ومن الأحاديث النبويّة المتواترة لفظاً ومعنىً ، تفصيلا وإجمالا ، عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ حديث السفينة.
قال رسول الله محمّد (صلى الله عليه وآله) : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى » (مصادر الحديث عند الفريقين في كتاب ( أهل البيت عليهم السلام سفينة النجاة )) .
وقيل : لمّـا سئل مولانا لسان الله الناطق جعفر بن محمّد الإمام الصادق (عليه السلام)عن حديث « إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » : ألستم أنتم سفن النجاة ؟ فقال (عليه السلام) : كلّنا سفن النجاة إلاّ أنّ سفينة الحسين أوسع وأسرع.
كما أنّ للجنّة أبواباً ، منها باب يسمّى باب الحسين (عليه السلام) وهو أوسع الأبواب.
فالسفينة الحسينيّة سعتها بسعة الخلائق ، وتضمّ جميع العباد من آدم (عليه السلام) إلى يوم القيامة.
كما أنّها أسرع للوصول إلى شاطئ السلام وساحل النجاة ، والوصول إلى بحر فيض الله ورحمته الواسعة ، والفناء في الله سبحانه وتعالى.
وبنظري إنّ المصباح الحسيني للمتّقين ، فإنّه عدل القرآن الكريم ، بل هو القرآن الناطق ، وإذا كان القرآن التدويني العلمي هدىً للمتّقين :
( ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقينَ )[3].
فكذلك القرآن التكويني العملي ، فهو مصباح الهدى للمتّقين.
كما أنّ السفينة الحسينيّة للمذنبين ، لهما تجلّيات وأشعّات والألواح نورانيّة في السماوات والأرضين ، وعلى مرّ التأريخ والعصور ، فإنّ لقتله وشهادته تبكي السماء دماً ، كما أنّ الأنبياء والأولياء والأوصياء يبكونه ، ويقيمون له المآتم والعزاء ، إنّما هو من تجلّيات تلك السفينة المباركة ، وأشعّة ذلك المصباح الميمون.
ومن بعد شهادته وواقعة الطفّ الحزينة ، نشاهد الثورات القائمة ، والمآتم المنصوبة ، ومواكب العزاء قبل ألف عام ، وبناء الحسينيات قبل قرون ، وإلى يومنا هذا وغداً تزداد وتزداد ، كالقرآن الكريم غضّ جديد لا يبلى ، إنّما ذلك كلّه من بركات تلك السفينة وذلك المصباح ، فإنّ الشعائر الحسينيّة التي هي مظاهر من الشعائر الإلهيّة ، التي من يقيمها فإنّ ذلك من تقوى القلوب ، تلك القلوب التي فيها حرارة قتل سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) ، وإنّها لن تبرد إلى يوم القيامة ، وإنّها شعلة وهّاجة تنير دروب الأحرار على مدى العصور والأحقاب ولكلّ الأجيال ، فإنّ الشعائر الحسينيّة بكلّ مظاهرها ومحتوياتها الشرعيّة إنّما هي من تجلّيات وظهور وبروز تلك السفينة وذلك المصباح . هكذا شاء ربّك الحكيم أن يبقى دينه القويم الإسلام العظيم ، بدم الحسين وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) أبد الآبدين.
فأهل البيت وعترة النبيّ المختار هم سفن النجاة ، من تركهم فإنّه لا محالة يغرق ويهوى ، كما دلّت على ذلك النصوص القرآنيّة والأحاديث الشريفة وبحكم العقل السليم والفطرة السليمة.
1 ـ علاقة العصمة بآية وحديث السفينة العصمة :
في قصّة نوح (عليه السلام) قال الله تعالى عن لسان نوح (عليه السلام) في مخاطبة ولده لمّـا دعاه إلى ركوب السفينة ليعصم من الطوفان ، فأجاب الولد : سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي ، فقال له نوح (عليه السلام) :
( لا عاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أمْرِ اللهِ )[1].
وهذا يعني أنّ العصمة من الطوفان والغرق انحصرت بالسفينة ، من هذا المنطلق قال نوح (عليه السلام) :
( ارْكَبْ مَعَنا )[2].
فكذلك أهل البيت من المعصومين (عليهم السلام) ، فالحديث النبويّ الشريف الذي يشبّه أهل البيت (عليهم السلام) بسفينة نوح يدلّ على عصمتهم ، وأ نّه كلّ من تخلّف عنهم غرق وهوى لا محالة.
فلا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من ركب سفينة أهل البيت (عليهم السلام) ، ومن تخلّف حتّى ولو كان من أولادهم فإنّه من الهالكين.
فالعصمة التي تعني اللطف والعناية الإلهيّة والقوّة القدسيّة في المعصوم ـ النبيّ والإمام (عليهما السلام) ـ تمنعه من الشين والزلل والخطأ والذنب والسهو ، لا على حدّ الإلجاء والقهر ، هذه العصمة أودعها الله في صفوة عباده من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) لحفظ دينه وشرائعه ومناهجه ، فلولا العصمة[3] لما تمّ اللطف الإلهي في حفظ الدين :
( إنَّا نَحْنُ نَزَّلـْنا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحافِظونَ )[4].
فالعصمة صمّام وضمان لسلامة الدين من الضياع والانحراف والمحو ، ولا يعلمها إلاّ الله سبحانه.
ـ عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) ، قال : الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، فلذلك لا يكون إلاّ منصوصاً ، فقيل له : يا بن رسول الله ، فما معنى المعصوم ؟ فقال : هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة ، والإمام يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قول الله عزّ وجلّ :
( إنَّ هذا القُرْآنَ يَهْدي لِلَّتي هِيَ أقْوَمُ )[5].
ـ عن الحسين الأشقر ، قال : قلت لهشام بن الحكم : ما معنى قولكم : إنّ الإمام لا يكون إلاّ معصوماً ؟ قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال : المعصوم هو الممتنع بالله عن جميع محارم الله ، وقد قال الله تبارك وتعالى :
( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراط مُسْتَقيم ) . بيان : الممتنع بالله أي بتوفيق من الله[6].
في الخصال : قوله تعالى : ( لا يَنالُ عَهْدي الظَّالِمينَ ) ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) : عنى به أنّ الإمامة لا تصلح لمن قد عبد صنماً أو وثناً أو أشرك بالله طرفة عين وإن أسلم بعد ذلك ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وأعظم الظلم الشرك ، قال الله عزّ وجلّ : ( إنَّ الشِّرْكَ لَظُلـْمٌ عَظيمٌ ) ، وكذلك لا تصلح الإمامة لمن قد ارتكب من المحارم شيئاً صغيراً كان أو كبيراً وإن تاب منه بعد ذلك ، وكذلك لا يقيم الحدّ من في جنبه حدّ ، فإذاً لا يكون الإمام إلاّ معصوماً ولا تعلم عصمته إلاّ بنصّ من الله عزّ وجلّ عليه على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله) ، لأنّ العصمة ليست في ظاهر الخلقة فتُرى كالسواد والبياض وما أشبه ذلك ، وهي مغيّبة لا تعرف إلاّ بتعريف علاّم الغيوب عزّ وجلّ[7].
فالإمام المستحقّ للإمامة له شرائط وعلامات ، فمنها : العصمة ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : بأن يعلم أ نّه معصوم من الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها لا يزلّ في الفتيا ، ولا يخطئ في الجواب ، ولا يسهو ولا ينسى ، ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا ... العصمة من جميع الذنوب وبذلك يتميّز عن المأمومين الذين هم غير المعصومين لأنّه لو لم يكن معصوماً لم يؤمن عليه أن يدخل فيما يدخل الناس فيه من موبقات الذنوب المهلكات والشهوات واللذات[8].
قال الإمام الصادق (عليه السلام) : إنّ ممّـا استحقّت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار ، ثمّ العلم المنوّر بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة ، من حلالها وحرامها والعلم بكتابها خاصّه وعامّه والمحكم والمتشابه ودقائق علمه وغرائب تأويله وناسخه ومنسوخه[9].
فالإمام لا بدّ أن يكون معصوماً ، ولا يعرف عصمته الذاتيّة إلاّ الله سبحانه ، فهو الذي ينصبه إماماً على الناس بنصّ منه ومن رسوله ويخبر عن عصمتهم.
ـ عن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون[10].
وبهذا فالله هو الذي يختار ويصطفي من عباده الأنبياء ثمّ خلفاءهم الأوصياء ، فمن كان معهم فهو في سفينة النجاة ، فمن ركب سفينة نوح فإنّه يسلم من الغرق ومن الهلاك ، ومن يركب سفينة الحسين (عليه السلام) فإنّه يأمن على نفسه من الغرق والهلاك ، فلا عصمة إلاّ بركوب السفينتين ، سفينة الآية لقوم نوح وسفينة الرواية لاُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله).
2 ـ علاقة الايمان بآية وحديث السفينة العصمة :
لا بدّ لمن يركب سفينة نوح من الإيمان به ; لقوله تعالى : ( ارْكَبْ مَعَنا ) ، فالمعيّة يستلزمها الإيمان ، فالمؤمن هو الذي يبادر بركوب السفينة ، فكذلك أهل البيت (ع) ، فإنّ من يركب سفينتهم لا بدّ أن يؤمن بهم أوّلا ، ولا إيمان إلاّ بالمعرفة ، إلاّ أنّ المعرفة ـ كما مرّ ـ لها مراتب ومراحل كذلك الإيمان له درجات ـ كما في الروايات من القول بعشر درجات إلى أربعمئة درجة ، ولعلّ العشرة اُمّهات واُصول الدرجات فلا تنافي بين الأخبار فتدبّر ـ .
فقوله تعالى : ( ارْكَبْ مَعَنا ) أمر والأمر بظاهره يدلّ على الوجوب ، فكان من الفرض الواجب على ابن نوح أن يركب مع أبيه ، إلاّ أ نّه عصى وخالف ، فدخل في زمرة المخالفين العصاة الطغاة ، فغرق وخسر الدنيا والآخرة ، ولم ينفعه نسبه واتّصاله المادّي والجسدي ببيت النبوّة والوحي ، بل من كان مع نوح فهو منه ، ومن أولاده :
( مَنْ تَبِعَني فَهُوَ مِنِّي )[11].
وكذلك من كان مع الإمام الحسين (عليه السلام) ويركب سفينته ، فإنّه من أهل النجاة ، ومن الاُمّة الحسينيّة ، ويكون والده الإمام (عليه السلام) ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أنا وعليّ أبوا هذه الاُمّة ـ متّفق عليه عند الفريقين ـ .
فمن كان مع الحسنين سبط رسول الله ، يعني أ نّه يؤمن به أوّلا ، ومن ثمّ يركب سفينته ويستضيء بمصباحه من سيرته وثورته وكلماته وحياته القدسيّة.
فالإيمان كلّ الإيمان في معرفة الله ورسوله وعترته وإطاعتهم.
قال الإمام الباقر (عليه السلام) : إنّما يعرف الله عزّ وجلّ ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منّا أهل البيت[12].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : من عرفنا كان مؤمناً ، ومن أنكرنا كان كافراً . إلاّ ما علم بين الله عزّ وجلّ وبين خلقه ، فمن عرفه كان مؤمناً ، ومن أنكره كان كافراً[13].
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة الجاهليّة[14].
وقال الصادق (عليه السلام) : من لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاّ حتّى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة ، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء[15].
المصدر: الامام الحسين(ع)في عرش الله / السيد عادل العلوي / مع الاستعمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]هود : 43.
[2]هود : 42.
[3]من مظاهر كمال الأنبياء والأوصياء والتي اتّصف بها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وسيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) ، هي العصمة من الآثام والمعاصي والذنوب ، والتنزّه عن كلّ القبائح وكلّ ما يشين المرء ، ولولا ذلك لما تمكّنت الاُمّة من معرفة الحقّ من الباطل والخطأ من الصواب ، وقد عرّف متكلّموا الشيعة العصمة بتعاريف عديدة مرجعها إلى ما ذكرناه ، وأساسه بنظري هو العلم النوري الذي يقذفه الله في قلب من يشاء ، فإنّ العلم بمنشأ الذنوب ونتائجها وآثارها الوضعيّة والتكليفيّة في الدارين ، يمنع الإنسان عن المعصية ، فيعصمه بعصمة ذاتيّة كلّية ، كما في الأنبياء والأوصياء والتي تسمّى بالعصمة الكبرى ، واُخرى بعصمة أفعاليّة جزئيّة ، كما في الأولياء والصلحاء ، وهذا العلم هو من الله سبحانه بلطف خاصّ ، وهو العلم الذي علّم آدم ، فهو من العلم الآدمي ، وهناك علم ناري شيطاني خال عن التقوى عار عن التزكية.
[4]الحجر : 9.
[5]البحار 25 : 194 ، باب 5 عصمتهم (عليهم السلام) ولزوم عصمة الإمام (عليه السلام) ، وفي الباب 24 رواية ، والآية في سورة الإسراء : 9.
[6]المصدر ، عن معاني الأخبار : 44 ، والآية من آل عمران : 101 ، وللشيخ الصدوق كلام مفصّل في العصمة ولزومها ، فراجع.
[7]المصدر ، عن الخصال 1 : 149.
[8]البحار 25 : 164.
[9]البحار 25 : 149.
[10]المصدر ، عن إكمال الدين : 163.
[11]إبراهيم : 36.
[12]الكافي 11 : 181.
[13]البحار 23 : 88.
[14]المصدر : 77.
[15]الكافي 1 : 187.