشيكاً ـ موردهم ، ولتودّنّ أنّك شُلِلتَ وبَكِمتَ(1) ، ولم تكن قلتَ ما قلتَ ، وفعلتَ ما فعلت .
اللهم خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا ، وقتل حُماتنا .
فوالله ما فَرَيتَ إلا جلدك ، ولا حززت إلا لحمك(2) ، ولتردنّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته ، وانتهكتَ من حرمته في عترته ولُحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ بحقّهم .
«ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون»(3)
وحسبُك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً .

(1) بَكمتَ : عجَزتَ عن الكلام خِلقةً . المعجم الوسيط .
(2) وفي نسخة : جَزَرتَ .
(3) سورة آل عمران ، الآية 169 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 489

وسيعلم مَن سوّل لك(1) ومكّنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً(2) ، وأضعف جنداً .
ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغرُ قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرّى .
ألا : فالعجب كل العجب ! لقتل حزب الله النجباء ، بحزب الشيطان الطلقاء(3) ، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتناهبها العواسل ، وتعفوها أمّهات الفراعل .
ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنّا ـ وشيكاً ـ مَغرماً ، حين لا تجدُ إلا ما قدّمت يداك ، وما ربّك بظلام للعبيد .
فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل .

(1) سوّلَ لك : زيّنَ لك عملك .
(2) وفي نسخة : وأيّنا شرٌ مكانا .
(3) لعلّ الأصح : على أيدي حزب الشيطان . المحقق
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 490

فكِد كيدك ، واسعَ سعيك ، وناصِب جُهدك(1) ، فوالله لا تَمحُونّ ذكرنا ، ولا تُميت وحينا ، ولا تُدرك أمدنا ، ولا تَرحضُ عنك عارها .
وهل رأيك إلا فَنَد ، وأيامك إلا عَدَد ، وجمعك إلا بَدَد ؟ يوم ينادي المنادي : ألا : لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يُكمِلَ لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويُحسن علينا الخلافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل» .
فقال يزيد :
«يـا صيحة تُحمدُ من صوائح ما أهون الموت على النوائح»(2)

(1) وفي نسخة : واجهَد جهدك .
(2) كتاب «الملهوف» للسيد ابن طاووس ، ص 215 ـ 218 .
زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 491


الفصل السابع عشر

  • آل رسول الله في خَرِبَة الشام
  • حوارٌ بين مِنهال والإمام زين العابدين (عليه السلام)
  • مجيء زوجة يزيد إلى خربة الشام
  • آل رسول الله يُقيمون المآتم على الإمام الحسين (عليه السلام) في الشام
  • بين الإمام زين العابدين (عليه السلام) ويزيد بن معاوية
  • تَرحيل عائلة آل الرسول مِن دمشق إلى المدينة المنوّرة


  • زينب الكبرى (ع) من المهد الى اللحد 492




    السابق السابق الفهرس التالي التالي