جهاد الامام السجاد عليه السلام 146

الحرية ، وقد استغل الإمام عليه السلام كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق ، وتحرير العبيد والإماء.
وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها ، كما يدلّ عليه الحديث التالي :
فعن سعيد بن مرجانة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار ، حتى أنه يعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج».
فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة !
قال سعيد : نعم.
فقال الإمام : ادع لي مطرفا ـ لغلام له أفره غلمانه ـ فلمّا قام بين يديه ، قال : إذهب فانت حرّ لوجه الله(1).
إن الإمام زين العابدين عليه السلام لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة ، وإنما أراد أن يؤكّد على سنة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث ! وليكون عمله قدوة للآخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب.
2 ـ إن الرقيق المعتقين يشكّلون جيلا من التلامذة الذين تربّوا في بيت الإمام عليه السلام وعلى يده ، بأفضل شكل ، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة ، والصدق والإخلاص ، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة.
فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس ، في شعورهم أو لا شعورهم ، وينقلونه الى الإجيال المتعاقبة ، وفي ذلك حفظ الإسلام.
ولا ريب أن الإمام زين العابدين عليه السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس ، فلا بدّ أنه كان يواجه منعا من الجهاز الحاكم ، أو عرقلة لعمله ، أو رقابة شديدة على أقل تقدير.
3 ـ إن الإمام عليه السلام استقطب ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرّرين ، إذ

(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( 3 : 188 ) كتاب العتق والكفارات ، ومسلم في صحيحة ( 10 : 152 ) في العتق ، والترمذي في صحيحه ( 4 : 114 ) في النذور رقم (1541) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 136 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 147

لايزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه السلام ، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشا ، فإن عددهم بلغ ـ في ماقيل ـ خمسين ألفا ، وقيل : مائة ألف ! (1).
فعن عبدالغفّار بن القاسم أبي مريم الأنصاريّ ، قال : كان علي بن الحسين خارجا من المسجد فلقيه رجل فسبّه ! فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال علي بن الحسين : مهلا عن الرجل ، ثمّ أقبل على الرجل ، فقال له : ما سُتر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ ـ فاستحيى الرجل ـ فألقى عليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم.
فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنّك من أولاد الرسول (2).
وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعيّ آخر ، عن أهل البيت ، لمّا سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكّة ، وشيخهم محمد بن الحنفيّة عمّ الإمام زين العابدين عليه السلام ، في مارواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدّثون : أنّه لما كان من أمر ابن الحنفيّة ما كان ، تجّمع بالمدينة (!) قوم من السودان ، غضبا له ، ومراغمة لابن الزبير.
فرأى ابن عمر غلاما له فيهم ، وهو شاهر سيفه ! فقال له : رباح !
قال رباح : والله ، إنّا خرجنا لنردّكم عن باطلكم الى حقّنا.
فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذا لذنوبنا (3).
وقال عبدالعزيز سيد الأهل : وجعل الدولاب يسير ، والزمن يمرّ وزين العابدين يَهَبُ الحرية في كلّ عام ، وكلّ شهر ، وكلّ يوم ، وعند كلّ هفوة ، وكلّ خطأ ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلّهم في ولاء زين العابدين (4).

(1) لاحظ بحار الأنوار ( 46 : 104 ـ 105 ).
(2) صفوة الصفوة لابن الجوزي ( 2 : 100 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 112 ) وكشف الغمة ( 2/81 ) وبحار الأنوار ( 46/99 ) وعوالم العلوم ( ص 115 ).
(3) أنساب الأشراف ( الجزء الثالث ) ( ص 295 ).
(4) زين العابدين ، لسيد الأهل ( ص 47 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 148

حقا لقد تحيّن الإمام عليه السلام الفرص ، وأهتبل حتى الزلّة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحريّة ، فكان يكافيء الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يعتق ، وأركز في خلده ، فلا ينساه.
إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام استنفد كلّ وسيلة للتحرير.
وإليك بعض الأحاديث عن ذلك :
1 ـ نادى علي بن الحسين عليه السلام مملوكه مرتين ، فلم يجبه ، ثم أجابه في الثالثة ، فقال له الإمام : يا بنيّ ! أما سمعت صوتي ؟
قال المملوك : بلى !
قال الإمام : فما بالك لم تجبني ؟
قال المملوك : أمنتُكَ.
قال الإمام : الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني (1).
2 ـ عن عبدالرزاق ، قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيّا للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه ، فشقه ، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عزوجل يقول : «والكاظمين الغيظ ».
فقال لها : قد كظمت غيظي.
قالت : «والعافين عن الناس» .
فقال لها : قد عفا الله عنك.
قالت : «والله يحبّ المحسنين » [ آل عمران «2» الآية 124 ].
قال : اذهبي ، فأنت حرّة (2).
فكأنّ هذا الحوار كان امتحانا واختبارا ، نجحت فيه هذه الجارية ، بحفظها هذه الآية ، واستشاهدها بها ، فكانت جائزتها من الإمام عليه السلام أن تعتق !
3 ـ قال عبد الله بن عطاء : أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنبا استحق منه العقوبة ، فأخذ له السوط ، فقال : « قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله »

(1) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) وشرح الأخبار ( 3 : 260 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 149

[ الجاثية (45) الآية (14) ].
فقال الغلام : وأما أنا كذلك ، إني لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه.
فألقى السوط ، وقال : أنت عتيق (1).
فلقد لقّنه الإمام عليه السلام بقراءة الآية ، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه ، فأعتقه مكافأة لذلك.
4 ـ وكان عند الإمام عليه السلام قوم ، فاستعجل خادم له شواءاً كان في التنّور ، فأقبل به الخادم مسرعا ، وسقط السفود من يده على بنيّ للإمام عليه السلام أسفل الدرجة ، فأصاب رأسه ، فقتله ، فوثب الإمام عليه السلام ، فلمّا رآه ، قال للغلام : إنك حرّ ، إنك لم تتعمّده وأخذ في جهاز ابنه (2).
ولعملية الإعتاق على يد الإمام عليه السلام صور مثيرة أحيانا ، تتجاوز الحسابات المتداولة :
ففي الحديث المتقدّم عن سعيد بن مرجانة ، وجدنا أن الإمام عليه السلام قد أعتق غلاما اسمه « مطرف » وجاء في ذيل الحديث ، أن عبدالله بن جعفر الطيّار كان قد أعطى الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الغلام « ألف دينار» أو « عشرة آلاف درهم» (3).
ففي إمكان الإمام عليه السلام أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي ، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أكثر من واحد ، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص ـ مع غلاء ثمنه ـ يحتوي على معنى أكبر من العتق :
فهو تطبيق لقوله تعالى :« لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبّون » [ سورة آل عمران (3) الآية : 92 ].
وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها !
ولعلّ السبب الاساسي هو : أن غلاء ثمن الغلام لا يكون إلاّ من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته ، وقوّته ، وغير ذلك مما يجعله فردا نافعا ، فإذا صار حرّا ، وهو

(1) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ).
(2) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ).
(3) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 150

متصف بهذه الصفات ، يفيد المجتمع ككلّ ، فهو أفضل ـ عند الإمام عليه السلام ـ من أن يكون عبدا يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصّة ، مهما كانت شريفة !
وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه السلام مشكلة الرقّ ، واستفاد منها ، في صالح المجتمع والدين (1).
وبما أنه عليه السلام كان يحتلّ موقعا رفيعا بين الاُمّة الإسلامية جمعاء :
إمّا لأنّه إمام مفترض الطاعة ، عند المعتقدين بإمامته عليه السلام .
أو لأنه من أفضل فقهاء عصره ، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه ، عند الكافّة.
أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد.
فقد كان عمله حجّة معتبرة ، وقدوة صالحة ، للمسلمين كافة ، يقتدون به في تحرير الرقيق ، ومحو العنصريّة المقيتة.
وبعد هذه الصور الرائعة :
فهل يصح أن يقال : « إن زين العابدين عليه السلام كان منعزلا عن السياسة ، أو مبتعدا عنها » وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع.

(1) وأقرأ صورا مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم ( ص 151 ـ 155 )
جهاد الامام السجاد عليه السلام 151

وأخيرا : مع كتاب « رسالة الحقوق »

إن رسالة الحقوق التي نظّمها الإمام زين العابدين عليه السلام تدل على اهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحيّة ، ورعايته لأمنه واستقراره ، وحفاظه على تكوينته الإسلامية.
وإذا نظرنا الى ظروف الإمام عليه السلام من جهة ، والى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق ، من سعة الافق وشموليته من جهة أخرى ، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبّار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرنا.
إن صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقّته وواقعيته ، لا يصدر إلاّ من شخص جامع للعلم والعمل ، مهتّم بشؤون الأُمة ، ومتصد لإصلاحها فكريا وثقافيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وإداريا ، وصحيّا ، ونفسيّا ، ولا يصدر ـ قطعا ـ من شخص منعزل عن العالم ، وعن الحياة الاجتماعية ، ولا مبتعد عن السياسة واُمور الحكم والدولة !
ولذلك فإنا نجد الرسالة تحتوي على حقوق مثل : حقّ السلطان ، وحق الرعيّة ، وحق أهل الملّة عامّة ، وحقّ أهل الذمّة ، وغيرها ممّا يرتبط باُمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية ، الى جانب الشؤون الخاصة العقيديّة والعبادية والماليّة ، وكل ما يرتبط بحياة حرّة كريمة للفرد ، وللمجتمع الذي يعيش معه ، ومثل هذا لا يصدر ممّن يعتزل الحياة الاجتماعية.
ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة ، تقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه السلام الاجتماعية ، وخاصّة من المنظار السياسي ، وما استهدفه من بيانها ونشرها.
ونقدّم هنا مقطعين هامّين ، يرتبطان مباشرة باُمور الإدارة والحياة الاجتماعية ، وهما حقّ السلطان على الرعيّة ، وحقّ الرعيّة على السلطان:
قال عليه السلام ـ في حقوق الأئمّة ـ : وأما حق سائسك بالسلطان :

جهاد الامام السجاد عليه السلام 152

فان تعلم أنّك جعلت له فتنة ، وأنّه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان.
وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لاتماحكه ، وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.
وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّه عنك ، ولا يضرّ بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله.
ولا تعازّه ولا تعانده ، فإنّك إن فعلت ذلك عققْته وعققت نفسك ، فعرّضتها لمكروهه ، وعرّضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك من سوء.
ولا قوّة إلاّ بالله
(1).
وقال عليه السلام ـ في حقوق الرعية ـ : وأمّا حقّ رعيتك بالسلطان :
فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوّتك عليهم ، فإنّه إنّما أحلّهم محلّ الرعيّة لك ضعفهم وذلّهم.
فما أولى من كفاكه ضعفه وذلّه ـ حتى صيّره لك رعيّة وصيّر حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع عنك بعزّة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلاّ بالله ـ بالرحمة والحياطة والأناة.
وما أولاك ـ إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزّة والقوّة التي قهرت بها ـ أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه في ما أنعم عليه.
ولا قوّة إلاّ بالله
(2).
إن الإمام عليه السلام في هاتين الفقرتين إنّما يخاطب من هم من عامّة الناس ـ سلطانا ورعيّة ـ ممّن لابدّ أن تربط بينهم السياسة ، إذ لا بدّ للناس من أمير ، على ما هو سنّة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية ، فلا بدّ أن تكون لهم حقوق ، وتثبت عليهم واجبات ، ترتب بذلك حياتهم ترتيبا طيّبا كي يعيشوا في صفاء ووُدّ وخير وسعادة.
والإمام عليه السلام هنا ـ يقطع النظر عن الولاية الإلهية التكوينية ، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعيا على الناس.

(1) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ 15 ].
(2) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ 18 ].
جهاد الامام السجاد عليه السلام 153

ولذلك عبّر بـ « السلطان » و « الرعيّة » ولم يفرض في السلطان ولاية إلهيّة ، وإنّما فرضها سلطة حاصلة بالقوّة والقهر ، وهذا ما يتمكّن من تحصيلة حتى غير الأئمة الإلهيين ، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاء بأنّهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة ، وأنّهم ظلّ الله على الأرض ، ولذلك يلقّنون الناس فكرة « الجبر » حتى يربطوا وجودهم بإرادة الله (1).
لكنّ الإمام السجّاد عليه السلام فرّغ الحديث عن السلطان من كلّ هذه المعاني ، وإنّما تحدّث عن حقّه كمتسلط بالقوة على الرعيّة ، فهو في هذه الحالة لابدّ أن يعرف واجباته ويؤدّيها ويعرف حقوقه فلا يطلب أكثر منها.
كما أن الرعيّة المواجهة لمثل هذا السلطان لابدّ أن تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهه ، وما يحرم عليها فلا تقتحمه ، رعاية للمصالح الاجتماعيّة العامة بشريا.
وبما أنّ السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة ، اللازمة في الولاة الإلهيّين ، فلابدّ أن يحذروا من المخالفات الشرعيّة ، كما لابدّ للرعيّة أن يحذروا من التعرّض لبطشهم وسطوتهم ، فهناك حقوق مرسومة لكلّ منهما ـ السلطان والرعيّة ـ لابدّ من مراعاتها ، حدّدها الإمام عليه السلام.
فعلى السلطان أن لا يغترّ بقدرته الموقوتة المحدودة :
1 ـ أن يكون رؤوفا رحيما بالبشر الذين استولى عليهم.
2 ـ أن يعرف قدر نعمة السلطة ، حتى يوفّق للمزيد ، حسب الموعود بالمزيد لمن شكر.
ويتنعّم بما هو فيه من فضل وسلطة.
وأما الرعيّة ، فعليها :
1 ـ أن تخلص في النصيحة للسلطان ، وتبذل الولاء في سبيل إنجاح المهمّة الاجتماعية والحكمة والتدبير من « لابدّية الأمير » في سبيل الخير.
2 ـ وأن لا تلجأ الى العداء والبغضاء حتى لا يلجأ السلطان الى العدوان والفتك ، فيحصل العقوق بين الراعي والرعيّة فيشتركان في إثم الفساد في الأرض.

(1) كما شرحنا جانبا من ذلك في بحث سابق ، لاحظ ( ص 88 ـ 91 ) في الفصل الثاني.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 154

ومن المعلوم ـ في المقامين ـ أنّ مخاطب الإمام عليه السلام إنّما هم المؤمنون بالله تعالى ، ولذا جعل كلاّ منهما « فتنة إلهية » للآخر ، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوّأه كلّ منهما.
فالحديث مع الذين لا يخالفون أمر الله ولا يعادونه ، وإنّما يسيرون موافقين للإسلام ، ويعتمدون على ما سنّه من أحكام ، ولا يضرّون بالدين ، وإلاّ فالأمر يختلف ، والحديث يتفاوت ، والحقوق تكون غيرها ، والواجبات سواها.
والحاصل : أنّ ما حدّده الإمام عليه السلام إنّما هو عن السلطان والرعية ، إذا لم يتهدّد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة ، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوّته وأنّه لا حول ولا قوّة إلاّ به.
وإلاّ ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله والاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع ، والاعتماد على قوة الله وحوله ، كما هوالحال في كلّ الحقوق الأخرى التي ذكرها في ( رسالة الحقوق ) فانه وجّه الخطاب الى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي ، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده.
وسنثبت نصّا موثوقا لرسالة الحقوق في الملحق الأوّل من ملاحق الكتاب بعون الله (1).

(1) لاحظ الصفحات ( 254 ـ 296 ) من كتابنا هذا.
جهاد الامام السجاد عليه السلام 155


الفصل الرابع

التزامات فَذَّة في حياة الإمام عليه السّلام


أوّلا : التزام الزهد والعبادة .
ثانيا : التزام البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام .
ثالثا : التزام الدعاء .
واخيرا : مع الصحيفة السجّاديّة هدفا ومضمونا .

جهاد الامام السجاد عليه السلام 156




جهاد الامام السجاد عليه السلام 157

تميزّت سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام بمظاهر فذّة ، وهي وإن كانت متوفرّة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة عليهم السلام ، إلاّ أنها برزت في سيرة الإمام عليه السلام بشكل آخر ، أكثر وضوحا ، وأوسع دورا ، مما تسترعي الانتباه ، وهي :
1 ـ ظاهرة الزهد والعبادة.
2 ـ ظاهرة البكاء.
3 ـ ظاهرة الدعاء.
فإذا سبرنا حياة الائمة عليهم السلام ، وجدناهم ـ كلّهم ـ يتميزّون في هذه المظاهر على أهل زمناهم ، إلاّ أنّها في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام تجاوزت الحدّ المألوف ، حتى كان عليه السلام فريدا في الالتزام بكل منها :
العبادة والزهد ، فقد عدّ فيهما : زين العابدين وسيد الزاهدين ، حتى ضرب به المثل فيهما.
والبكاء ، فقد عدّ فيه : من البكّائين الخمسة.
وأما الدعاء : فالصحيفة التي خلّفها تكفي شاهدا على ما نقول.
وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام عليه السلام ، ونقرأ ما خلّده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام عليه السلام ، وما استهدفه الإمام عليه السلام من اللجوء إليها بهذا الشكل المركّز.

جهاد الامام السجاد عليه السلام 158

أوّلا : التزام الزهد والعبادة

لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام عليه السلام ، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة ، حتى أصبح من أشهر ألقابه « زين العابدين » (1) و « سيّد الساجدين » (2).
والزهد ، من الفضائل الشريفة التي يتزيّى بها الرجال الطيّبون ، المخلصون لله ، الراغبون في جزيل ثوابه ، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة ، فلا يميلون الى الاستمتاع بلذّاتها ومغرياتها ، بل يقتصرون على الضروريّ الأقلّ ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل.
وقد التزم أئمّة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل ، وفي التزامهم بها معنى أكبر من مجرّد الفضل والخلق الجيّد ، فكونهم أئمة يقتدى بهم واُمثولة لمن يعتقد بهم ، واُسوة لمن سواهم ، وقدوة للمؤمنين ، يتبعون خطاهم ، فهم لو تخلّقوا بهذا الخلق الكريم ، قام جمع من الناس بذلك معهم ، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف.
فللإمام السجّاد عليه السلام في العبادة مشاهد عظيمة ، وأعمال جليلة ، وسجدات طويلة ، وصلوات متتالية ، حتى أنه كان يصلّي في اليوم والليلة « ألف ركعة » (3) وهذا يشبه ما نقل عن جدّه الإمام علي أمير المومنين عليه السلام.
وإذا نظرنا الى عصر الإمام زين العابدين عليه السلام ، والى ما حوله من حوادث واقعة واُمور جارية : أمكننا أن نقول : إن التزام الإمام بهذه العبادة ، وبهذا الشكل من السعة ، والإصرار ، والإعلان ، لم يكن عفويّا ، ولا عن غير قصد وهدف ، ولا لمجرد

(1) تاريخ أهل البيت عليهم السلام ( ص 130 ـ 131 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 237 ) عن مالك بن أنس و ( ص 235 ) عن الزهري.
(2) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص 35 ـ 37 ) من كتابنا هذا.
(3) سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وشرح الأخبار ( 3 : 254 و 272 ) والخصال للصدوق 517 وعلل الشرائع له ( ص 232 ) والإرشاد للمفيد (256) وكشف الغمة ( 1 : 33 ) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( 2 : 86 ) وفلاح السائل ( ص 244 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) وبحار الأنوار ( 46/67 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 159

حاجة شخصيّة ، وتقرّب خاص ، بل كان وراءها تدبير اجتماعي مهمّ جدّا ، إذ أنّ الامويين ـ في تلك الفترة بالخصوص ، وبعد سيطرتهم على مقدّرات العباد والبلاد ـ جدّوا في إشاعة الفساد ، وتمييع المجتمع ، وترويج الترف واللهو ، بين الناس ، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدس ، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف ، وسعيا لتخدير الناس ، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكّن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات لامبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلّفة تتخطفهم الأمم من حولهم ، لا يملكون لعدوّهم دفعا ، ولا عن ذمارهم منعا.
وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصفة حالتهم بقولها :... وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطرق وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي (1).
فأرشدهم الرسول الى المجد والعلا والكرامة والعلم.
لكنّ الأمويين ـ ولأجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس ـ أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر ، والفجور والخمور ، والظلم والخيانة ، حتى ضرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق ، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس ، وتلاعبوا بكلّ المقدّرات والمقرّرات ، وانغمسوا ـ وجرّوا الناس معهم ـ في الرذيلة واللعب ، ومعهم الجيل الناشىء من الأمة ، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية.
حتى جعلوا من مدينة الرسول الطيبّة ، مركزا للفساد.
قال أبو الفرج الأصبهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم (2) وحتى : كانت يثرب تعجّ بالمغنيّات ،.....

(1) بلاغات النساء ( ص 13 ) وانظر : فدك للقزويني ( ص 153 ) وخطبتها عليها السلام في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم لما منعها ابو بكر فدكا مروية في الاحتجاج للطبرسي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 4/78 ) ، وطرقها عديدة متضافرة.
(2) الأغاني ـ طبع دار الكتب ـ ( 8 : 224 ) ولاحظ ( 4 : 222 ) ففيه موقف مالك فقيه المدينة ، وانظر العقد الفريد ( 3 : 233 و 245 ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 160

ومن المؤسف ـ حقا ـ أن مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صارت ـ في العصر الأموي ـ مركزا للحياة العابثة ، وكان من المؤمّل أن تصبح معهدا للثقافة الدينية ، ومصدرا للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي ، إلاّ أن الأمويين سلبوها هذه القابلية ، وأفقدوها مركزيّتها الدينية والسياسية (1).
ولمّا خرج عروة بن الزبير من المدينة واتخذ قصرا بالعقيق ، وقال له الناس : قد أجفرت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! قال : إنّي رأيت مساجدهم لاهية ، وأسواقهم لاغية ، والفاحشة في فجاجهم عالية (2).
وأضاف القرطبي : وكان في ما هناك عمّا أنتم فيه عافية (3).
إنه ـ في مثل هذه الأجواء والظروف ـ ليس عفويا ، ولا عن غير هدف :
أن يظلّ الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة ، يعظ الناس ويرشدهم ، ويدعوهم الى نبذ المتع ، ويحذّرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر.
فكان عليه السلام يقول : لا قدّست اُمّة فيها البَربط (4).
لقد كان له مجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعظ الناس فيه :
قال سعيد بن المسيب : كان علي بن الحسين عليه السلام يعظ الناس ويزهّدهم في الدنيا ، ويرغّبهم في أعمال الآخرة ، بهذا الكلام ، في كل جمعة ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحفظ عنه ، وكتب ، كان يقول :
أيّها الناس ! اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون ، فتجد كلّ نفس ما عملت ـ في هذه الدنيا ـ من خير محضرا وما عملت من سوء ، تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، ويحذّركم الله نفسه [ مقتبس من القرآن الكريم. سورة آل عمران «3» الآية «30» ].
ويحك ! يابن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه !

(1) لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي (ص 670) واقرأ في الصفحات ( 665 ـ 671 ) أخبارا من ترف الأمويين ، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدسة ـ المدينة ومكة ـ.
(2) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 17 : 23 ).
(3) جامع بيان العلم ( 2/ ).
(4) لسان العرب مادّة ( بربط ).
جهاد الامام السجاد عليه السلام 161

يابن آدم ! إن أجلك أسرع شيء إليك قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكأن قد أوفيت أجلك ، وقبض الملك روحك وصرت الى قبرك وحيدا ، فردّ إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكان : ناكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.
ألا ، وإن أوّل ما يسألانك : عن ربك الذي كنت تعبده ؟ وعن نبيك الذي اُرسل إليك ؟ وعن دينك الذي كنت تدين به ؟ وعن كتابك الذي كنت تتلوه ؟ وعن إمامك الذي كنت تتولاّه ؟
ثمّ ، عن عمرك في ما كنت أفنيته ؟ ومالك من أين اكتسبته ؟ وفي ما أنت أنفقته ؟
فخذ حذرك ، وانظر لنفسك ، وأعدّ الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار.
فإن تك مؤمنا عارفا بدينك ، متّبعا للصادقين ، مواليا لأولياء الله ، لقّاك الله حجّتك وانطلق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب ، وبشّرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان.
وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجّتك وعييت عن الجواب ، وبشّرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم.
واعلم يابن آدم : أن من وراء هذا أعظم ، وأفضع ، وأوجع للقلوب يوم القيامة ، وذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ، يجمع الله عز وجل فيه الأولين والآخرين.
ذلك يوم ينفخ في الصور ، وتبعثر فيه القبور.
وذلك يوم الأزفة ، إذ القلوب لدى الحناجر ، كاظمين.
وذلك يوم لا تقال فيه عثرة ، ولا يؤخذ من أحد فدية ، ولا تقبل عن أحد معذرة ، ولا لأحد فيه مستقبل توبة ، ليس إلاّ الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات.
فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده.
فأحذروا ، أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها ، وحذّركموها في كتابه الصادق ، والبيان الناطق.
ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده ، عندما يدعوكم الشيطان اللّعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا ، فإن الله عز وجل يقول :
« إنّ الذين اتقوا إذا مسّهم

السابق السابق الفهرس التالي التالي